قدم الكاتب د. جمال التلاوي مجموعته القصصية «الذي كان» في شكل جزئين أساسيين.. الجزء الأول ويتكون من أربع قصص، ولم يضع لهذا الجزء عنوانا شاملا.. والجزء الثاني ويتكون من خمس عشرة قصة وقد قدمه بعنوان «حكايات للأطفال». هناك بعض ملاح التميز الخاصة بالبناء الفني للقصة عند التلاوي أهمها: براعة اختيار موقع اصطياد الحدث الأساسي، اختيار لحظتي الدخول والخروج إلي ومن النص .. ويتأتي هذا التميز نتيجة اختيار الكاتب لأكثر المواقع سخونة في الحدث، وأعلاها جذبا للانتباه والاستثارة، فيشد بذلك رغبة القارئ من البداية ويحرك فضوله لمواصلة القراءة. ففي قصة «الطائر الذي كان» يدخل الكاتب إلي الحدث من حيث لحظة توقف الطائر عن الغناء.. لحظة المرض المفاجئ الذي أصابه وتوقع النهاية المؤلمة له (رفرف بجناحيه .. خفق قلبه كثيرا .. واشتد جسمه سخونة ولكنه لم يخرج أي صوت ..ص «5») فماذا أصاب الطائر المغرد وما أسباب عزوفه المفاجئ عن مواصلة الحياة؟ وبعد أن كان قبلة الزوار في حديقة الحيوان ونبع النغم العذب؟ لماذا كل هذا التحول المفاجئ وما أسبابه!؟ وهكذا يستدرجنا الكاتب إلي الدخول في عمق الحدث، وإلي المشاركة في رحلة السعي لاكتشاف علة الطائر وتحوله المفاجئ. وتتحرك الاقتراحات والمبادرات والعبقريات المعنية لإنقاذ الطائر من محنته.. فقد يكون الحسد هو السبب.. يستوجب الشفاء طقوس التبخير والشعوذة وتطهير الجو! وقد يكون الإعياء هو السبب .. فيستوجب الشفاء جودة الأطعمة والأشربة والعلاج الدوائي. وينتبه الكاتب لإنعاش حماس القارئ فلا يطيل به رحلة البحث عن لحظة التنوير. ففجأة يهتدي الطائر إلي النغم المفقود إلي لحن أكسير الحياة. إلي صافرة الفتاة وعزفها الشجي فتكون الاستجابة المذهلة.. تلك التي تعيد للطائر حيويته وانطلاقه.. ويظل هذا التفاهم الحسي بين الطرفين.. الفتاة والطائر إلي حين تفرض لحظة الافتراق المباغتة نفسها عليهما.. وهكذا يرتبك انسجام النغم المتوحد بتوليفة الصوتين.. صوت الفتاة وصوت الطائر.. فينسحب صوت الفتاة ويظل صوت الطائر يعلو ويخفت يعلو ويخفت حتي يجد القارئ نفسه أيضا ينسحب عن سخونة الواقع إلي شجون العاطفة.. إلي حيث يسلمنا الكاتب إلي موقع الخروج من النص. ( كلما ابتعدت خفت صوتها بالنسبة له.. علا صوته هو .. صوتها يخفت.. صوته يعلو.. يخفت .. يعلو .. حتي اختفت وإلي الآن صوته الحزين يعزف ليل نهار.. دون توقف أغانيه الشجية ص «9»). وفي قصة «الصفعة» يدخل الكاتب إلي الحدث بطريقة أكثر سخونة وأكثر جذبا للانتباه .. فهناك صفعة مفاجئة تهوي بكل العنف علي قفا أحدهم .. فيتطاير الشرر من عينيه ويسقط وجهه فوق المائدة .. وتظل الأحداث تتداعي في توابع الصفعة المفاجئة وتزداد تفاعلا وغليانا.. وتظل التساؤلات المعلقة من لحظة الدخول في النص هي .. من هذا المصفوع الذي تلقي فجأة هذه الصفعة ومن هذا الذي يجرؤ علي هذا الفعل؟ ( هكذا فجأة وبدون مقدمات وبكل هدوء هوي الكف القوي بكل العنف علي قفاه ..ص«13»). ويأخذنا تيار الحدث إلي التعرف علي صاحب القفا المهان.. فهو كبير الجماعة وفتوتهم الأوحد، فمن يجرؤ علي الوصول إلي قفاه.. أو حتي الإشارة إليه وهو الذي اخضع كل القفوات والرقاب لسلطانه وبطشه؟ ويتلبس هذا الفتوة الأوحد نوع من الفزع اللاشعوري.. فلا يلبث أن يرفع يده اليمني تلقائيا بين لحظة وأخري ليحمي قفاه من صفعة مفاجئة.. ويتفاقم الفزع اللاشعوري ليصيب يده اليسري أيضا فتعمل اليدان معا علي حماية القفا المرعوب في تبادل وتلقائية .. وبرغم محاولة الفتوة المضروب علي قفاه أن ينفث بعض غيظه، وأن يؤكد قبضة سلطانه بالاعتداء علي قفا مهيض لأحد رجاله، إلا أن كرامته المهدرة لم يكن ليعيدها مثل هذا التصرف الأحمق. وعند هذا الموقع من النص نجد الكاتب ينسحب في هدوء، تاركا فتوة الحدث ليأكل نفسه بنفسه في حالة رعب ذاتي لا يتوقف. ( لكن يده اليمني لم تعد تكفي لأن تتحسس مكان الصفعة ، فكان يرفع يده اليمني ليتحسس مكان الصفعة، وينزلها حتي ترتفع اليد اليسري مكانها تتحسس هي الأخري مكان الصفعة ..ص«14»). في تصوري أن قصص الجزء الثاني من مجموعة «الذي كان» والمعنون ب«حكايات للأطفال» لا يبتعد كثيرا عن قصص الجزء الأول .. من حيث منهج البناء الفني ومستوي التناول واللغة.. وأيضا من حيث الاستعانة بتوظيف كائنات أخري غير الإنسان في تشكيل الموقف الدرامي. لذلك وجبت الإشارة إلي أن مستوي التلقي والتذوق لا يجب أن يختلف في كلا الجزءين. وفي تصوري أيضا أن جمال التلاوي لجأ لهذا التقسيم الشكلي كنوع من المراوغة الجدلية.. تهدف لبث وهم مؤازر لشد الانتباه .. ولإضفاء جو من الإحماء علي تجمعات القراءة والمناقشة. ونرجع لملامح التميز الخاصة بالبناء الفني لقصص المجموعة.. فنلاحظ قدرة الكاتب علي توظيف نوع من التكاتف الرامز بين الإنسان والكائن الآخر من حيوان ونبات وجماد بهدف تأكيد وحدة الحياة والأحاسيس التلقائية. كما نجد تلك العلاقة الحميمة بين الرجل والشجرة في قصة «الياسمين» فالرجل الذي لا يكاد يمتلك بقعة صغيرة من الأرض .. ولا يكاد يستر جسده جلباب يحمي من حرارة الشمس وصقيع البرد.. نجده يلوذ بجذع الشجرة ليحتمي به .. مرددا في انكسار.. أن السماء من فوقه والأرض من تحته فأين يذهب؟.. وبرغم قصر فترة المعاشرة بين الرجل والشجرة تلك التي يدخل في أحضانها فتحميه وتحنو عليه وتطعمه.. برغم قصر هذه الفترة نجد العلاقة بينهما تنمو وتتماسك وتسمو عندما يتمناها أن تكون شجرة ياسمين .. تملأ رئتيه برائحة الياسمين.. وتتفتح براعمها فتحجب عنه حرارة الشمس وبرودة الصقيع .. وترطب خشونة يديه بنعومة الياسمين. وفي عمق الحلم الجميل الرائع يداهم الرجل قسوة الواقع وتوحشه.. عندما يستيقظ فجأة فلا يجد شجرة، ولا بقعة ماء، ولا مشارف حياة! ( يولي ظهره للمكان ويبدأ يخطو خطواته .. الكون حوله متسع.. والمدي لا نهائي .. وهو يتكئ علي عصاه وأنفاسه تتعالي فيرددها الكون حوله! «ص22»). وفي قصة «حكاية الحصان الذي خسر السباق» نجد ذلك النوع من الطموح المستعر وتحقيق الذات بأعلي صورة .. نجده يتمدد ويتنامي بين الحصان وفارسه .. في رحلة الصعود إلي الشمس.. فالحصان الأصيل يطير فرحا بجناحيه، ساعيا إلي سماوات أخري وأرض غير الأرض.. والفارس يصرخ ويلهبه حماسا ليحصد من وراءه كل المكاسب المادية والمعنوية .. وكلما زادت ساحات السباق والبطولات زاد تراكم التيجان علي رأس الفارس .. وزادت قطع السكر في فم الحصان. وهكذا