نهاية العام بالنسبة لكثيرين قد تكون نهاية أوقد تكون بداية.. إنها لحظة موت وحياة في الوقت نفسه، وهذا ما لاحظته عين هاري مارشال في فيلمه الأخير «حفل نهاية العام» الذي يقدمه لنا هذا الموسم.. بعد أن قدم لنا العام الماضي رؤيته عن أعياد الكريسماس.. فاتحا ملفا عامرا بالأحداث والشخصيات، ولكن من دون شك فإن آخر يوم في السنة يختلف تماما عن الفرحة بعيد الميلاد، لأنه يدفع المرء رغما عنه إلي استعراض ما فات من عمره، ما قام به وما لم يقم، ما فعله بالآخرين وما فعله الآخرون معه، إنه يفتح دون شعور منه دفتر الحياة ليقرأ سطوره التي بدأت بالاختفاء وينظر بأمل إلي سطور جديدة بدأت تكتب علي صفحة عمره. هذا التأمل الذي تختلط فيه ميتافيزيقية خاصة وأحلام كثيرة وإحباطات مؤلمة هوالنسيج الذي اختاره مارشال.. ليقدم فيه فيلمه الجديد جامعا شخصيات من أعمار مختلفة وأحداثا تكاد تصل إلي درجة التناقض ورؤية شاملة أحاطها بسياج من إنسانية مازالت تأمل في أعماق قلبها بعودة الحب والسلام إلي هذه النفوس التي مزقتها الأحداث وكادت تبعدها عن إنسانيتها. الموت والحياة.. الحب والغدر.. الحلم والواقع، الشباب والشيخوخة الظلم والتسامح.. كل ذلك يطل علينا باستحياء في فيلم «مارشال» الذي أراد أن تدور أحداثه في ليلة واحدة.. وفي شارع كبير من شوارع نيويورك.. حيث يتجمع الآلاف لوداع سنة وإشراق فجر جديد من خلال كرة مشتعلة تصعد إلي عنان السماء وتضيء الظلمة مبشرة بشروق متجدد. هذا الضابط السابق الذي امتلأت حياته بحروب قاسية اعتدي بها علي الناس وأطلق النار ونشر الموت يعيش آخر لحظاته علي سرير المرض لا يقف أحد إلي جانبه حتي ابنته الوحيدة.. إنه يجتر ذكرياته البعيدة ويحاسب نفسه. ويكتشف أمام الموت الذي يقترب منه ألا شيء يدوم ولا شيء له أهمية سوي التآلف ونبضات القلب والرحمة.. هذه الرحمة التي لم يعرف كيف يقدمها للآخرين، والتي يسعي إليها الآن وهوعلي فراش الموت دون أمل، ترعاه فقط ممرضة سوداء.. تذكر زوجها الجندي الذي يحارب بعيدا في بلد غير بلده، ترتدي أجمل ثيابها وتقف أمام جهاز التليفون المصور الذي يصلها بزوجها لتذكر له علي البعد كم تحبه، وليذكر لها عذاب البعد والقهر الذي يعانيه في حرب لا جدوي منها. أنضج اللحظات روبرت دي نيروفي دور الضابط الذي يواجه الموت وهال بري في دور الممرضة السوداء يقدمان أنضج لحظات الفيلم وأكثرها تأثيرا.. وامتلاءً بالأبعاد الرمزية والنفسية والاجتماعية والتي عرف الممثلان القديران كيف يعبران عنها بقوة وسلاسة ويخطفان الأضواء من كثير من الشخصيات الأخري التي تعاقبت علينا في هذا الفيلم الذي أراد أن يجمع كل شيء في باقة واحدة مزدهرة بالضياء، اشتون كتشنر الممثل شديد الوسامة والذي يصعد بثقة أدراج نجومية يستحقها بلعب دور رسام كاريكاتير.. يائس من مجتمعه وزيفه ومن إهمال الكل له ومن موهبته التي لا تجد منقذًا لها يثور علي هذه الاحتفالات التافهة في رأيه.. ويرمي بالبالونات والأوراق الملونة التي تزين بيته، ويقرر الخروج إلي الخلاء، ولكنه يسجن في المصعد الذي تعطل فجأة به، وبجارته المغنية الشابة التي ستخوض أول تجربة مهمة في حياتها وذلك بالغناء أمام الجماهير المحتشدة في «تايمز سكوار» برفقة مغن له شعبية مفرطة.. ولكنها تجد نفسها حبيسة مع شاب بائس.. تحمل بقايا حلم تحطم، وهناك هذا