في يوم 10 فبراير ، رحل الفريق سعد الدين الشاذلي ، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في حرب 1973، وقد قدر له أن يشهد ثورة 25 يناير دون أن يمهله القدر نفسه أن يشهد تنحي مبارك وسقوط دولة الظلم التي قادها رجال فاسدون حول المخلوع ، 37 عاما من الظلم عاشها الفريق سعد الدين الشاذلي في ظل نظامين، أقصاه الأول عن منصبه وزور التاريخ من أجل مجده الشخصي ، وسجنه الثاني بتهمة افشاء أسرار عسكرية بعد نشر مذكراته عن حرب اكتوبر والتي قال فيها الحقيقة كاملة كما عاشها رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية ، ورئيسا للواء حسني مبارك قائد القوات الجوية ، واحتفالا بمرور 38 عاما علي نصر اكتوبر العظيم ، اعادت السيدة زينات متولي السحيمي زوجة الفريق سعد الشاذلي طباعة كتاب " حرب أكتوبر.. مذكرات الفريق الشاذلي " والذي صدرت طبعته الثالثة قبل أيام عن دار " رؤية " للنشر والتوزيع، ملحقا بها تعليقات النقاد بخصوص الاتهامات التي وجهت للشاذلي مع الرد عليها بالإضافة الي مجموعة من الخرائط تنشر لأول مرة .. " علي الرغم من صدور كتب كثيرة عن حرب أكتوبر 1973 بين العرب واسرائيل، فمازالت هناك الكثير من الحقائق الخافية، التي لم يتعرض لها أحد حتي الآن، كما أن ثمة حقائق أخري قام بعضهم بتشويهها، أحيانا عن جهل، وأحيانا أخري عن خطأ متعمد لإخفاء هذه الحقائق، ومن بين الموضوعات التي مازالت غامظة تبرز التساؤلات الآتية : لماذا لم تقم القوات المصرية بتطوير هجومها نحو الشرق بعد نجاحها في عبور قناة السويس، ولماذا لم تستول علي المضائق في سيناء؟ هل حقا كان ضمن تصور القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية أن يقوم العدو بالاختراق في منطقة الدفرسوار بالذات، وأنها أعدت الخطة اللازمة لدحر هذا الاختراق في حالة وقوعه ، وإذا كان هذا حقيقيا ، فلماذا لم يقم المصريون بالقضاء علي هذا الاختراق فور حدوثة ؟ كيف تطور اختراق العدو في منطقة الدفرسوار يوما بعد يوم وكيف كانت الخطط التي يضعها العسكريون تنتقد من قبل رئيس الجمهورية ووزير الحربية ؟ من المسئول عن حصار الجيش الثالث ؟ هل هم القادة العسكريون أم القادة السياسيون ؟ كيف أثر حصار الجيش الثالث علي نتائج الحرب سياسيا وعسكريا ، لا علي مصر وحدها بل علي العالم العربي بأسره ؟ عندما بدأ الفريق سعد الدين الشاذلي كتابة مذكراته في اكتوبر 76 أي بعد 3 سنوات من حرب اكتوبر 73 لم يكن يهدف إلي كشف أكاذيب السادات التي عمد إلي تأليفها جزافا بعد أن وضعت الحرب اوزارها، بل كان هدفه الأول حسب رواية الشاذلي نفسه إعطاء صورة حقيقية للأعمال المجيدة والمشرفة التي قام بها الجندي المصري في هذه الحرب . إن من المؤسف حقا أن السادات ورجاله لم يستطيعوا تقديم هذه الحرب في الإطار الذي تستحقه كعمل من أروع الأعمال العسكرية في العالم . لقد عمدوا إلي الكلمات الإنشائية والبلاغية دون الاستعانة بلغة الأرقام والتحليل العلمي للعوامل المحيطة بها . جاءت مذكرات الشاذلي في سبعة أبواب، أضاف عليها بابا ثامنا مع الطبعة الرابعة التي صدرت في يوليو 1998 ، وهو الباب الذي ضم تعليقات النقاد والرد عليها وشمل أربعة موضوعات هي أسرار الدولة وأسرار الحكومة ، وتطوير الهجوم نحو المضايق، وأسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار، مختتما الكتاب بالاخطاء القيادية الجسيمة وملحقا به عدد من الخرائط عن معركة الدفرسوار وتطورات الموقف فيها ، ورسم تخطيطي يبين الساتر الترابي الذي بناه العدو علي طول الشاطئ الشرقي لقناة السويس ورسم آخر يبين أسلوب العدو في إشعال