لبي نداء ربه الفنان الكبير محمد وردي 19 يوليو 1932 18 فبراير 2012م بعد رحلة عطاء استمرت 55 عاما جعلت أغنياته منتشرة من البحر الأحمر إلي المحيط الأطلسي. ولد محمد عثمان حسن وردي لأسرة نوبية تمتد جذورها إلي كشاف النوبة وحكامها منذ العثمانية، حيث نزح جدهم الأكبر من قوصوة كوسوفو «البوسنة والهرسك البشناق» ولد وردي في بيئة خلابة الطبيعة هي صواردة، وتعلم حتي نال شهادة المعلمين العليا وعمل ردحا من الزمن معلما في شندي، كان أول من تنبأ له بمستقبل عظيم هو الفنان أحمد المصطفي عميد الفن السوداني، وبالفعل ذهب محمد وردي للإذاعة في 1959م وقدم أولي روائعه «يا طير يا طاير» كلمات الشاعر الكبير إسماعيل حسن 1982م. وفي 1958م كان وردي مع انقلاب الفريق إبراهيم عبود لكنه سرعان ما أدرك أنه يسبح ضد التيار الشعبي! واعتنق وردي اليسارية وغني للفقراء والمهمشين وعند بناء السد العالي سجن وردي في عهد عبود، وقدم وردي عدة أناشيد ثورية حتي قامت الثورة الشعبية في 21 أكتوبر 1964م وكانت أغنيته «أصبح الصبح» هي «مانفيستو» الثورة الشعبية والرمز الثوري في الغناء السوداني، ثم تصادم مع عهد جعفر محمد نميري قائد انقلاب 25 مايو 1969م بأغنيته الرمزية «بناديها» وسجن في أكبر السجون السودانية كوبر، ثم خرج من السودان غاضبًا من الوضع السياسي، ومغضوبا عليه من قادة الانقلاب الجديد في 30 يونية 1989م. وحينما سجنه نميري توسط لديه الإمبراطور هيلاسلاسي والرئيس التشادي تومبا لباي وكانت هناك نداءات دولية لإطلاق سراحه كفنان أفريقي عربي مرموق، سافر محمد وردي إلي الدول العربية والأفريقية والأوروبية وأحيا عدة حفلات ناجحة كان الجمهور خارج المسارح أكثر من داخلها حتي استادات الكرة كانت تمتلئ عند حفلاته. قدم أكثر من 100 أغنية عاطفية مشهورة والعشرات من الأغنيات الوطنية.. وزع بعض أغنياته الموزع العالمي آندريا رايدر. عاش محمد وردي في مصر من 1909 2001م أحيا عدة حفلات جماهيرية وعدة أفراح لنوبيين وسودانيين من عشاقه. وكان قد أصيب بداء الكلي حتي أجريت له زراعة ناجحة للكليتين وكانت السلطات الحكومية قد تصالحت معه بعدما شاخ الأسد وهرم وتكسرت أنيابه، وقد كرمته الحكومة السودانية في 2009 بمنحه درجة الدكتوراه الفخرية في الفنون بمناسبة اليوبيل الذهبي لمسيرته الحافلة بالعطاء لأكثر من 50 عاما. وكرمته عدة هيئات دولية منها جائزة «بابلو نيرودا» في السبعينات وعدة جوائز عربية وأفريقية وسافر للخارج سفيرا للغناء السوداني، حيث أمتع الجاليات السودانية في القارات الست بروائعه وخفف عنهم آلام الغربة ومنحهم نسمة من هواء الوطن. وفي الآونة الأخيرة كان يغني وهو جالس علي مقعد، ورغم آلامه إلا أنه كان يسعد في إدخال البهجة في أرواح الناس. الحديث يطول بنا حول وردي المطرب والشاعر والموسيقار والناقد وعاشق التراث والسياسي والاجتماعي. مطرب مسكون بالوطن، عاش وسط الناس فعاش في دواخلهم، لم يتفق السودانيون شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ووسطا إلا مع صوت محمد وردي. لقد ماتت قطعة جميلة من الزمن الجميل في السودان، قامت السودان عن بكرة أبيها تودع ابنها البار إلي مثواه الأخير يتقدمهم الرئيس المشير عمر البشير وكبار رجال الدولة والسفراء العرب والأفارقة والأجانب، وطوفان من البشر هادرة لا تتوقف عن الدعاء له بالمغفرة والرحمة كأنها تودع أحد ملوك كوش أو مروي أو سنار أو دارفور.. وتودع في نفس الوقت ذكرياتها الجميلة مع أغنياته، يخيل إلىّ أن عصافير الخريف ونسمة الوطن كانت حزينة علي فقده، وهو يهم بالرحيل «قلت أرحل» فيها لها من عبرات ساخنة ومآق دامعة وأفئدة حزينة تلك التي شهدت موكبه الأخير تزفه الطيور الخضر نحو مثواه الأخير كأنه أحد دراويش الصوفية. سلام عليه في الخالدين يا منْ يعزُّ علينا أن نفارقهم وجداننا، كل شيء بعدكم عدم