المطرب الشهير الذي أضاع فرصة عمره حين غدر بالفتاة التي يحبها والتي وعدها بالزواج.. ثم تهرب من مسئوليته، وها هوالآن يحاول أن يضمد جراح الماضي وأن يستعيدها، ولكن كرامة الأنثي تقف في وجهه وتشعره بأن الزمن لا يعود إلي الوراء، وخصوصا في هذه الليلة التي تودع فيها عاما، لتستقبل عاما آخر. حلم القبلة وهناك أيضا هذه المراهقة التي تحلم بالقبلة الأولي من الفتي الذي تحبه خلال هذه الليلة المشهودة والتي تقف أمها في وجهها دفاعا عنها. إنهما جيلان يتصارعان.. جيل يدافع عن حريته وجيل مازال يؤمن أن له الحق في توجيه حياة الآخرين. هذه الأم التي ضحت بحياتها وعواطفها من أجل ابنتها والتي تركت وراءها قصة حب معلقة مع شاب وسيم وشديد الثراء أعطته وعدا غامضا بلقاء محتمل في آخر أيام السنة، وها هويعود حاملا أملا مستحيلا بلقائها.. يضطره إلي مرافقة أسرة راهب انجليكاني في السيارة التي تحمل عائلته كي يصل إلي موعده، ثم المرأتان الحاملتان اللتان تتنازعان وتتسابقان علي ولادة أول مولود في السنة كي تحصل الواحدة منهما علي الجائزة الممنوحة للطفل الوليد. أوالمرأة في منتصف العمر «ميشيل فيفر» التي تتمني تحقيق أمنيات ثلاث في نهاية العام.. يحققها لها شاب في العشرين، ليبدأ معها صلة عجيبة تستنكرها بادئ الأمر.. ثم تستسلم إليها غير عائبة بفرق السنين بينهما. شخصيات تتوالي أمامنا ومواقف مثيرة ومركبة مأساوية وضاحكة كل ذلك في تسلسل سردي بديع.. ومن خلال إيقاع لا يتوقف لحظة واحدة.. ويترك مذهولا تتابع توالي هذه الشخصيات بحلوها ومرها، تعايشها وهي تعيش هذه الليلة الفاصلة من مساء يموت وفجر يولد. استطاع المخرج أن يضع روحه السينمائية ليعبر عنه سواء بمشاهد عرف كيف يرسمها وينظمها.. أم مشاهد تسجيلية خفيفة صورها في الميدان الأمريكي الشهير عشية ليلة رأس السنة الماضية.. مما أعطي الفيلم مذاقا حقيقيا دسما. وتعاونت مجموعة من الممثلين الشباب إلي جانب جهابذة التمثيل الكبار لأداء هذه الأدوار المختلفة والتي تتناسب تقريبا كلها من مساحتها ومداها دون أن تسيطر شخصية علي أخري.. أوموقف علي موقف كل ذلك يجتمع في بوتقة واحدة وينصهر تحت نار واحدة في الفيلم يذكرنا بين حين وآخر.. بهدفه الدفين.. وهوأن الحب هوالوسيلة الوحيدة لقهر الزمن والوحدة واليأس والكآبة. حب متعدد الأوجه الحب الذي ينادي به الفيلم حب متعدد الأوجه غاضب حينا مشرق أحيانا أخري يحتوي علي رصيد من الحزن ورصيد أكبر من الأمل ولكنه يبقي دائما الحل الوحيد والممكن تجاه الكثير من العقبات والحواجز. وإذا لم يكن الحب وحده متاحا فإن هناك الأمل بالحب والفيلم يفتح في هذا المجال نافذة كبيرة متسعة ليجعلنا نعيد إيماننا بأن النجوم طلعت لتنير ليلنا وأن كرة الضوء التي نترقب صعودها للسماء لا يمكنها أن تنافس القهر الغائب.. قدرها تريد أن تذكرنا به.. وبوجوده معنا وإن أسدلنا عليه نجوما سوداء. أفلام عذبة «ليلة رأس السنة» واحد من هذه الأفلام الرقيقة والعذبة التي تمنحنا إياها هوليوود بين الحين والآخر لتذكرنا أنها مازالت قادرة رغم اكتساح أفلام الرعب والدم والخيال العلمي علي أن تقول لنا كلمة حب وأن تضيء أمامنا شعلة أمل وأن تبعث البهجة في قلوبنا، كما قالت لي صديقتنا الكبيرة والناقدة الفذة خيرية البشلاوي ولعلها أصدق كلمة تقال.. في زمن عزت فيه البهجة حقًا.