حقا عالم مليء بالخيال النابض بالواقع الممرور، هو عالم «محمود أحمد علي» القصصي الكائن داخل كل فرد منا بآلامه وطموحاته وأحلامه التي كثيرا ما تتحطم علي صخرة صماء، بل أشعر بها وهي تئن، تتمزق، كأنها تحتضن مآسي البشر، وهي تطوي بداخلها أسرارهم وحكاياتهم التي يعزفها قلمه الجميل علي أوراقه الكثيرة، وهي تبث شكواهم وصرخاتهم المكتومة بين الجوانح لتصبح «رءوس تحترق، بل قلوب تحترق».. هكذا كانت المجموعة القصصية الأخيرة التي صدرت من خلال نادي القصة، مكتبة الآداب، فكثيرا ما أثرت الحركة الأدبية بعناوين إبداعية عدة. كوارث سياسية واجتماعية في هذه المجموعة القصصية يأخذنا الكاتب إلي مرافئ وموانئ وسفر داخل أعماق النفس البشرية، حينما تداهمنا الكوارث والأمراض الاجتماعية والسياسية، بكل ما تحمل من أبعاد نظر وترسم ما يكابد الإنسان من مشكلات وخداع وزيف بل أحيانا مجاملات تفتقد طعم الصدق، لأنها تنشد المقابل المادي، تتمثل هذه الرؤي في قصة «مسدكول» لامرأة مشعة، والتي أهداها إلي الكاتبة المبدعة «نعمات البحيري» في مرضها القاتل، تحكي عن امرأة تقع ما بين الشباب والكهولة اسمها «زهرة عبدالرحمن» تذهب إلي المشفي لكي تأخذ جرعة الاشعاع، وعندما تصل تسجل اسمها ثم تنتظر دورها، تسأل عن بعض الأسماء تأتي الإجابة - تعيش إنتي!، بعض لحظات قصيرة تدخل حجرة الإشعاع. دخلت من ورائي العاملة - التي دوما تساعدني في خلعي وإلباسي ثوبي - ليس حبا في شخصي أو اشفاقا علي كما كنت أظن، ولكن فيما أدفعه لها بعد كل جرعة اشعاع.. نزعت عني ملابسي وهي تقول: - إن دبلت الزهرة ريحتها فيها.. ابتسم لكلماتها المغلفة بالنفاق. هذا الديالوج الداخلي لهذه المرأة الجميلة البائسة تدرك اللحظة التي تعيشها بصدق، فهي تقرأ وجوه الآخرين بذكاء، وما ينطبع بداخلهم من مشاعر وطمع واستغلال حاجة المرضي لمساعدتهم، رغم أنهم يؤدون أعمالهم إلا أن الحياة سوق تتكالب فيه التجار لا يدركون إلا وجه المكسب أو الخسارة، رغم ما تعانيه هذه المرأة إلا أنها مدركة لواقعها ومرضها القاسي تتولد لنا حكايات وصور عديدة أثناء فترة جرعة الاشعاع من خلال صور الألبوم. أو بالمعني لحظات الذكريات التي عاشتها بكل ما فيها من فرحة وألم من بسمة تشع بالبهجة وجمال الحياة أو دمعة تحرق الخد تغسل هموم سنين طويلة، يحاول الكاتب أن يسلسل لنا هذه الصور التي تتراوح أمام أعيننا، وهي تأخذ قلوبنا معها من خلال معالجة درامية لواقع أشبه بالغابة، فيه القوي هو الذي يمتلك الحياة، تأتي رسالة عبر البريد لإنسان مجهول يريد أن يطمع في حبي، لكن كيف وأنا تزوجت القراءة وكتابة القصص، وما أدراك بهذا العالم، ثم تتعدد الصور من خلال السرد القصصي الجميل، فنجد صورتها مع بعض النقاد في أحد المؤتمرات الأدبية، فقد كتب عني أغلبهم، إن لم يكونوا كلهم، كل هذا طمعا في بعض اللمسات من يدي والتخبط بجسدي ومطاردتي ليل نهار من خلال تليفون المنزل، ثم صورتي مع أبي وأمي التي ورثت عنها كل شيء، بعد ذلك تأتي صورة، كلفتني الكثير والكثير صفعة علي وجهي أمام الحاضرين من يد أبي، لأني رفضت أن آخذ معه وزوجته ليلة زفافها صورة.. ثم تأتي صورة مع أصدقائي وصديقاتي في الشركة بمناسبة تكريمي