حينما صرخت أوروبا في مطلع القرن الماضي بأن تركيا أو الخلافة الإسلامية أصبحت رجلاً مريضاً، بل وتركيا نفسها وقتها صدقت هذا التشخيص راحت تهرول مباشرة نحو العلمانية وأن تخلّف الخلافة الإسلامية كان سببه الدين الإسلامي وتعاليمه غير المتوافقة مع هذا العصر. والعجيب أن وقتها انطلقت الأقلام لتؤكد وتؤيد نظرية الرجل المريض الذي ضيعته الثقافة والعلوم الإسلامية ففقد سيطرته الاقتصادية، وفقد ريادته الثقافية، وهذا ما ابتلينا به حتي وقتنا الحاضر أن بعض الأقلام المهووسة تُصر علي موقفها الأيديولوجي تجاه النظرية الدينية رغم أنهم حتي الآن لم يتوصلوا إلي حلول لمشكلاتنا التي سأشير إلي بعض منها، رغم أن الساحة الآن بسطت أياديها لهم بدون مراقبة أو متابعة أو حصار الرقيب وهم غير فاعلين أيضاً. وحالة الرجل المريض التي أطلقت علي الخلافة الإسلامية خوفاً من انتشار الإسلام بقوة في أوروبا ذكرتني بالواقع المعاش الآن في مصر رغم أن الحالتين تختلفان جملة وتفصيلاً، فمصر لا تعاني أزمة دينية، وإذا كانت أوروبا تصُدر لنا مفاهيم العلمانية والدولة المدنية وفصل الدين عن الدولة فلهم وللمصريين البسطاء أشير إلي أن هذه المفاهيم وغيرها من الموضوعات المغلوطة والشائبة كان لأهل مصر وكتّابها باع طويل وتاريخ ضارب في القدم منذ بداية الحديث عن الرجل المريض تركيا أقصد. مصر الآن مريضة بأمراض أخري غير التي كان يدّعيها الغرب علي تركيا في بدايات القرن الماضي، وغير التي كان يحض عليها الأمريكيون وهم يصورون للعالم أن الإسلام بات خطراً علي استقرار وأمن العقل والعالم، هذه الأمراض التي تعانيها مصر مصدرها نحن وليست أصابع خارجية، بل والأخطر أننا استمرأنا المماداة في المعاناة تلك دون اللجوء إلي طبيب أو مستشفي أو حتي حكمة عابرة من فم دجال أو سفيه. إن المرض الذي يعانيه الجسد المصري الآن هو انفجار المصران الأعور بلغة محلية دارجة، وبلغة طبية الزائدة الدودية، وأبرز أسبابه استدامة حالات الإمساك لدي المرء دون علاج أو حل وما أخطر انفجار المصران نتيجة هذه المعاناة. فمثلاً إذا جلست مع أحد الأطباء المغمورين في وطننا، وأنا بحكم سجيتي أمقت و أكره جلسة الأطباء بكل تخصصاتهم لأنهم يذكرونني بالشعراء الذين تحدث عنهم القرآن الكريم، فإنه سيحكي لك بسر طبي مفاده أن معاناة الإنسان من حالات الإمساك المزمن فترة طويلة ستؤدي به حتما إلي حدوث انفجار في الزائدة الدودية (المصران)، هذه النصيحة الطبية فاجأت عقلي وأنا أحاول تأمل وجه الوطن الذي بدا مشوهاً بعض الشيء، وكثيراً ما حاولت أن أبدو أكثر تفاؤلاً بالمستقبل القريب أو البعيد، لكنني كل صباح أفجع وأتوجع طويلا طويلاً بأخبار آتية من كل بقاع مصر المحروسة قادرة علي إجهاض فكرة النوم من رأسي ورأس آخرين . تماماً هذه الحالة التي تمر بها مصر الآن أشبه بمريض الإمساك المزمن الذي لم تستطع أدوية المُلينات والمهضمات أن تُريح ألمه وفشل العرافون والدجالون والأطباء المغمورون أيضاً في علاجه فانفجر مصرانه بغير ميعاد . ويكفيك أن تطالع عناوين صحيفة ورقية واحدة أو موقعاً إليكترونياً واحداً أيضاً فقط لتدرك حجم المشكلة الصحية التي تعانيها مصر الآن والتي يمكن أن نقول عن توصيفها طقس الفوضي. وهذه العبارة لا تعني فقط فوضي التصرف والسلوك المجتمعي مع الآخرين، بل تتخطي ذلك المدلول لتتعدي إلي شواطئ معرفية أخري مثل الانفلات الأخلاقي الذي أصبح السفور والعهر المجتمعي محكه الرئيس، والتجاوز القيمي السافر الذي شمل العادات والتقاليد التي