كشفت لنا مظاهر الزمن الحاضر عن فارق جلي بين ما تتسم به العلوم الطبيعية من تقدم تصاعدي ذي اتجاه رأسي يفضي إلي نبذ النظريات والتطبيقات العلمية القديمة لصالح المستحدث منها بينما يتم تنحية القديم جانبا ليعاد تدويره أو يوضع في المتاحف. علي الطرف المقابل نجد الفنون والعلوم الإنسانية علي تباين أشكالها تنحو نحو التنوع المتعدد المفتقر لمعايير المفاضلة، فتتجاور مذاهبها عبر تراص أفقي ممتد خارج التعاقب الزمني يتساوي فيه إبداع رسام العصر الحجري مع رسام العصر الحديث من حيث القيمة الإبداعية، فيقف هوميروس وشكسبير وتولستوي جنبا إلي جنب علي مستوي واحد من أصالة التركيب التعبيري.. ومع التنامي التراكمي لهذا الزمن من منجزات الفن بين أيدينا اليوم، انفسح الطريق أمام الجمع العشوائي بين منتجات الفن المتناقضة بهدف احتوائها ومعايشتها وتذوقها جميعا تحت ما يعرف بما بعد الحداثة، ولعلنا نلمس هذا في حياتنا اليومية من ميل إلي الخلط بين الطرز المختلفة للأثاث المنزلي وهو ما نلقاه أيضا في أزياء واكسسوار الموضات النسائية وذلك من أجل بعث المزيد من الدهشة والحيوية بالمزج بين القديم والحديث. هذا الانفتاح المعاصر الديمقراطي النزوع لتعدددية الأذواق دون الحاجة إلي أحكام معيارية، يصنف بها الأعلي ويفصل عن الأدني شأنا، هو سمة تطبع هذا العصر تحديدا، وهو ما يدعونا إلي التساؤل عن موضعنا من تطور السلم الحضاري اليوم؟ فهل نحن مقبلين علي عصر انحدار تدريجي ينحو نحو هجمية جديدة تدشنها فوضي القيم المعيارية وتحجب حقيقتها وفرة التطبيقات التكنولوجية؟ أم هو إعداد حاشد لوثبة نحو رقي حضاري أكثر رفعة وسموا؟ هذا أجد نفسي مرغما علي استنطاق الإجابة لدي من هم علي دراية أعمق بشئون الحضارة وفلسفة التاريخ من المفكرين القريبي العهد من أمثال البرت شفيتزر الذي أكد الجانب الخلقي من الحضارة، وفريدريك نيتشه المنادي بمبدأ الإنسان الأعلي، وأخيرا أوزفالد شبنجلر، والأخير أكثرهم أهمية في اعتقادي لنظرته الموسوعية الثاقبة في الكشف عن معضلات الفن التشكيلي، وذلك رغم تعرضه للتجاهل المتعمد لاحتواء مؤلفاته علي تأييد لمبادئ النازية، والحفاظ علي نقاء العنصر الجرماني. وملخص نظريته، في تعاقب مرحلتين رئيسيتين علي كل الحضارات، الأولي هي مرحلة الربيع الحضاري، حيث يتدفق مجري الشعور منقادا بالخيال ذي العواطف المشبوبة، فيندفع إلي تشكيل الصور الأولية لأساليب الفن وللأنساق الدينية والفلسفية والأخلاقية التي تختص بها هذه الحضارة علي وجه التحديد، وبعدما تبلغ أوج نضجها تتلوه مرحلة الخريف الحضاري، التي ينعتها بالمرحلة المدنية، حيث تتسع المدن وتتضخم علي حساب الريف المستنزف، ولأن المدن غير قادرة علي الإبداع الحق ومجرد مستهكلة ومنفذة لإبداعات المرحلة السابقة علي مقاييس هائلة، ومع تضائل الخيال والوجوان الحي المبدع، يحل العقل التحليلي والتنظير العلمي لثوابت الطبيعة محل تحولات التاريخ العضوية والمشاعر الحارة الدائمة النمو، لتتحول إلي منظومات ثابتة من الفكر التجريدي البارد ومن ثم يتوقف التاريخ أو يكاد بالنسبة لهذه الحضارة حتي تخبو وتنطفئ تماما. مثل هذه النظرية عن توقف التاريخ، أو انتهائه، ليست بالاستثناء الشاذ في الفكر المعاصر بل قد سبق أن أعلن هيجل عن توقف التاريخ بعد وصول جدلية الوعي الإنساني إلي الفكرة المطلقة، ثم أعاد المفكر المعاصر فرانسيس فكوياما صياغة نفس هذا التصور عن نهاية التاريخ، وهذا المفهوم عن توقف التاريخ لا يعني توقفا لتواتر الأحداث، المهم منها والتافه، أو توقف البشر عن التوالد والتكاثر، ولكن المقصود هنا توقف أي تطور لاحق يتعلق بالمبادئ والعقائد والمؤسسات الرئيسية التي توصل إليها مبدعو هذه الحضارة. يمثل هذا الثبات عند شبنجلر أخص خصائص مرحلة المدنية