عندما تعيش بين أظهرنا ريادات فكرية فى الفلسفة أو العلوم أو الفنون، دون أن نحس وجودها أو نقدر دورها الحضارى فإن تلك تضحى كارثة مركبة، بيد أن الكارثة تمتد بحجم الأفق عندما ترحل هذه الريادات عن الحياة وتتخذ طريقها نحو عوالم البرزخ دون أن يدرى الرأى العام شيئًا عن هذا الرحيل مع صمت (الميديا) أو غيبوبتها المطلقة عما يدور. وإلى هذا النمط الأخير من كوارث العقل المصرى والعربى تندرج قصة الناقد المسرحى الكبير د.شوقى السكرى الذى لف رحيله صمت مطبق بل نجزم بأن أحدًا لم يدر برحيله منذ شهرين فيما خلا أسرته التى باشرت مراسم التكفين والمواراة والجنازة فى موطن النشأة الأولى (طنطا) مع صمت مصر الرسمية فيما يشبه دراما إغريقية مؤسية من تلك النماذج الدرامية التى لطالما درسها الراحل لطلابه فى مصر أو الكويت أو أمريكا!! آخر حبة وبرحيل شوقى السكرى تبددت آخر حبة من عقد الجيل النقدى الريادى الذى انفرط وغاب آخر خيط يصلنا بجيل الجذور فى الحركة النقدية! وفى أعقاب رحيله بنحو يومين وفى ندوة موسعة جهرت فى الحضور بنبأ رحيله وكانت تجلس إلى جوارى الناقدة المسرحية الكبيرة د.نهاد صليحة التى شهقت شهقة الصدمة الفاجعة وقد كانت من تلميذاته النابهات. ولد شوقى السكرى بمحافظة الغربية فى 8/7/1922 وقد أبدى منذ طفولته الغضة مخايل النبوغ المبكر فتدرج فى المراحل الدراسية بهمة ومضاء، وقد بدت سيماء نبوغه فى العربية والإنجليزية معًا. ورست به قاطرة الرحلة عند كلية الآداب بجامعة القاهرة حيث بدأ حياته الجامعية معيدًا وتدرج فى السلك الأكاديمى ثم أوفد فى بعثة إلى «انجلترا» فحصل من هناك على الدكتوراه ثم عاد إلى مصر متسلحًا بأحدث المناهج النقدية، آنذاك، وسطع نجمه سريعًا داخل حدود الجامعة على نحو أثار الحفيظة (للأسف!!) داخل صدور ثلة من زملائه وقد هالهم أن يختلط (السكرى) ببراعة تضاريس منهج جديد فى (نقد الدراما) وقد بز أقرانه وتفوق عليهم بميزة أخرى، هى حيويته الاجتماعية ونشاطه الفوار فى الحركة الأدبية التى تختمر خارج أسوار الجامعة وقد انعقدت صلاته الوثيقة برموزها وخصوصًا «على أحمد باكثير» و«محمود تيمور» فضلاً عن الوشائج التى وصلته بأبرز نقاد تلك الفترة وخصوصًا «محمد مندور». وقد كان من تداعيات هذه الغيرة المهينة انطلاق الوشايات من عدة بؤر وهو ما فاقم الأمور بينه وبين الراحل د.رشاد رشدى الذى أصر على اتهام «شوقى السكرى» بأنه سرق بحوثه من مراجع إنجليزية دون أن يشير إلى ذلك! واستغل «رشاد رشدى» صلاته الوثيقة بالوسط الصحفى ليدحرج لغمًا كبيرًا فى طريق «السكرى» يوقف انطلاقته أو يثبط حركتها المتصاعدة فى أضعف الأحوال. واحتدمت نيران المعركة بين القطبين الكبيرين بقسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة. وتلقى الوسط الصحفى الإشارة ليجعل من معركة الناقدين مادة صحفية طازجة. واتفق العقلاء فى جامعة القاهرة على رفع الشكاوى المتبادلة بما فيها بحوث «شوقى السكرى» المجرحة إلى جامعة «كمبريدج» التى تقصت بحوث السكرى بدقة وسجلت له فى نهاية الأمر ما اعتبره، طيلة حياته، وسامًا يزدان به صدره، إذا