نعم.. في مجال الأدب.. في مجال العلم.. في مجالات كثيرة..ربما.. قطاعات عريضة من البشر لا تعرف أن شخصا عظيما يعيش بينها إلا إذا احتفت به جهة لها مصداقيتها! والميديا - وهذا ما نعانيه الآن -لا تمارس أحد أدوارها المهمة في اكتشاف وتسليط الضوء علي من تراه جديرا بأن يكون نجما.. لأنها تكاسلت علي أن تري.. وتستعير بعيون غيرها.. ان اهتمت مؤسسة ما بكاتب حتي لو كان اهتماما لايستند علي محك الجودة.. بل محكات أخري.. تلهث خلفه الميديا باعتباره عظيما..دون أن يقرأ له الإعلاميون ربما سطرا واحدا.. ولقد حدث هذا أمامي.. محرر ثقافي في صحيفة يومية.. اتصل بكاتب له ثقله في الوسط الثقافي..طلب موعدا لاجراء حوارصحفي.. سأله الكاتب: عن ماذا الحوار؟ وبعد حوار مقتضب أنهي الكاتب المحادثة قائلا للصحفي: كما يبدو أنك لم تقرأ لي..فهذا الذي تسأل عنه موجود في كتبي.. أنصحك أولا أن تقرأ بعض أعمالي.. وبعد ذلك نجري الحوار .. وفسر لي الكاتب سبب اعتذاره للصحفي .. أنه كان يعاني مشقة نشرخبر من عدة سطورعن أي إصدار جديد له ..لكنه بعد أن حصل علي جائزة التفوق أصبح ملاحقا من الإعلاميين.. الكثير يسعون إلي اجراء مقابلات معه باعتباره كاتبا عظيما.. دون أن يقرأوا له شيئا! فهل أصبح طاغور عظيما لأن الأكاديمية الملكية في ستكهولم منحته جائزة نوبل في الأدب عام 1913 فاستقطب اهتمام الميديا العالمية؟.. بل الصحيح أن الشاعر الهندي لم يمنح جائزة نوبل إلا لأنه عظيم.. فكيف عرفت ستكهولم أن في أدغال القارة الهندية شاعر عظيم جدير بجائزتها..؟ لأن أشعاره ترجمت إلي الإنجليزية.. وأمضي سنوات عديدة من عمره في بريطانيا.. فعرفته النخبة المثقفة هناك ..وقرأت له وأبدت اعجابها بكتاباته.. فسعت خلفه الميديا! يعرف أنه عبقري لقد بدا من أقوال طاغور عن نفسه أنه مدرك تماما لمنابع العبقرية تحت جلده.. ذلك أنه قال ذات يوم: سأحطم الحجر وأنفذ خلال الصخور وأفيض علي الأرض وأملأها نغما.. سأنتقل من قمة إلي قمة ومن تل إلي تل وأغوص في واد وواد .. سأضحك بملء صدري وأجعل الزمن يسير في ركابي. لكن كيف كان يمكنه أن ينفذ خلال الصخور ويفيض علي الأرض ويملأها نغما..؟ كيف كان للبشر شرقا وغربا أن يعرفوه شاعرا عظيما لو لم يسمعوا صوته..! كان طاغور بالفعل شاعرا فوق العادة.. لكن العالم ما كان يعرفه لو لم تُترجم أعماله إلي اللغة الأكثر شيوعا في عصرنا.. الانجليزية.. ولو ظل شعره مزنزنا في لغته المحلية ..لما عرف به أحد.. أو كما نلاحظ؟ الغالبية العظمي من أدباء العالم الثالث الذين لاذوا بلغة عالمية في كتاباتهم أو حظت أعمالهم بنصيب وافر من اهتمام المترجمين .. نقشت أسماؤهم علي جدران الذاكرة العالمية ..حتي لو كانت أعمالهم دون أعمال نظرائهم المحليين التي لم تر أنواراً وراء البحار. أفلا يكفي أن تنجز ..المهم أن يحلق انجازك في الأفاق ليهطل مطرا رائقا يخصب أدمغة وقلوب البشر بالحب والخير..فحين شهادة أندريه جيد ترجمت أعمال طاغور إلي اللغة الانجليزية عرفه رموز الثقافة الغربية وأذهلتهم سراسيب عليائه الشعرية..حتي أن الفيلسوف أندريه جيد قال عن قصائد ديوانه " جيتنجالي " التي تفيض برائحة الموت: لايوجد في الشعر العالمي كله مايدانيها عمقا وروعة". وما أكثر ملهميه في أشعار الموت ..