في إطار هذا أقدم الأستاذ فهد محمد نايف الدبوس من دولة الكويت علي تناول المعارض الكبري التي أقيمت في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهي: معرض لندن سنة 1851 المعروف بمعرض قصر البلور لآكل ما به من الكريستال النقي والحديد، ومعرض باريس سنة 1855، ومعرض لندن 1862، ومعرض باريس 1867، ومعرض فيلادلفيا بأمريكا 1876، ومعرض باريس 1878، ومعرض ملبورن (استراليا) 1888، ومعرض باريس 1889، ومعرض شيكاغو 1893 ومعرض جنيف 1896، وآخرها معرض باريس 1900. وكل هذه المعارض زارها رحالة عرب من مصر والمغرب العربي، وبلاد الشام، وكتبوا عنها كتبًا كاملة، أو أجزاء من كتب، أو مقالات في دوريات، ومنهم من نظم شعرا، مما يعني أن ما شاهدوه ترك أثرًا في نفوسهم، وقد ذكر المؤلف أسماء هؤلاء الرحالة، وما دونوه. والكتاب ضخم، فخم، يقع في خمسمائة صفحة من القطع الطويل العريض والورق السميك الأملس المصقول، ومحلي بصور كثيرة يقتضيها المقام، وتوضح أبعادًا في الموضوعات والصناعات، منها صور لواجهات المعارض، وأخري من داخلها، وصور الكتب التي رجع إليها، وغيرها لمؤلفيها ممن زاروا المعارض، عدا الرسوم الفوتوغرافية لعدد من العلماء المخترعين، والملوك والرؤساء والأمراء الذين افتتحوا المعارض أو زاروا أقسامها، إلي جانب رسوم آلات ومخترعات، وبإيجاز يمكن القول أن الكتاب بمادته وصوره معرض آخر. ومؤلف هذا الكتاب يبحث بدأب، ويصل إلي الخافي من الدوريات والكتب التي تنجده في مهمته، إلي جانب وعي بما يفيد، وما هو أكثر إفادة، مع حسن اقتطاف من النصوص، وجودة في التمثيل، وقد تطلب منه هذا الخضوع للزمن، فما بين أيدينا حصاد وقت طويل، وصبر وأناة. غرائب المعارض ومن اللافت للنظر في بحوث الأستاذ الدبوس، وقراءاته في الكتب التي تناولت المعارض أن أول صورة فوتوغرافية ضوئية واضحة كانت سنة 1826 لمخترعها العالم نبس، وأول غواصة صنعتها أمريكا كانت في سنة 1864، وعُرض التليفون للعالم جراهام بل عام 1876 في معرض فيلادلفيا، واستغلت الكهرباء في الإضاءة عام 1877، وكان أول مصعد كهربي عام 1889، وانتصب برج إيفل بباريس في 1889، واخترعت السيارة في أواخر القرن 19، وأول سيارة دخلت الشرق كانت للخديو عباس حلمي الثاني قبل نهاية القرن 19، ومن غرائب معرض باريس 1900 تلسكوب كبير يري الناظر فيه القمر علي بعد مسافة قصيرة. و«الرصيف المتحرك» الذي تحدث عنه أحمد زكي باشا شيخ العروبة وركبه في معرض باريس 1900 ويتحرك بقوة الكهرباء، ويسهل الوثب عليه، ويربط بين أقسام المعرض، دون أن يبذل الراكب جهدًا، وعرضت بمعرض باريس 1889 كرة أرضية بمقياس واحد من المليون من الكرة الأرضية الحقيقية، ومن غرائب معرض 1878 بباريس، ساعة دقاقة منضبطة صنعت من فتات الخبز. ويصعب أن نأتي بقدر ولو ضئيل مما عرض في هذه المعارض، وما دار حوله من حكايات، لأنه مئات الصفحات. وكان المؤلف يذكر كل من زاروا معرضًا من الرحالة العرب ويأتي من كتبهم وأقوالهم بأهم ما فيها، فإذا تتبع القارئ أقوال كل الرحالة الذين زاروا معرضًا واحدًا، فإنه