أكدت الجامعة الإنجليزية العريقة أن بحوث «السكرى» جديدة فى بابها وأنها ترعى، باحترام تقاليد العمل الأكاديمى الرصين، توثيقًا وبحثًا واتساقًا. وقد كانت إشادات الجامعة الإنجليزية «طعنة نجلاء» لحزب «رشاد رشدى» الذى التزم صمت القبور واضطر لأن يطامن وينحنى للموجة!! وكان انتصار «السكرى» فى معركة تكسير العظام التى فرضت عليه، مما أثار شهيته لأن يواصل انطلاقته فأدار أقوى «صالون أدبى» عرف فى الخمسينات والستينات وهو (صالون ناجى) الذى استضاف صفوة الأدباء والنقاد فى تلك الفترة فتألق على منصته «باكثير» و«محمد مندور» و«غنيمى هلال» وبفعل التراكم الزمنى غدت «ندوة ناجى» أنشط رئة تتنفس بها الحركة الأدبية آنذاك. وهو ما أثار شهية الوشاة لأن ينقلوا معركتهم مع «شوقى السكرى» من ميدان العمل الجامعى إلى حلبة «السياسة والإيديولوجيا» فأوعزوا بالوشايات المتواترة للسلطة بأن «السكرى» من خلال ندوة ناجى، ينفث سمًا إيديولوجيا مضادًا لفكر الثورة!! واستلقى «شوقى السكرى» على ظهره من فرط الضحك عندما علم أن حصاد هذه الوشايات نجم عنه إعداد ملفين ضخمين عن «السكرى» عرفا طريقهما إلى الجهات الأمنية آنذاك اتهم فى أحد الملفين بأنه «يسارى متطرف» واتهم فى الآخر بأنه «يمينى متطرف» وهى المرة الأولى فى التاريخ التى يجتمع فيها هذان الاتهامان معًا!! لكن النكتة غدت كابوسًا ثقيل الوطأة فرض ضغوطًا على الناقد الكبير ودفعه دفعًا لأن يفكر، جادًا، فى الرحيل خارج الأوطان. وهو الخيار العسير الذى طالما دفعه عن خاطره دفعًا. وقبل أن يحزم «شوقى السكرى» حقائبه متجهًا نحو كلية الآداب بجامعة الكويت عام 1969، أسهم بجهوده المتواترة فى مصر فى دعم الثقافة المسرحية الرفيعة من خلال «سلسلة روائع المسرح العالمى» التى كانت تشرف عليها «وزارة الثقافة والإرشاد القومى» والتى قامت على ترجمة عيون المسرح العالمى بل إن «شوقى السكرى» نفسه قدم درسًا فى فن الترجمة من خلال ترجمته البديعة لرائعة «جون جولزورذى»: «اللعبة الغادرة» وقد نقلها إلى القارئ العربى بعربية صافية رقراقة تنطق بالفحولة والجمال. وكان من حصاد عطائه للمكتبة العربية فى مجالى الأدب واللغة ترجمته الرصينة لموسوعة «إيفانز»: «تاريخ الأدب الإنجليزى»، ومراجعته لكتاب «الكوميديا والتراجيديا» (من تأليف مولوين ميرشنت «بالاشتراك» وترجمة د.على أحمد محمود) (1978)، فضلاً عن مشاركته فى ترجمة موسوعة «نيكول آلاراديس»: «المسرحية العالمية» فى عدة أجزاء، وكذا مراجعته لكتاب «سيرتى الذاتية» للفيلسوف «برتراند راسل» (وقد اشترك فى ترجمته د.شفيق مجلى ود.أمين العيوطى ود.عبدالله حافظ ود.فائز إسكندر). العمل المعجمى وفى مجال العمل المعجمى والقاموسى أعد «شوقى السكرى»: «دليل المؤتمرات باللغة العربية والإنجليزية والفرنسية» (مكتبة الأنجلو)، كما أعد «القاموس السياسى والدبلوماسى» (انجليزى/ عربى) (عام 1960). وفى مجال الدراسات الاستراتيجية والسياسية نقل شوقى السكرى إلى العربية دراسة مهمة بعنوان «الصهيونية الجديدة» نشرتها مجلة السياسة الخارجية الأمريكية عام 1983. وفى حقل الإسلاميات استعان به المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى جهود الترجمة كثيرًا كما أسهم د.