النيران علي سطح المياه . ولنستعرض الآن ماجاء في كتاب الفريق سعد الدين الشاذلي عن حرب أكتوبر 1973 حسب الطبعة الثانية الصادرة قبل أيام عن دار" رؤية" للنشر . سنعرض من المذكرات، أجزاء تهم القارئ، وتكشف خبايا، قضايا شائكة. الخطة الهجومية لحرب أكتوبر لم نكف عن التفكير في الهجوم علي العدو الذي يحتل أراضينا حتي في أحلك ساعات الهزيمة في يونية 1967 لقد كان الموضوع ينحصر فقط في متي يتم مثل هذا الهجوم وربط هذا التوقيت بإمكانات القوات المسلحة لتنفيذه . وفي خريف 1968 بدأت القيادة العامة للقوات المسلحة تستطلع إمكان القيام بمثل هذا الهجوم علي شكل "مشاريع استراتيجية" تنفذ بمعدل مرة واحدة في كل عام، وقد كان الهدف من هذه المشاريع هو تدريب القيادة العامة للقوات المسلحة بما في ذلك قيادات القوات الجوية والبحرية والدفاع الجوي، وكذلك قيادات الجيوش الميدانية وبعض القيادات الأخري علي دور كل منها في الخطة الهجومية . لقد اشتركت أنا شخصيا في ثلاثة من هذه المشاريع قبل أن أعين رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة أعوام 1968، 1969، 1970 . وقد جرت العادة علي أن يكون وزير الحربية هو المدير لهذه المشاريع، وأن يدعي رئيس الجمهورية لحضور جزء منها، لكي يستمع إلي التقارير والمناقشات التي تدور خلالها، وقد استمرت هذه المشاريع خلال عامي 1971، 1972 أما المشروع الذي كان مقررا عقده في 73 فلم يكن إلا خطة حرب أكتوبر الحقيقية التي قمنا بتنفيذها في 6 أكتوبر 1973 . وعندما عينت رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية في 16 من مايو 1971، لم تكن هناك خطة هجومية، وإنما كانت لدينا خطة دفاعية تسمي "الخطة 200" وكانت هناك خطة تعرضية أخري تشمل القيام ببعض الغارات بالقوات علي مواقع العدو في سيناء ولكنها لم تكن في المستوي الذي يسمح لنا بأن نطلق عليها خطة هجومية، وكانت تسمي "جرانيت" . بدأت عملي بدراسة إمكانيات القوات المسلحة الفعلية ومقارنتها بالمعلومات المتيسرة عن العدو بهدف الوصول إلي خطة هجومية تتماشي مع إمكانياتنا الفعلية، وقد أوصلتني تلك الدراسة إلي أن قواتنا الجوية ضعيفة جدا إذا ما قورنت بقوات العدو الجوية، وأنها لا تستطيع أن تقدم أي غطاء جوي لقواتنا البرية إذا ما قامت هذه القوات بالهجوم عبر أراضي سيناء المكشوفة، كما أنها لا تستطيع أن توجه ضربة جوية مركزة ذات تأثير علي الأهداف المهمة في عمق العدو . أما الدفاع الجوي فلا بأس به فهو يعتمد علي الصواريخ المضادة للطائراتSAM ولكن وللأسف الشديد هذه الصواريخ دفاعية وليست هجومية، إنها جزء من خطة الدفاع الجوي عن الجمهورية، وهي لذلك ذات حجم كبير ووزن ثقيل وتفتقر إلي حرية الحركة . أما قواتنا البرية فتتعادل تقريبا مع قوات العدو . لقد كان لدينا بعض التفوق في المدفعية في ذلك الوقت ولكن العدو كان يختبئ خلف خط بارليف المنيع، والذي كانت مواقعه قادرة علي أن تتحمل قذائف مدفعيتنا الثقيلة دون أن تتأثر بهذا القصف، وبالإضافة إلي ذلك فقد كانت قناة السويس بما أضافه العدو إليها من موانع صناعية كثيرة تقف سدا منيعا آخر بين قواتنا وقوات العدو . لكل هذه الأسباب، تأكد لي أنه ليس من الممكن القيام بهجوم واسع النطاق يهدف إلي تدمير قوات العدو وإرغامه علي الانسحاب من سيناء وقطاع غزة، وأن امكانياتنا الفعلية قد تمكننا إذا أحسنا تجهيزها وتنظيمها من أن نقوم بعملية هجومية محددة تهدف إلي عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف ثم التحول بعد ذلك للدفاع، وبعد إتمام هذه المرحلة يمكننا التحضير للمرحلة التالية التي تهدف إلي