وفاة أمه وهو في الرابعة عشرة.. وفي العشرينات اختطف الموت زوجته الشابة التي غمرته بحبها رغم ارتباطه بها بزواج تقليدي.. ثم ابنه وابنته وبعد ذلك والده .لكن رائحة الموت التي تفوح من أشعاره شذي محببا ..يجعل الكثير من البشر يقفون أمام تجربة الموت ..نعم بإجلال ..لكن ليس بفزع ..ولاكراهية ..! ولقد بدا هذا جليا في قوله: "إن عاصفة الموت التي اجتاحت داري فسلبتني زوجي واختطفت زهرة أولادي أضحت لي نعمة ورحمة، فقد أشعرتني بنقصي وحفزتني علي نشدان الكمال، وألهمتني أن العالم لا يفتقد ما يضيع منه"..وفي احدي الأغنيات التي استلهمها من الموت يقول: أنا هذا البخور الذي لا يضوع عطره ما لم يحرق أنا هذا القنديل الذي لا يشع ضوءه ما لم يشعَل. وخلال احتفالية كبري نظمها مؤخرا المجلس الأعلي للثقافة بالقاهرة حول طاغور لمس الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي مواضع التفرد في ابداع هذا الشاعر الهندي العظيم حين قال: إن طاغور أثبت أن الشعر ضروري لحياة الإنسان، فقد كان يغادر بيته وأهله من أجل أن يبحث عن الشعر، وكان الجنود يهرعون إليه ليتلقوا شعره ليبعث البهجة في نفوسهم. وقال أيضا إن طاغور قرر أن يتحرر من الكتابة التقليدية، دون أن يخل بالموسيقي الشعرية، وكان وجه التشابه بينه وبين جيل أحمد شوقي أو جيل الرومنطقيين أن رومنطيقته حملت إقبالا علي الحياة وفرحة بها علي العكس من الرومنطقيين الأوروبيين لكن للإبهار في عالم طاغورجوانب انسانية أخري غير الشعر .. ولقد جسدها ببلاغة الكاتب الفرنسي الكبير رومان رولان حين علق علي لقائه بالشاعر الهندي قائلا: حين تقترب من طاغور يناسم نفسك شعور أنك في معبد ..فتتكلم بصوت خفيض ..وان أتيح لك بعد هذا أن تتمني قسمات وجهه الدقيقة الأبية ..فإنك واجد خلف موسيقي خطوطها وطمأنينتها الأحزان التي هيمن عليها والنظرات التي لم يداخلها الوهم والذكاء الجريء الذي يواجه صراع الحياة في ثبات. وحده الفيلسوف البريطاني برتراند راسل الذي لم يكن أي ذرة حب لطاغور .. فخلال وجود الشاعر الهندي في لندن كان الكثير من الكتّاب الانجليز والأوربيين يبدون اهتمامهم ..بل واعجابهم بتجربته الشعرية ..خاصة ديوان جيتنجالي الذي تولي بنفسه ترجمة بعض قصائده إلي الانجليزية ..ونشرته دار ماكميلان الشهيرة ..الا راسل الذي تجاهل تماما طاغور ..حتي بعد حصوله علي جائزة نوبل عام 1013 متجاوزا بذلك مرشحين كبارا للجائزة مثل الكاتب الروسي تولستوي ..فكان رد طاغور علي ذلك قاسيا حيث علق علي احدي محاضرات الفيلسوف الانجليزي قائلا: إنها لاتمت بصلة للأمور المهمة في الحياة ..كما أنها خالية من البصيرة! علي أية حال ..لو عاش طاغور ومات محليا.. أي لو ظل وأعماله أسري جغرافية بلاده.. لما عرفته الأوساط الثقافية في أوروبا وانتبهت اليه الأكاديمية الملكية السويدية ..وما لاحقته الميديا العالمية ووصفته بالشاعر العظيم ..حتي لو كان بالفعل شاعرا عظيما! إنها ربما مأساة المئات من المبدعين المجهولين في الجغرافيا العالمية.. يعيشون ويموتون دون أن يدري بهم أحد رغم أن بينهم من لايقل انجازه الأدبي ابهارا عن شعر طاغور.. وحكي تولستوي. نعم.. من المهم أن تكتب.. لكن من المهم أيضا أن يصل ما تكتب للعالم !