كانت شهوة الفوز بالسيطرة الحافز الأكبر لتطوير أساليب الغزو، وزيادة كفاءة وسائل التقتيل، وتوالي إنتاج الابتكارات والمعدات لتكون أشد فتكا وتنكيلا بالإنسان، وممتلكاته ومنجزاته عن وعي كامل وبإصرار عجيب علي الإضرار بالغير بلا وازع من عقل يقدر احتمال رد فعل أكثر قسوة وأشد تدميرا، أو من عذاب ضمير يوجع القلب لقتل ضحايا آمنين مسالمين لم يرتكبوا ذنبا أو جريرة. كان السلاح الأول للمغيرين الغزاة قوة جسد الإنسان، وقدرة أعضائه علي المواجهة يدا بيد، أو علي الحركة كرا أو فرا، يحمل الذراع فرعا أو حجرا أو خنجرا مسموما بديلا عن الظفر، أو سيفا أو رمحا بديلا عن الناب، ويقي صدره بدرع من جلد أو حديد. ثم تغير المعيار إلي قدرة الفرس وشجاعة الفارس، أو قدرات العربة المحملة بالسلاح لتجري فوق العجلة. وفي المقابل اتقي المستقرون شر المهاجمين بالأسوار العالية والحصون. فابتكر الغزاة رمي النار إلي أعلي الحصن من علي البعد مستخدمين طاقة توتر الشد الكامنة بحبال المنجنيق، ثم طاقة انفجار البارود يقذف كرات الحديد من مواسير المدافع لتنهار أحجار الأسوار. وبقوة البخار «1760 م» تغير معيار المناورة والهجوم من قوة اندفاع الحيوان إلي قوة الآلة الصماء، واشتدت ضراوة صراع البر بنقل القوي المتحاربة إلي الميادين خارج المدن بمدرعات من الحديد والصلب. كما اشتد صراع البحر بنقل القوات المهاجمة بقوافل البوارج البخارية حاملة المدافع. ودحرت قوة الحركة بالبخار صدور الخيول، ونبل الشجاعة في قلوب الفرسان، وهدمت مقذوفات الحديد من مدافع البوارج البحرية الحوائط الحجرية للحصون البرية. وكانت النتيجة النهائية هي تفوق العلم علي الشجاعة، وقوة العقل علي قوة البدن. وهكذا، سيطرت جماعة البشر العالمة بأسرار صناعات قوة الصلب يحركه البخار، واستخدامها بكل القسوة في القتل والدمار، علي موارد الخيرات من منتجات قارات العالم القديم، وتنقلها إلي أراضيها النائية. وتنقسم البشرية قسمين : الأول يعيش في رفاهية الغني بالاستغلال الظالم للبعض، والثاني يعيش مهانة فقر القهر بالقوة الغاشمة. الصراع بالطائرات وباكتشاف الطيران انتقل الصراع إلي السماء بالطائرات، ومن خارج المدن إلي قلبها في حروب عالمية عابرة للقارات. بسبب التنافس الشرس فيما بين الأقوياء من الدول الصناعية للسيطرة علي موارد الدول المستضعفة المتخلفة في قاراتي أفريقيا وآسيا. وكان اكتشاف أسرار القوة الهائلة المنبعثة من تحول جزء من مادة الذرة إلي طاقة سببا في تميز بعض الدول الصناعية إلي دول كبري، كما كانت سببا في المأساة الكبري التي تعيشها الإنسانية حاليا. فبعدما نجحت العسكرية اليابانية في توجيه ضربات موجعة للجيوش والأساطيل الأمريكية، حملت طائرة أمريكية في عام 1945 م أول قنبلة ذرية لتلقيها علي مدينة هيروشيما اليابانية فتقتل ستين ألفا من البشر في لحظة انفجارها، ثم تعود وتكرر المذبحة بقنبلة أخري علي مدينة ناجازاكي. ونجحت شهوة الثأر والانتقام والحرص علي الفوز وفرض الهيمنة علي الغير في الاندفاع بالقسوة المفرطة لفرض الاستسلام علي المقاومين، وبذلك انتهت الحرب العالمية الثانية باستسلام من حرص علي حياة البشر الأبرياء من شراسة المنتقم الجبار صاحب الأنياب النووية. وعادت الإنسانية تحلم بالسلام، وبعث عمل الضمير في علاقات الأفراد ليصبح ضميرا عاما بين الأمم. وأن تقوم بدوره منظمة للأمم المتحدة هدفها صون حياة الإنسان في كل مكان، والتدخل لحل جميع الصراعات بعدل السلام وقوة القانون الدولي، بدلا عن قوة الردع الذرية، و تحجيما للشطحات الفردية المرضية. حرب ذرية وأخري باردة وتحول صراع السيطرة بنيران الحروب الذرية إلي حرب باردة وأصبح التنافس بين فكرتين مؤسستين للأنظمة السياسية والاقتصادية للدول في النظام العالمي. كان الاختيار الأول لفكرة تطبيق العدل لتحقيق السلام بين الأفراد، ومن ثم بين الشعوب ممثلة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية. واختارت الفكرة الثانية الولاياتالمتحدةالأمريكية طريق الحرية الفردية وإطلاق التنافس بين الجميع أفرادا وشعوبا ودولاً. وتحت مسمي الحرب الباردة قامت حروب صغيرة كثيرة متناثرة حول العالم خاضتها القوتين العظميين علي أراضي غيرها من الدول، وسلاحها المؤامرات علي الأنظمة غير الموالية لأحد المعسكرين، والاغتيالات الغامضة لرموز الاستقلال يخطط لها عملاء المخابرات بجمع المعلومات والأسرار الشخصية، واستخدامها في السيطرة الاقتصادية علي مناطق إنتاج الخامات، وأسواق توزيع المصنوعات، بهدف تكريس انقسام العالم إلي مجتمع من طبقتين : سادة أغنياء مرفهين، وعاملين بأجر لديهم. وأذكر في أوائل الستينات، وأثناء أزمة الصواريخ الروسية في كوبا، أن الرئيس السوفييتي خروشوف دق علي منصة مقعده في الأممالمتحدة "بالجزمة" متوعدا الولاياتالمتحدة ويصفها بأنها "نمر من ورق؟"، من قبيل التهوين. لكن النظام السوفييتي خسر الحرب الباردة في أوائل التسعينات لأسباب عديدة، لعل أهمها أن يصل إلي قمة النظام الاشتراكي من لا يؤمن بفكرة العدل والمساواة أمام قانون الأغلبية. وانهار حائط برلين، وتفككت أوصال اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية. واستأسد النمر الورق؟ ولف زئيره العالم، ينادي بفرض مبادئ نظامه القيمي والاجتماعي والاقتصادي علي العالم كله. مخيرا البشر : إما التسليم بوحدانية الإرادة الأمريكية في تطبيق النموذج الأمريكي «العولمة» أو تحمل أعباء الفوضي الخلاقة، كتطوير - أمريكاني!! - لمبدأ ثورة العمال ضد ظلم استغلال رأس المال!. وفي رأيي أن النظام السوفييتي القديم قد فشل، وأن النظام الأمريكي الحديث سوف يفشل، لأنهما يحملان في قلبيهما جرثومة الانهيار، وهي الظلم. أو شعور الغرور الذي يصيب النفس لحظة الانتصار، فتسرف في قهر الآخر بهدف كسر إرادته. فعلها السوفييت ضد الأفراد، ويفعلها الأمريكان ضد الحكومات. فيكون ذلك حافزا لتوحد الإرادات في مواجهة القهر، وتقاومه بالموت.