لأي حضارة، حيث إن اكتمال نضج الحضارة يجعلها لا تستطيع تحقيق المزيد من مراحل النمو بل تتجه ببطء إلي الشيخوخة والفناء، ويتزامن مع هذه المرحلة بل يتصدر صورتها تضخم المدن الكزموبلولتانية العملاقة علي حساب امتصاص قوي الريف باستهلاك ثروته من الخامات والغذاء والبشر علي السواء فتتسع المدن وتتزايد اكتظاظا علي الدوام ببشر من جميع الأعراق والاجناس والطبقات، لا تجمعهم فيها انساب أو تقاليد أو عقائد، بل المصالح الاقتصادية والمنافع المادية السريعة المتبادلة، ومع تباين هذا الحشد من البشر، تتعدد بالتبعية جميع الأذواق مما ورثته هذه الحضارة عبر تاريخها وما اقتبسته من حضارات أخري. ذلك هو وضع الحضارة عندما تشرف علي مرحلة المدنية، فتصاب بالعقم والجدب الروحي ويذوي خيالها الإبداعي، بينما كل خبرات أجيالها السابقة تزودها بوسائل التقنية القادرة علي تسجيل ونشر التراث وتقديمه كحاضر يمكن استهلاكه. هكذا ومن هذه اللحظة، وحتي آخر المدي تنبثق داخل المدنية المتأخرة زمنا، حنينا جارفا إلي الماضي ونزوع عميق للبدايات الأولي، بل شعور جارف بالذنب والندم علي مفارقة التقاليد والتباعد عن النوازع الأصلية، وسرعان يتزايد الجوع إلي ما هو غيبي، ويعود ليتصدر الواجهة، فيسترجع الدين كل بساطة ومثالية الربيع الحضاري ومعه تعود أيضا المعتقدات الغامضة الخاصة بضروب السحر والشعوذة من تنجيم وقراءة للطالع وبالطبع طرق الحماية من تلك القوي الخفية، كما تميل جميع العلوم الإنسانية إلي العودة لمراحل أبكر، ويركن الفن تذوقه للتراث، والافتخار به وإعادة أحيائه وصياغته ليواءم التقنيات المعاصرة وهذا يستدعي بالتبعية فكرة الصراع ثم التوفيق بين التراث والمعاصرة، وعلي هذه الخلفية تنشأ المذاهب التوفيقية والتلفيقية مع هذا الجدل تكتسب أيضا فكرة الوسطية، وجلب التوازن الأهمية ذاتها التي لأطراف التناقض القصوي، ولكن من استعادة وإعادة بناء ما كان في الماضي أشكالا حية نامية مزدهرة في بيئتها الأصلية الصحيحة والملائمة، أصبح الآن ابنية متيبسة يتم عرضها عبر خبرة مكتسبة خلال لحظة زمنية مختلفة الرؤية، وبالطبع يتعرض جوهر هذا التراث إلي تحولات شتي، تتباين درجاتها في التشويه بالمبالغة في تقدير نواحي ما، أو التهوين من أمرها، أو باساءة فهمها بتحميلها بمعان أخري، فنشاهد أعمال قد زج فيها بالكثير من الرموز أو الإشارة إلي الاساطير، وقد اقتطعت من سياقها الأصلي، وأخيرا اللجوء إلي أساليب وتقتنيات المدارس القديمة، كمجرد مناهج ثابتة ومهارات محفوظة دونما التفات إلي تداعياتها العقائدية التي أوجدتها في الماضي، وقد يصل الأمر إلي إعادة اجترار الكثير من أشكال الفن بصورة مختلفة تهدر قيمته الأصلية، كما أوضح هربرت ماركيوز في نقده لمجتمع الإنسان ذو البعد الواحد، فعلي حد قوله، ينحدر الفن والثقافة بعامة عن مستوي رسالتهما السامية ليصير الفن مجرد مادة استهلاكية لثقافة جماهيرية متدنية، ويمكننا مطالعة هذا الانحطاط في إعادة توزيع الكثير من الأعمال الموسيقية الكلاسيكية إلي مجرد موسيقي خفيفة ترويحية، أو اقتطاع أجزاء منها والصاقها بإعلانات السلع الغذائية والمصنوعات الاستهلاكية الرخيصة. نفس الشيء قد حاق بلوحات الفن الكلاسيكي ورفاقها من مسرحيات والروايات الخالدة فيعاد اقتباسها وتقديمها بصورة ساخرة بعد تفريغها من مضامينها الجادة لتستخدم كمادة استهلاكية في المميديا الترفيهية والدعائية، وقد يحجب الانتشار الجماهير بالثقافة مدي اتضاع وضعها الحالي، ولكن هذه الغشاوة تزول إذا ما ادركنا أن هذا الانتشار لا يعبر عن ثقافة ديمقراطية حقه بقدر ما يعبر عن انحطاط الثقافة إلي مجرد بضائع ومنتجات مألوفة لدي الجميع ولا تؤدي دورها الاجتماعي الحقيقي، أو تساهم في رفع الوعي الفردي، كما هو منتظر منها.