الجرأة والتحدي والطموح الفني .. هي الصفات التي تمسك بها الفنان الشاب أحمد حلمي لتساعده علي الوصول إلي القمة والنضج اللذين يتمتع بهما الآن عن استحقاق. ولكن هذه الصفات رغم أهميتها لم تكن كافية لوحدها لولا الموهبة العارمة التي يتمتع بها هذا الفنان الحقيقي.. وهذه الكيميا والحضور اللذان جعلاه يقفز درجات المجد كلها سابقا كل زملائه الكوميديين الذين بدأوا مثله.. بل إنه تجاوزهم أيضا ليسبق كبار النجوم الضاحكين الذين تربعوا بهدوء علي عروشهم واثقين من وفاء الجمهور لهم ومن عجز أي أحد غيرهم عن الوصول إلي ما وصلوا إليه. نمطية الشخصية من خلال أفلام متتالية حرص فيها أحمد حلمي في كل مرة أن يبتعد عن نمطية الشخصية الواحدة التي أهلكت زملاء له من «المضحكين» كان ينتظرهم مستقبل مشرق.. لولا غرور النجاح الأول الذي أصابهم والذي جعلهم يمتنعون عن تجديد أنفسهم والإمساك بشخصية واحدة وأسلوب واحد يكررونه في كل ما صنعوه من أفلام بعد نجاحهم الأول.. مما أدي إلي تساقطهم واحدا إثر الآخر.. تاركين الساحة الواسعة والمجال الفسيح لهذا الفنان الخارق الذكاء .. الذي عرف كيف يمسك بأدواته وكيف يسخرها لحساب سينما جيدة وفعالة .. تعرف كيف تضرب وتعرف كيف تصيب. في «إكس لارج» يتخلي حلمي عن الخلفية السياسية النقدية التي مسها مساً رقيقا أحيانا وجافا أحيانا أخري في فيلمه «عسل أسود» ليقدم لنا خلفية إنسانية تليق حقا بكوميديان واسع الموهبة مثله .. يعرف كيف ينظر ويعرف إلي أية وجهة يوجه مصيره. إنها مشكلة «الفهم» التي تحيل ضحيتها إلي كائن «منتفخ» بعيد تماما عما كان عليه في شرخ شبابه الأول.. ومن خلال ماكياج شديد التوفيق وشديد التأثير .. انقلب أحمد حلمي الذي نعرفه شابا نحيل الجسد رشيق القوام حاد النظرة وذكي الابتسامة إلي إنسان مترهل لا يكف عن تناول الطعام وعن النوم أثناء العمل وعن التشخير المتواصل .. ورغم نجاحه في مهنته «وهي رسام كاريكاتوري في مجلة واسعة الانتشار» وحب رفاقه له ونصائح المقربين له خصوصا خاله الذي يعاني هو أيضا من مرض الشره .. وحب الطعام والذي ينافسه في البدانة فإنه يتابع حياته مؤمنا أن هذه قدرة وأنه رغم رغبته بالعودة إلي حجم معتدل فإنه عاجز عن تحقيق هذا الهدف الذي سيجبره علي التنازل عن الكثير من رغباته الأساسية. اسكتشات سريعة الفيلم يقدم لنا خلال مقاطعه الأولي .. لمحات سريعة من حياة هذا الشاب البدين ومواقفه في العمل .. وعلاقته الحميمة مع زملائه.. والمودة الخاصة التي تربط بينه وبين خاله. كل ذلك من خلال مشاهد تشبه الاسكتشات السريعة، أو لمسات ريشة بارعة تحاول أن تقدم لنا هذا النموذج الإنساني الذي سترافقه فيما بعد في أزمته التي سيعيش بها خلال أحداث الفيلم.. لأن الفيلم نفسه كبناء درامي مستقل يبدأ بعد ذلك.. حين يعود مجدي «وهو اسم بطلنا» إلي ذاكرته ومن خلال رسالة قديمة تعود إلي ذهنه أيام شبابه الحلوة وحبه لزميلته في الدراسة «وهذه