كأفضل موظفة أيضا صورتي مع أصدقائي الأدباء والأديبات، وصورتي مع أخواتي البنات، يحاول الكاتب «محمود أحمد علي» أن يحدد لنا الصور الكثيرة المؤلمة التي تطبق علي أنفاسنا كأنه يريد أن يشعر بداخلنا صرخات الألم أو التعاطف مع هذه المرأة التي عانت من كل من يحيطون بها، الأصدقاء والأقارب، هي تراهم وحوشا ينقضون عليها لأنها تري أنها الفريسة الوحيدة لهم، كل فرد يحاول أن يأخذ نصيبه دون خوف أو رحمة بها، فالكل ينتظر لحظة الرحيل حتي أقرب الناس إليها. صفر الجهاز إيذانا بانتهاء الجلسة. طويت الألبوم اللا مرئي استجمع قواي المبعثرة في محاولة مني أن أرد عليهم جميعا «بالمسد كول» حتي أشعرهم أن جرعة الاشعاعات لم تنل مني بعد، وأن الموت لم يهزمني بعد. ثوب مزركش يحاول الكاتب أن يضفر رؤاه الإبداعية ومعالجاته القصصية من خلال ثوب مزركش يؤكد تماسكه الشديد وجمالياته التي تزيده رونقاً وتأثيرا علي القارئ، يتضح هذا في كل جملة تتشابك مع الأخري، لكي تصنع صورة من الواقع متجزرة بداخلنا، كأننا ننفي أنفسنا، فقصة «اغتراب» مثلا تعزف هذا اللحن الحزين، عندما يطرح قضية هذا الأديب أو الكاتب الذي يجهله قومه أيضا هو صاحب فكر تجاوزت أعماله التسعين كتابا في شتي فروع المعرفة ولم تكرمه الدولة! يروي لنا الكاتب أحداث هذه القصة علي لسان صحفي حاول أن يقدم لهذا الرجل جزءا من مكانته الاجتماعية والفكرية، رغم تجاهل الجميع له وانكار أعماله الإبداعية من خلال حوار صحفي يأمل أن يرد له كرامته ويعيد كيانه الأدبي بشكل يليق به كإنسان، لكن المفاجآت خلال هذه الرحلة القصيرة كانت كالصاعقة التي تحرق الإنسان والصدمات تهوي علي رأسه تجعله يفقد توازنه، الكل يجهله في القرية يعرفونه بأخي المعلم «الجحش» حتي عندما فارق الحياة لم يذهب أحد من أقاربه في الجنازة، أغلي ما كان يمتلك كتبه ومكتبته يدوسون عليها بالأحذية تتناثر الكتب في كل مكان في الشارع بين أيدي الأطفال وغيرهم، الكل يتكالب علي إرثه، فمن يطمع في التليفزيون ومن يطمع في الثلاجة والثالث يطمع في البوتاجاز. هكذا يبدو «محمود أحمد علي» في إبداعاته القصصية حاملا علي كتفيه هموم هذا الوطن، بل هموم هؤلاء المظاليم من أبناء الشعب الصامت الصاعد ضد الفساد والطغيان، وهو يؤكد علي تضامنه مع من داست عليهم خيول الزمن القاسي، كل هذه الأحاسيس والمشاعر تنصهر في بوتقة هذا الكاتب المبدع ليأخذنا إلي قصة تحمل عدة دلالات رمزية «حادثة القطار» وما تطوي أحداثها من بعد فلسفي، يحكي لنا قصة رجل داهمته عجلات القطار، لحظة الفجيعة تتكاثر الناس تلتف حوله من كل جانب يطرحون تساؤلاتهم بجانب معلوماتهم عن هذا الرجل حتي يدركوا هويته التي لا يعلمها أحد، فكل الشواهد تؤكد أنه إنسان نبيل يحمل بداخل جعبته أسرارا كثيرة يحاولون فك طلاسمها التي تتمثل في أحواله وتصرفاته فبائعة الورد تؤكد علي رقة مشاعره ونبل احاسيسه عندما كان يشتري منها باقة الورد كل يوم حاملها بين يديه ينتظر قدوم القطار بلهفة العاشق الولهان، ثم يأتي بائع الجرائد يشيد بإنسانيته أثناء ما كان يشتري منه الجرائد والمجلات، يظهر بعد ذلك عامل النظافة يؤكد هذا المشهد عندما كان يلملم من حوله أعقاب السجائر، ثم