يؤكد هذا الطموح المتوازي بين الإنسان والحيوان نوعا من شبق امتلاك القمة والانبهار ببريقها! وينكسر الحصان فجأة فينكسر بالضرورة فارسه ويسقطان معا.. وينتبه الحصان في كبوته إلي أن خيلا أخري أصبحت تجري الآن في السباق.. لا تحمل فرسانا ولا تيجانا تصعد بهم إلي الشمس، وإنما تجري تجاه تلال السكر.. فتأخذه العزة بالإباء والكرامة، مترفعا عن مبدأ التدني والمهانة أو خذلان فارسه الأوحد.. متمنيا استقبال رصاصة في الصدر، تسكن سر أسراره وتنهي حياته. (هاأنذا الآن لا أستطيع حمل صاحبي لأي سباق.. وما عدت استحق قطعة السكر .. فقبل أن أستجدديها أطلق رصاصة واحدة من بندقيتك تستقر في سر أسراري .. ص«32»). إلي محراب الشمس! وبرغم أن العلاقة هنا بين الإنسان والجماد «الطفل والبالونة» هي علاقة حياة .. علاقة تواجد! فبدون أنفاس الطفل ما تواجدت حياة البالونة، ما استدارت ولا برزت مفاتنها وألوانها .. وارتفعت إلي ما فوق الرءوس .. برغم هذه العلاقة نري مدي النكران والعصيان الذي أصاب سلوك البالونة، وجعلها تنفلت في جحود واستعلاء! مستكثرة علي واهبها الحياة حقه في الاستمتاع بها والاستئثار بجمالها الجاذب للعيون! وفي اللحظة التي يفكر فيها الطفل إهمال بالونته المتمردة، والبحث عن بالونة أخري .. نجد حتمية قوانين الطبيعة تقول كلمتها في المسألة كلها. ( وحين وقف ليبدأ البحث عن بالونة أخري سمع صوت انفجار أعقبه سكون، وأمامه علي الأرض سقطت جلود باليه، وارتمت في التراب، كانت تشكل في وقت ما بالونة منتفخة في السماء، حينما أكمل سيره كانت الأقدام الكثيرة حوله تطأ الجلود المتربة، تلصقها بالأرض تارة، وبأحذيتهم تارة أخري «39»). تبدو علاقة الألفة قوية وحميمية بين الرجل والنهر في قصة «شرفة تطل علي النهر».. وتبدو متجذرة في النفس الإنسانية عبر زمن من المعايشة والمراقبة والحلم والتخيل.. فمن الشرفة كانت تتفتح وترتوي حياة الرجل علي النهر .. تتشرب العين ماءه والنهر يتسرب من العين .. يشكل الوجدان ويحرك العاطفة ويسوي النفس.. وكان الزمن كفيلا برحلة تماذج الحياتين حياة الإنسان وحياة النهر في يسر وتمهل وتماسك. وحينما حانت لحظة الفراق الحتمية حلت الأزمة، واضطربت النفس وباغتها الإنسلاخ عن الألفة والأمان. وهكذا نستشعر مدي التكاتف والتماذج الرامز بين الإنسان والكائن الآخر «للنهر» لنجده في مرتبة لا تبتعد كثيرا علي تكاتف الإنسان بالإنسان أو أشد وأقوي في بعض الأحيان! ( ومشيت بجوار النهر.. لكني حين اخترت أن أجلس وجدتني أعطي ظهري للنهر ووجهي لشرفة في منزل يطل علي النهر ..ص«103»). اختار الكاتب للمجموعة لغة سهلة وبسيطة لتقوم بعبء التعبير والتصوير وإضفاء حرارة الحيوية علي النص القصصي. كما تميزت اللغة بالتكثيف المشحون بالدلالات والشاعرية دون المباشرة والترهل .. وبرغم جنوح الكاتب للتعامل مع شق المعنويات والاحاسيس والعواطف من النفس البشرية، إلا أن لغته لم تقع في مزالق الرومانسية المفرطة، ولا رمال التعبيرية المتحركة.. لم يستفد الكاتب بشكل ملحوظ بلغة الحوار ولا لغة المنولوج الداخلي في بناء النص.. وأعتمد علي السرد بضمير المتكلم أو الغائب بدرجات تدفقه وثراء مفرداته ليقيم جسر التوصيل الجيد.