العلاقة يقدمها لنا المخرج من خلال صور متحركة شديدة الإتقان وشديدة الابتكار» فيقرر أن يعاود الاتصال بها عن طريق الإنترنت والفيس بوك والتي أصبحت وسيلة مهمة للترابط بين الأفراد .. فيكتشف أنها كانت قد سافرت خارج مصر وأنها قررت العودة إلي وطنها وأنها مازالت تذكره وتذكر أيام دراستهما معا ومازالت أيضا تحمل في قلبها الشيء الكثير من المودة له وربما أكثر بقليل من المودة.. مما يفتح أبواب الأمل أمام مجدي .. في حياة مختلفة يتمناها ويحلم بها. ولكنه في المطار حين جاء لاستقبالها يشعر بالتغيير الجسدي الذي أصابه خصوصا بعد أن شاهدها وقد نضجت واكتملت أنوثتها واشتد بهاؤها.. فلا يجرؤ علي تقديم نفسه ويدعي أنه قريب لمجدي يدعي عادل وأن مجدي قد اضطرته الظروف للتغيب عن استقبالها. مواقف ساخنة ومنذ هذه اللحظة تبدأ خطوط الكوميديا التي رسمها بدقة «أيمن بهجت قمر» من خلال حوار شديد الذكاء ومن خلال مواقف ساخنة تثير الضحك دون ابتذال مع وجود خلفية اجتماعية وإنسانية شديدة التأثير وراء الإفيهات والمواقف التي نراها ونشعر بها. وهكذا يتأرجح بطلنا بين شخصيتين وينقلب الفيلم ليصبح تأملا عن الحب فيه الكثير من الشجن والحنان، ويذكرنا ببعض كوميديا شكسبير الشهيرة كما في «ضجة بلا طائل» أو «كما تهواه» وفي كل هذه المواقف يتطور أداء البطل بين الكوميديا الساخرة والكوميديا السوداء» كما في مشهد لقاء مجدي مع زميل الطفولة الآخر» الذي حقق نجاحا مدهشا في ميدان مختلف ونتابع بكثير من الحنان والتعاطف نحو مشكلة مجدي بين حبه للطعام وشرهه الذي لا يعرف كيف يلجمه.. ومن حبه المتعاظم لرفيقة شبابه «وتلعب دنيا سمير غانم دورها. بمهارة وشفافية ورقة تحسد عليها وتؤكد مكانتها التي تزداد قوة في قلوب معجبيها بين فيلم وآخر وتضع نفسها عن استحقاق علي رأس قائمة نجماتنا الموهوبات اللاتي يملكن هذا السحر الخاص الذي يؤهلهن لأن يلعبن أي دور كان بنجاح وإقناع كاملين». ويزداد الموقف تعقيدا دون أن يبدو في الأفق أية بادرة حل ورغم نصائح زميلات مجدي له وتلقينه مبادئ الحب الأول وأسرار قلب المرأة فإن مجدي يظل عاجزا عن الوصول إلي حل قاطع ينهي فيه أزمته ويزيل فيه أثار هذه الكذبة البيضاء التي أصبحت الآن سورا منيعا يمنعه من الوصول إلي حبيبة قلبه عوضا عن أن يكون جسرا متينا يقوده إلي قلبها. وعندما يقرر أخيرا أن يصارحها وأن يكشف لها سره وحبه تصده بلطف ومودة ما يؤدي به إلي نوع من الهذيان الجميل المتمثل في مشهد ساحر يدور في حديقة عامة ويري نفسه فيه متعادلا مع شحاذ بدين يظهر له في كل مقدمة طريق. نهاية مأسوية وتتعقد الأمور بعد ذلك عندما تأتي نهاية مأساوية يفقد فيها بطلنا صديقه الوحيد وأمين أسراره كلها أي خاله الحبيب فيقرر أخيرا أن يواجه نفسه وأن يتغلب علي ضعفه ويخضع لعلاج كثيف ومثمر كان يرفضه دوما لإعادته إلي حجم طبيعي يستطيع بعده أن يكسب قلب حبيبته التي لم تكف لحظة عن حبه بدينا