تأتي شهادة ناظر المحطة، عندما كان يراقبه داخل محطة القطار يخشي أن يكون إنسانا غير سوي، يحدث تلفيات في مباني محطة القطار، يستكمل الكاتب سرد هذه الصور المركبة التي يشعر القارئ بأنه يحاول أن يبني كيانا مكتملا بكل جوانبه الفنية والأدبية، فالمكان يلعب دورا رئيسيا في قصص كاتبنا بشكل يؤكد توظيف عناصر العمل الإبداعي منغمسا في دواخل النفس البشرية، حتي يأتي ظهور «الصول حسن» الذي يمثل الجانب الأمني في أحداث القصة، لكنه يروي مشاهد ليس بها جديد إلا أنه يؤكد لهفته بقدوم القطار يهرول ناحيته كأنه يفتش عن شخص ما بعينه، عندما يبدأ القطار في التحرك يدس يده في جيبه يخرج قطعة من الورق،خطاب واضح أنه يمثل له شيئا كبيرا إلا أن تأتي اللحظة الفارقة بنزول فتاة جميلة، لكن بعد أن فات الأوان وقضي القدر حكمه بأن يرحل الرجل دون أن يتمتع بحبيبته التي جاءت في وقت لا يمثل إلا بعدا حزينا مؤلما لكل هؤلاء الذين ارتابوا في أمره، هكذا دائما تأتي الفرصة في قصص «محمود أحمد علي» محملة بالبعد الرمزي الذي يجعلنا نفكر كثيرا ونمعن النظر في كل مشهد من مشاهد هذه القصص الجميلة المعبرة. حادثة القطار تمثل قصة «حادثة القطار» تماثلاً في البناء الدرامي الفني لقصة «مسدكول» لامرأة مشعة، يعتمد الكاتب في كل منهما علي بناء اللوحات الزمنية المشهدية للحظة الآنية التي تضيف بعدا فكريا ومعنويا بخلاف التأكيد علي التركيب اللفظي في الجمل السردية التي تبني وتضيف معلومة جديدة، كأنه ينسج ثوبا جديدا تماما من خلال خيوط حريرية شديدة الصنع في التطريز الفني والأدبي حتي يكتمل الثوب محكما بلا ثقوب، فقصة «مسدكول» تعتمد علي المنولوج الداخلي لهذه المرأة التي تعاني لحظة المرض من خلال أكثر من مشهد كما يسميه الكاتب «صور الألبوم» بل أراها مشاهد الذكريات التي تحاول أن تغسل بها همومها أثناء ما تتلقي جرعة الإشعاع، فهي تتذكر كل هذه الصور حتي تقتل الوقت، ويمر بشكل سريع، فهي تقتل اللحظة الآنية من خلال هذه المشاهد التي تداعب فيها ذكرياتها المفرحة الحزينة المؤلمة. أما قصة «حادثة القطار» فالمنولوج خارجي يتمثل في مجموعة من الأشخاص المرتبطين بالمكان بعد وقوع الفجيعة بحادثة القطار وموت الرجل، تبدأ حكايات هؤلاء من خلال مشاهد بنائية سردية للقصة حتي تكتمل الصورة بظهور الفتاة التي كان يعشقها الرجل، وهذا يؤكد علي أن «محمود أحمد علي» يحاول قراءة الواقع من خلال مشاهد الحياة الواقعية، فيبدأ في تسجيلها وبنائها بناء أدبيا خياليا، لكنه يعتمد علي الواقع بل توظيفه بشكل يؤكد علي موهبته الكبيرة، بل يطرح قضايانا الأنية المعاصرة من خلال شكل فلسفي حياتي وما يعانيه الفرد داخل مجتمعه المتمثل في الأسرة أو الوطن! هكذا تبدو مجموعة القصص الأخري التي لم يتسع المقام لإلقاء الضوء علي أحداثها، لكنها تمثل حلقات متصلة في سلسلة محكمة الصنع يحاول الكاتب أن يسلسلنا داخل هذه القصص الجميلة، فهناك «القصيدة والكراسي الخاوية - مشاوير - فنجان من القهوة- بائعة البخور - قيد - غادة - فشلت أن أصبح كاتباً، وغيرها» تاركا للقارئ أن يتخيل أحداث هذه القصص التي تمثل عنوان الكتاب «رءوس تحترق» بل أضيف له عنوانا آخر «قلوب تحترق»!