يلم بمحتوياته أو بمعظمها. ففي معرض باريس 1900 يذكر الدبوس ثلاثة عشر من العرب الذين زاروه وهم: أحمد زكي شيخ العروبة، إدوارد الياس، إلكسندرا أفرينوه، سليم مكاريوس، عطية وهبي، علي أبو الفتوح، فارس نمر، محمد المويلحي، محمد عثمان الحشائشي، محمد لبيب البتانوني، نسيم خلاط، يعقوب صروف، يعقوب صنوع، فإذا طالع القارئ كلام كل هؤلاء، فكأنه رأي المعرض لأن كل واحد منهم تحدث عما أثار انتباهه، وانسرحت فيه نظراته، وبطبيعة الحال تكون اهتمامات هذا غير اهتمامات غيره، وبذلك يحيط بالمعرض ومعروضاته وذكر أوصافها. ولكن بطبيعة الحال ليس من رأي كمن سمع. والكتاب ليس عرضًا وسردًا خالصًا لما سجله الرحالة فحسب، وإنما فيه مناقشات ومراجعات، تكشف عن غزارة علم مؤلفه، فعندما قالت المقتطف إن المخترعات قام بها أوروبيون، أما الشرقيون فلم يخترعوا شيئًا، رد المؤلف قائلاً: إن محمد أيوب اخترع دراجة تسير علي الماء، وجاء بصورة للدراجة وعليها مخترعها وهي تمخر ترعة المحمودية بمصر، وتعزف السلام الخديوي من آلة موسيقية تتحرك بحركة سيرها علي مرأي من الناس، وكان مصدره مجلة الجامعة عام 1899 لصاحبها فرح أنطون. مصر والمعارض الدولية وقد دعيت مصر في القرن 19 إلي معارض دولية عديدة في باريس وفيينا وفيلادلفيا. وكان القسم المصري زمن الخديو إسماعيل مشرفًا، وزاره ملوك ورؤساء أوروبا وملايين المتفرجين، وفي معرض فيلادلفيا حصلت مصر علي جائزة لجودة القطن المصري، أما المعارض التي دعيت إليها مصر بعد الخديو إسماعيل فكانت غير لائقة بمصر، وموضع انتقاد المصريين مثل «علي أبوالفتوح» ويعقوب صروف. والآن يذهب عرب كثيرون إلي كل أصقاع الأرض، ولكنهم لا يعدون أنفسهم رحالة، يأتون بعد الأسفار ليكتبوا انطباعاتهم، ويبدو أن زمن الرحالة انتهي، وهذا راجع إلي التقدم العلمي، فعن طريق القنوات الفضائية يستطيع المشاهد العادي أن يقوم برحلة حول العالم يشهد فيها ما يرغب فيه وهو مضطجع في مكانه، لقد صرنا جميعًا رحالة ونحن في بيوتنا، بعد أن طوت القنوات الفضائية المسافات الطويلة التي تفصلنا عن أي قطر في الأرض، وصرنا نري كل شيء دون معاناة الاغتراب، ومشقات الانتقال. علي أن كتب الرحالة العرب في القرن 19 لا تحول الانتباه عن مفهوم الرحلة في العهود القديمة، فقد كانت رحلات ابن بطوطة وابن جبير وابن فضلان والعياشي وغيرهم مليئة بمعلومات عن سكان المناطق والبلدان البعيدة، وكانوا بمنزلة مستكشفين، فقد كان العلم محدودًا، والعالم مجهولاً، وكل هذا مفيد في مجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية، أما الرحلة إلي أوروبا من أجل زيارة المعارض فقد كانت عبارة عن نزهة أو «فرجة» وليست استكشافًا، ومع ذلك فإن أخبار العلم التي كتب عنها الرحالة طالعها القارئ العربي وهو جياش العقل، ثم حدثته نفسه بامتلاكها، وأثارت شغفه إلي استخدامها، وصار يتقبل بعد ذلك كل جديد، وكتاب الأستاذ الدبوس الذي بين أيدينا فياض المعارض، زاخر بالمعلومات، وتراجم الرحالة، وعبارته علمية تلائم الموضوع الذي تحدث فيه.