هل كان الشاب محمد البوعزيزي عندما أشعل النارفي جسده ، يدرك أنه أشعل فتيل الثورة ؟ تلك الثورة التي انتشر وهجها في أكثرمن وطن. وإذا كان الإبداع الأصيل يعي المفارقة أوالمعادلة الصعبة بين الوقوع في المباشرة وبين عدم تغافل الواقع ، فإنّ الروائي (المصري) أسامة حبشي قدّم الدليل علي وعيه بهذه المفارقة في روايته (مسيح بلا توراة: محمد البوعزيزي) الصادرة عن بيت الياسمين عام 2011). ابتكرالمبدع شخصية هدي العرّافة لتكون المدخل لحياة البوعزيزي، وهي عرّافة غيرتقليدية. فهي مُفعمة بحب قراءة الأدب والتاريخ ، ومولعة بشكل خاص بالشاعرالهندي الأحمر إمبرتوكال الذي افتتح المبدع روايته بأبيات من شعره: (حين وُلدتُ / قطروا دمعًا في عيني / ليكون بصري بحجم آلام شعبي) لذلك ربطتْ العرّافة بينهما حيث نفس ظروف النشأة والهموم. والعرّافة (تهجر موطنها وتطيرمثل الفراشة وتتبع رائحة الحشائش أو رائحة جدار يعاني من الوحدة) وفي مزج بين الموروث والواقع، فإنّ أول تعارف بينها والطفل محمد كان (حيث الريح تحمل عددًا من النساء مُتشحات بالسواد في جلباب طويل وبطرف كل جلباب يمسك طفل وبيده برتقالة) وكان محمد أحدهم. وعندما تتأمل (العرّافة) الطفل محمد تري البرتقال وقد نُصب علي شكل صليب وأخذ هيئة رجل كالمسيح. ومن يومها قرّرتْ أنْ تتبع (طفل البرتقال) الذي تنبّأتْ بأنّ (حقول البرتقال ستتبعه) إذْ سيكمن في البرتقال سرحياته ومأساة وفاته. والعرّافة تؤدي دورالكورس في المسرح اليوناني، فهي الكاشفة للواقع المأساوي لأهالي موطن محمد الذي يعيش في بقعة صغيرة تُشبه (ماكوندو) في (مائة عام من العزلة) لماركيز. الحي فقير واسمه (حي النورالغربي) رغم أنّ النور لاوجود له. والعرّافة تُخرج شهرزاد من الحدوتة لتقول (لم تعد هناك حكايات بالشرق أوالغرب ، طفتُ البلاد بلا جدوي : الحكام والملوك سرقوا الحكايات وخبّؤوها في صناديق ، عليها حراس ببنادق وأسلحة) وينتهي حلم العرّافة بأنْ تتحول شهرزاد لعصفورة لها بقعة حمراء في رأسها. وتحكي العرّافة (كتمهيد لمأساة محمد) عن الفلاح الذي ذهب ليدرس بالعاصمة ثم تحوّل لفراشة محترقة بأعمدة الإنارة. وهنا حطتْ العصفورة علي كتف طفل البرتقال. محمد البوعزيزي أصبح هوالمسئول عن أسرة من تسعة أفراد بعد وفاة والده. لم يستطع التوفيق بين الدراسة وبيع الخضار والفاكهة. ووفقا للتقاليد يضطرللزواج بزوجة أخيه بعد وفاته ، ولكنه رغم ذلك يفتح عقله للعصرالحديث ، فيؤسس لنفسه صفحة علي الفيس بوك. يكتب فيها همومه وأحلامه. وهو يتحدث الإيطالية والفرنسية ولكنه يتساءل: ما جدوي اللغة في زمن الخَرَسْ الذي نتمني فيه أنْ نُصبح عاهرات، لأنهن علي الأقل يضمنّ مستقبلا أفضل منا في بلاد العسكر والديكتاتورية. تساؤلات محمد مابين فلسفية ودنيوية. إذْ تمني علي صفحته الخيرلأسرته ولأهالي الحي وللباعة أمثاله. ولكن بمجرد أنْ يدخل السوق بعربته الصغيرة يكتشف أنّ أمنياته يحول بينها وبين تحقيقها (باب ضخم كباب قصر بن علي) وكان يحدّث أمه