تربينا عليها ويكفيك أن تنظر إلي مجموعة من الشباب والشابات لتدرك ما وصلنا إليه نتاج تربية وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي المباركي نسبة إلي المخلوع الهانئ بمحبسه بعيداً عن اختلاس الأنظار وترقب الشامتين. وربما طالع القارئ العادي أو شاهد المشاهد المنزلي أحد أتباع حزب الكنبة الصامت ما تناولته الصحافة والبرامج من ظواهر مجتمعية تؤكد مرض هذا الجسد أقصد مصر الآن، فهذا تلميذ بالصف الثالث بالمرحلة الإعدادية قام دون وازع ديني بالاعتداء جنسياً علي تلميذ آخر بالصف الأول الابتدائي والوزارة مهتمة بالتحقيق في هذه الحادثة ولم تعلم أنها مسئولة عنه بحكم كلمة التربية التي تسبق لفظة التعليم ولكن لنا الله في ذلك لا علم ولا تربية وكل من يكره شخصاً يهرول إلي أقرب قسم شرطة لتحرير محضر سب وقذف وربما تشهير، وبناء علي هذا فمن الأحري أن يقوم مبارك برفع قضايا ضدنا جميعاً لأننا قمنا بسبه وإعلان سقوطه قبل إسقاطه رسمياً، وهناك عميد كلية نسي أعراف وظيفته السامية فراح يعطي أوامر مباشرة لسائق سيارته الحكومية بدهس الطلاب داخل الحرم الجامعي، ويسألون بعد ذلك لماذا تأخر البحث العلمي في مصر ؟ أعتقد أن هذه المرة لا يمكننا أن نلقي أسباب تقهقرنا العلمي علي عاتق المرجعية الدينية، كما أن معدلات الفساد الحكومي بالهيئات والإدارات التابعة للدولة ارتفعت هذا بصورة تجعلني ألعن الميري والتمرغ في ترابه، ولا يمكننا ونحن نتحدث عن الانفلات ألا نشير إلي التعديات اللفظية علي فضيلة مفتي الديار علي إحدي القنوات الفضائية وتناول سيرته بما لا يرضيه، وإن كنت متعجباً من رد فعله، فكنت أفضل أن يرد فضيلة المفتي العالم المستنير علي التجاوزات التي طالته بالحسني لا باللجوء إلي ساحات القضاء. وبقدر ما أنا أفكر في الحلول التي يقدمها كل من هب ودب علي الفضائيات التي لا ينقطع حديثها عن المحروسة بقدر ما أنا أفكر في الطبيب الذي تحتاجه مصر الآن لينقذها من حالة الانفجار المصراني المتوقع. والطبيب قد يكون رئيساً رغم أن رئيس مصر القادم لا أظن أنه سيملك مفتاحاً سحرياً لفك شفرة الانفلات والفساد والغموض الذي ينتظر البلاد. لسبب بسيط يعيه القاصي والداني، أن كل المرشحين المحتملين للرئاسة يتحدثون عن مصر أخري غير التي أعيش فوق أرضها، ولا يزالون يفكرون بمنطق الرئيس السابق في بداية عهده بتحقيق آمال وتطلعات متناسين معظمهم الحالة الراهنة، ومنهم من أصبح مثلي يزيد الصورة سواداً وحلكة بدلاً من أن يقدم حلاً واحداً لمشكلة واحدة. ورغم أنني لا أريد أن أزيد من المشهد المعاصر سواداً إلا انني أقف متعجباً من أولئك الذين يصرون علي تدعيم بعض الرموز السياسية في انتخابات مجلس الشعب القادمة وهم في ذلك يفكرون بمنطق عصر مبارك، ولا يدركون أن هناك ثورة حدثت في مصر بالرغم من أن بعضاً من مطالبها لم يتحقق حتي الآن، وأنا شخصياً سأذهب إلي لجان الانتخاب إن شاء الله ولكن غير مقتنع بمرشح محدد لأن معظم المرشحين لا يقف وراءه برنامجاً واضحاً، فهم يصرون علي التشدق بعبارات العهد البائد وهي التشغيل والعدالة الاجتماعية ومحدود الدخل . إن الشعب الآن ليس مهموما بعقد مجلس للشعب يمثله، ولا تعنيه مسألة انتقال السلطة كما تعنينا نحن، الحقيقة أن المواطن الذي لم يعد بسيطاً أو عادياً أصبح مهتما بمصيبة الانفلات والفوضي التي يعانيها في كل مناحي حياته طالباً لها أم مطلوباً، من يملك فك شفرة مرض الرجل المريض عليه ألا يذهب للميدان، عليه أن يشارك في علاجه مباشرة إن استطاع.