شوقى السكرى مع الراحل د.مصطفى هدارة فى ترجمة كتاب مهم هو: «الإسلام» لألفريد جيوم، وقدم السكرى دراسة علمية رصينة عن «ترجمات القرآن إلى الإنجليزية» نشرها بمجلة «البيان» الكويتية فى مطالع الثمانينات. وكانت فترة وجوده بالكويت حافزة لأن يسهم بخبراته العريضة فى تأسيس النشاط المسرحى فى الكويت وتدشين باكورته الأولى. ومن الكويت مضى «السكرى» منطلقًا إلى عاصمة الضباب «لندن» ليعمل فترة زمنية فى إذاعة ال «بى. بى. سى» حيث ساعد بجهوده فى التأصيل للجهد الإذاعى العربى فى أوروبا ووضع البذرة الأولى لما نسميه الآن «التعريف بالذات ومخاطبة الآخر». وكانت محطة الرحيل الأخيرة هى «جامعة كاليفورنيا» بالولايات المتحدةالأمريكية حيث درس هناك ومنح، بجهوده ودأبه وثقافته، للذهنية الأمريكية صورة مؤتلقة ناصعة عن «الأكاديمى العربى» القادر على تمثل ثقافة الآخر ونقل الرحيق المصفى من ثقافته الذاتية وتراثه المصقول. لقد وقف «السكرى» فى الخندق ذاته الذى وقف فيه «إدوارد سعيد» و«إيهاب حسن» وأضرابهما. ظرف صحى عسير وجابهته ظروف صحية عسيرة حين دخل مشفى «كليفلند» ليجرى عملية جراحية فى ظهره وبخطأ طبى جذرى أصيب «شوقى السكرى» ب «قطع فى العصب» نجم عنه عجز كامل عن الحركة بكلتا قدميه وكانت يداه إثر الخطأ الطبى الجسيم تتحركان بصعوبة وقد أورثته الحادثة حزنًا لم يندمل، وإحباطًا غائرًا لم تنطفء جذوته، وبعد أن جاب العالم (رحالة) مناضلاً من «لندن» إلى «باريس» إلى «مدريد» أصبحت حركته محدودة بحدود ما يسمح به «الكرسى المتحرك» الذى أصبح رفيقًا له نحوًا من عقدين من الزمن! ولم يحل الكرسى ذو العجلتين بينه وبين أن يلقى محاضرات دسمة قيمة عن «نجيب محفوظ»، إثر فوزه ب «نوبل»، وعن «الإسلام» ثقافة وحضارة مع ما واكب أحداث الحادى عشر من سبتمبر من لغط عريض ومساجلات حضارية كان مدارها الإسلام نفسه، معتقدًا ورموزًا وتاريخًا، وهى محاضرات أثارت إعجاب الأمريكيين وغضبة اللوبى!! وقد آن لسنوات الأحلام والحركة الوثابة أن تؤذن بالمغيب ومع رحيل ابنه عن البيت الكبير ومع صمت تلامذته عن التذكير بفضله أو جهوده (ملاحظة: د.جابر عصفور ود.نبيل راغب من أبرز تلاميذه!!) قرر «السكرى» أن يعود إلى مصر بعد اغتراب عقود تبدل فيها كل شىء، وتغيرت سيماء الوجوه!! وفى غير زفات أو مواكب استقل الطائرة برفقة شقيقه من أمريكا وحطت به الطائرة على أرض مصر التى طالما ذرع أقاليمها وقراها، ذهابًا وجيئة، لكنه حط هذه المرة على «كرسى متحرك». وفى صمت ودون أن يدرى «الإعلام» عما يدور شيئًا. وفى مطلع شهر يونية العام الماضى انتقل فى صمت إلى «طنطا» موئل الأحلام القديمة وقد زرته هناك فلم تصدق عيناى ما تريان: هل هذا هو «شوقى السكرى» الذى ملأ الدنيا يومًا وشغل الناس؟! ألفيته شيخًا قعيدًا توافيه ذاكرته مرة وتخذله مرات! وفى 27/6 من العام الماضى رحل «شوقى السكرى» عن الحياة فى البيت القديم بطنطا مصدرًا لضمائرنا النائمة ضفيرة من الأزمات والأسئلة المؤرقة!!