عن (البرتقال الذهبي) فخشيتْ عليه من الجنون ولكنها لاتعرف السبب ، إذْ كان الصراع داخله يقوده خصمان نقيضان : أحلام اليقظة بمستقبل أفضل ، وواقع شديد البشاعة وسلاحه البطش. واقع لخصه منظرالطفل الذي وقف أمام محل (جيلاتي) وأخرج لسانه ليلعق الزجاج متوهمًا أنه يلعق الجيلاتي. ولأنّ البؤس واحد والبطش واحد في أنظمة الاستبداد، فإنّ ما ذكره أسامة حبشي ، سبق أنْ حكاه المناضل القديس أحمد نبيل الهلالي عن الطفل الذي رآه يلحس زجاج محل جاتوه في وسط البلد. تعمّد المبدع إرجاء مشهد مأساة محمد إلي الصفحات الأخيرة من الرواية. ففي التمهيد نتعرف علي أصدقاء محمد ، ومن خلالهم نقترب من الواقع التونسي تحت سعيرحكم العسكرالذي قاده الرئيس القادم من الشرطة (بن علي) حيث أسس لفقدان الولاء للوطن ، علي قاعدة من خطين : نهب موارد الدولة ، وقمع كل صوت حر. لذلك انتشرتْ ظاهرة الهجرة ، وكان مروان (صديق محمد) لايتحدّث إلاّ عن باريس ويتمني لو قابل امرأة فرنسية تُؤهله للعيش في بلدها حتي ولوكان جزءًا من متاعها الشخصي. انتقل مروان من باريس إلي إيطاليا وهناك قُتل ، فقال محمد لنفسه (هاهي باريس ستظل بعيدة يامروان وستظل فرنسا أكذوبة أبدية) ونتعرّف علي الفتاة لطيفة التي داستْ علي قلبها وخانتْ حبها وتزوّجتْ برجل يكبرها بعشرين سنة. وبعد الزواج تنتحرلأنّ زوجها أراد أنْ يجعل منها (مزارًا سياحيا لأصدقائه من حاشية النظام) أما سعيد المؤمن بماركس وبالعدالة والحرية فهو يخرج من السجن ليعود إليه. ومع التكرارتحوّل من ثائرإلي درويش. وقال البعض إنه اخترع جنونه وصدّقه كي ينقذ نفسه من التعذيب. قبل المأساة نتعرّف علي شخصية فادية الشُرطية التي تُطارد الباعة وتُصادر عرباتهم. قال محمد إنّ عالم النفس فرويد خسر كثيرًا لأنه لم يعرفها قبل وفاته. كانتْ فتاة تزوّجت ملابسها الرسمية ، وظلتْ تُطارد محمد في أحلامه. محمد يقف في السوق في مساحة مترين مربعين. هذه المساحة هي سر بقاء عائلته في الوجود. بعد مصادرة ممتلكات الباعة ، وبعد أداء الغرامة أو تدخل الواسطة والرشوة ، تعود الشرطية فادية للمصادرة من جديد وبحجج أخري (كالتي تحن لممارسة الحب برغم وجود دورتها الشهرية) لذلك سأل محمد نفسه (هل يمكن للحكومة أنْ تسأل الأرصفة عن سكانها بدلا من أنْ تُضاعف رسم التراخيص اللازمة للبائع المتجول ؟) البطش يجعله يغير رأيه فيفكر في الهجرة ويطلب من أمه الغفران. ويري في أحلامه المُخرج (ناصرخمير) يأتيه طائرًا وبيده أفيش فيلم (بابا عزيز) المدهش أنه رأي ابنته فريدة بالأفيش تتوسط الصورة وبيدها برتقالة تنبع من النار، ولون الناراتحد مع لون صفرة البرتقال. يهبط محمد من الأحلام إلي الواقع. يذهب إلي السوق. يجرعربته ولكنه لايتخلي عن حلم العثورعلي (برتقاله الذهبي) وفجأة انشقتْ الأرض عن الشرطية فادية. قال: الانتقام لغة يعرفها العسكر أكثرمن الآخرين. ويجلدون الديموقراطية لخشيتهم منها. فالحرية / الكرامة هبات من حكامنا. تقترب فادية مصحوبة برغبة هتلرية في الإبادة. أخذتْ سلة من البرتقال. حمم طمعها وجبروتها لم تهدأ فأخذتْ سلة ثانية. اعترض محمد بأسلوبه المهذب المُسالم. اعتراض عفوي لمن يري البرتقال سر وجوده، ولكن من تزوّجتْ ملابسها الرسمية ردّتْ عليه بلطمة علي خده. مشكلة الحكام والعسكرأنهم يتناسون أنّ الباعة لهم أسر، والأسر يلزمهم الطعام. خرج محمد من ذهول اللطمة قائلا بذات العفوية (ما صنعتُ ولماذا كل هذا؟ أنا إنسان بسيط يود العمل) لم يكمل كلامه إذْ انقضتْ فادية عليه بالضرب لتزيد من إهداركرامته. نسيتْ الشُرطية أوتجاهلتْ العُرف في عشيرة محمد (إذا ضربتْ امرأة رجلا فعليه ارتداء الفستان) محمد لايري شهود الواقعة. غاص في نفسه بحثًا عن كرامته. يري فقره يحاصره ويخنقه والفستان في انتظاره . كانتْ شهرزاد التي تقمّصت شكل العصفورة وفي رأسها بقعة الدم تُحاوطه. ووجه العرّافة يلاصق أفكاره. محمد يدرك أنّ موطنه (سيدي بوزيد) خارج التاريخ وكأنه بقعة عار علي البلاد، لايلتفتْ إليها قائد الانقلاب (بن علي) لاهو ولا أفراد عصابته. مات محمد قبل أنْ يقرّر موته المعلن علي الملأ. لذا عندما سكب البنزين علي جسده كان مثل الغائب عن الوجود تحت تأثير مُخدر الكلورفورم. ولكن عندما اشتعلتْ النار في جسده، عاد من غيبوبته إذْ وقف يهدي العالم أرق كلماته عفوية:(تُصبحون علي وطن أجمل). بعد زيارة بن علي له زارته شهرزاد متجسدة في عصفورة. دخلتْ أسفل الأربطة. سألته عن العرّافة فقال إنه يذكرها ويذكر وجه ابنته ووجه أمه. سألها عن صديقه سعيد ، قالت إنه يقود التظاهرات في سيدي بوزيد. قال : الجنون قناع الفقراء دومًا. وذكر جملة ساراماجو(المتشائمون مهتمون بتغييرالعالم. والمتفائلون سعداء بما يملكون) وأضاف إنّ ساراماجو يقصد الفقراء لا المتشائمين. وسألته العرّافة عن فادية فقال بصوت حنون : مسكينة تلك الشُرطية. بداخلي جزء يتعاطف معها. وطلب منها أنْ تُخبرأسرته أنه سيسكن حقول البرتقال. بكتْ العصفورة (شهرزاد) مُتأثرة بكلامه. احتضنها محمد قبل أنْ يلفظ أنفاسه الأخيرة. قالت العرّافة : طفل البرتقال وضع نهاية حقبة من التاريخ علي حافة عربته واخترع أخري. وقال المخرج ناصر: فيلمي القادم هو (وهج البرتقال) عن طفل حرّرالرمال من سراب طال كثيرًا. اختارالمُبدع لروايته عنوان (مسيح بلا توراة) فكما أنّ المسيح عليه السلام هو رمز(الفداء) كذلك كان محمد البوعزيزي المسيح العصري ولكن بلا توراة، كانت توراته التي لم يكتبها، تفجير ثورة الغضب في كل أبناء الشعب التونسي العظيم. تناول أسامة حبشي قضية الشعب الفلسطيني في روايته البديعة (موسم الفراشات الحزين) فتحسبه فلسطينيا ، وكتب عن البوعزيزي وفاجعة موته التي كانتْ إلهامًا لكل الأحرار، فتحسبه تونسيا. فهل هي فلسفة التوحد الإنساني الشاخصة نحو (الإنسان العالمي)؟ أم هو الوعي بمفردات الإبداع الروائي (مع مساعدة النت في الحصول علي المعلومات) أم هي كل هذه العناصرالتي جعلته يكتب أدبًا بديعًا يخترق حاجز المكان، وقد حملته أجنحة الحرية ؟