احتلال المضائق، حيث إن المرحلة الثانية سوف تحتاج إلي أنواع أخري من السلاح وإلي أسلوب آخر في تدريب قواتنا، وقد كانت فكرتي في القيام بهذا الهجوم متأثرة بعدة عوامل رئيسية تشمل ضعف قواتنا الجوية، وقدرات صواريخنا المضادة للطائرات بالإضافة إلي الرغبة في أن نرغم اسرائيل علي قتالنا تحت ظروف ليست مواتية لها ، وكان العامل الرابع الذي أثر علي تفكيري، أنني أدرك تماما أن "تعلم الحرب" لا يتم إلا بواسطة الحرب نفسها، أي أن ميدان المعركة هو أنسب الأماكن لتدريب الرجال علي فنون الحرب . إدارة العمليات الحربية في الساعة الواحدة ظهر يوم 6 أكتوبر ، وصل رئيس الجمهورية ومعه وزير الحربية إلي المركز 10 ودخلا غرفة العمليات حيث كل فرد في مكانه منذ الصباح . كان الوقت المحدد لعبور الموجة الاولي من المشاة هو الساعة الثانية والثلث ولكن كان هناك الكثير من المهام الأخري التي يجري تنفيذها قبل ذلك . ولعل أهم هذه المهام هو قيام قواتنا الجوية بتوجيه ضربة جوية إلي مطارات العدو ومراكز قيادته ومناطق حشد مدفعيته في سيناء وقد اشترك في هذه الضربة الجوية أكثر من 200 طائرة عبرت خط القناة علي ارتفاع منخفض جدا في الساعة الثانية ظهرا. وبمجرد عبور قواتنا الجوية لخط القناة بدأت مدفعيتنا عملية القصف التحضيري المكثف علي مواقع العدو شرق القناة وفي الوقت نفسه تسللت عناصر استطلاع المهندسين وعناصر من الصاعقة إلي الشاطئ الشرقي للقناة للتأكد من تمام إغلاق المواسير التي تنقل السائل المشتعل إلي سطح القناة . وبينما كنا ننتظر جميعا خبر عبور المشاة، وصلت المعلومات بتمام عبور الموجة الأولي ثم بدأت الموجات التالية للمشاة تتوالي وفي توقيتات تتطابق تماما مع توقعاتنا . وبعد أن اطمئن الرئيس بهذه الأخبار السارة انسحب هو ووزير الحربية من غرفة العمليات للراحة ، وفي حوالي الساعة السابعة مساء غادر الرئيس المركز 10 عائدا إلي قصر القاهرة . لقائي باللواء حسني مبارك بعد إقالتي كان يوم 13 من ديسمبر هو عيد زواجي فأقنعت نفسي مساء يوم 12 أن أقضي ليلة بالمنزل . وحيث إنني أشك فيما يدور حولي كله فقد أخذت معي قبل أن اغادر المركز أوراقي كلها ومذكراتي الخاصة . لم يدر بخلدي قط وأنا اترك المركز 10 في الساعة الخامسة يوم 12 من ديسمبر 1973، وأن تلك الساعة هي نهاية خدمتي بالقوات المسلحة المصرية، ومع ذلك فإن الحاسة السادسة قد دفعتني إلي أن آخذ معي أوراقي المهمة ومذكراتي جميعها . وقد صدق حدسي حيث إنني وجدت أن ادارة المخابرات الحربية قد قامت بواجبها علي الوجه الأكمل . وفي الثامنة من نفس اليوم علمت ان السادات أقالني من منصبي كرئيس لأركان القوات المسلحة المصرية ، وبعدها جاءني اللواء حسني مبارك برسالة من الرئيس السادات ملخصها إن الرئيس يقدر تماما ما قمت به من اعمال في خدمة القوات المسلحة وإن الخلافات المستمرة بيني وبين الوزير أحمد اسماعيل تفاقمت وقد أصبح من الخطورة أن تستمر بهذا الشكل ، وأن تعييني سفيرا لا يعني تنزيلا من درجتي فسوف استمر بدرجة وزير وأنال راتب وبدل تمثيل الوزير، وأبلغني مبارك ان الرئيس ينوي إرسالي سفيرا إلي لندن، وهو أسمي منصب دبلوماسي يطمع فيه انسان، ولكي يؤكد الرئيس أن هذا التعيين لا يعني أي تنزيل من مقامي فإنه يرقيني إلي رتبة فريق أول . كانت خلاصة أقوالي لحسني مبارك مايلي "لو ان الرئيس استدعاني وقال لي هذا الكلام لقبلت، ولكن أن يكلف أحمد إسماعيل وهو يعلم جيدا مابيني وبينه بإبلاغي الخبر وبالصورة التي قالها، فإن هذا يعني أن الرئيس يصدق ما يقوله أحمد اسماعيل ويؤيد موقفه . لذلك فإنني أرفض مرة أخري قبول هذا العرض".