كان أم رشيقا. رغم النهاية التوفيقية التي بدت لنا غير منسجمة مع وقائع الفيلم التي كانت تسير بإيقاع مدهش ومن خلال مواقف شديدة الذكاء وحوار حي نابض ومليء بالرموز والإشارات وملاحظات تدل علي وجود عين سينمائية واعية تعرف إلي أين توجه بصرها.. وفي الوقت الملائم أيضا. النهاية حققت كما يخيل لي «تنازلات» إجبارية من قبل صانعي الفيلم .. ممثلا كان أم مخرجا أم كاتبا وشأن الساحر الذي يبهرنا بمهارته وقدرته علي قلب السينما بحيله الماهرة ومهارته الخارقة ثم يكشف لنا آخر الأمر من سحره والحيل التي لجأ إليها لخداعنا. وقف السحرة الثلاثة أمامنا كاشفين سر لعبتهم فرحين بما قدموا وما وصلوا إليه . تطويل بسيط في بداية الأحداث كمقدمة لا أراها ضرورية جدا قبل مجيء البطلة وقبل أن تبدأ أحداث الفيلم الحقيقية ونهاية مصطنعة ترضي جميع الأطراف هي العيبان اللذان سيطرا علي هذا الفيلم البديع المتكامل في كل جوانبه والذي يقدم لنا «سينما محترمة» وكوميديا حقيقية طال غيابها عنا وطال انتظارنا لها. لياقة إخراجية شريف عرفة يبدو في كامل لياقته الإخراجية وعينه البارعة الباهرة وقدرته علي رسم أجواء ومواقف شديدة الصعوبة بعفوية وثقة وتأثير وابتعاده عن الابتذال اللفظ والحركي الذي سمم سينمانا الضاحكة.. مواسم طويلة ماضية. أيمن بهجت قمر يثبت تمكنه من رسم المواقف وإجادته للحوار اللاذع الذكي المؤثر ويؤكد في هذا الفيلم نضجه السينمائي الذي يجعلنا نأمل كثيرا في مشاريعه القادمة. أما أحمد حلمي فهو روح الفيلم وهو رحيقه المسكر.. إنه يتلألأ في كل مشاهده كالجوهرة .. وينتقل بنا من عاطفة إلي أخري بنفس المهارة والقوة والتأثير فهو أحيانا يعكس شجن شخصيته وأحياناً أخري يعكس ترددها وحيرتها ومرات يشعرنا بيأسها وإحباطها ومرات يشعرنا بإنسانيتها المجروحة. إنه ومن خلال ماكياج أعتقد أني لم أر له مثيلا في الأفلام المصرية قبل ذلك يحقق لنفسه مستوي رفيعا في الأداء لا يعتمد علي المبالغة أو التنكر قدر ما يعتمد علي الإحساس الداخلي المتدفق، لقد استطاع حلمي ببساطة أن يدخل إلي أعماق شخصية رجل بدين يملك حساسية خاصة في مجتمع يحكم بقوة علي المظاهر، أقنعنا ببدانة حقيقية لا تعود إلي قدرة الماكياج قدر ما تعود إلي قدرة الممثل. عرف كيف يمسك بالإحساس الداخلي للشخصية التي يلعبها وكيف يطورها ويصعدها ويجبرنا علي التعاطف معا في كل مراحلها حتي في لحظات ضعفها وترددها أو لحظات قوتها وكبريائها. لقد خاض أحمد حلمي في «إكس لارچ» تحديا جبارا وقدم نفسه وكأنه ممثل آخر لا نعرفه. ونجح في أن يقنعنا أن الممثل الحقيقي ليس مظهرا جسديا خارجيا وانما هو في الأصل انفعال داخلي صادق وقوة جبارة كامنة تنتظر الأصابع الماهرة التي تخرجها من قمقمها لتنطلق هادرة شامخة فوق كل تنافس أو مقارنة. (إكس لارچ» هو عودة الحياة إلي الكوميديا المصرية ومن خلال أصابع ساحرة عرفت كيف تبعثها بعد أن ظننا أنها قد دفنت إلي الأبد.