ما إن قرأت في قصص الأديب المبدع محمود أحمد علي إلا وشعرت بمرارة الواقع المعيش, لأنني أحيا هذه اللحظة الخاطفة التي تجسد عالما من حياة أناس يتجرعون كأس مرار الواقع الأليم كل يوم, بل كل لحظة. لأنه بالفعل هو المعبر عن آلام هؤلاء المهمشين والبسطاء في حياة قست فيها القلوب, وتسابقت العقول علي جمع المال بكل الطرق ضاربين عرض الحائط بهؤلاء البسطاء, وهم عطشي لحياة الإنسان الأوفي الذي يشعر بقيمة وجوده في الحياة لهؤلاء, وأنه دائما في عيون الآخرين. ف محمود أحمد علي يري ما لايراه الآخرون.. يقرأ لحظات الحزن داخل قلوب هؤلاء البسطاء.. وكثيرا ما نري هذه الصورة في جمل وعبارات عدة داخل سياق السرد القصصي ببساطة أديب يؤكد كل يوم فاعليته كمبدع يتلمس قضايا الطبقة المعدمة, فتري مدي صعوبة اللحظة والصورة التي تتمزق لها المشاعر الإنسانية وأنت تقرأ هذه القصة التي تجسد عالما من الكفاح والقهر الاجتماعي الذي يشعرك بأنه اقسي من عضة الكلب, لأن الكاتب يجعلك داخل الدائرة التي تضيق بهؤلاء البسطاء بشكل يجعلك تصرخ.. وتصرخ كأنك تريد ان تنتشلهم وانت مقيد بأغلال الوقت وعقارب الزمن التي أدمت معهم هؤلاء.. ليلة العيد وهي أول قصة في مجموعته تواصل العطش تتسم بالبناء الدرامي المتصاعد الهرمي, يزرع بداخلك اللحظة وهي تنمو شيئا فشيئا إلي أن تصل إلي الذروة, أحلام طفل صغير كل أمله أن يشتري قميصا وبنطلونا وحذاء ليرتديهما يوم العيد, مثل اقرانه في القرية, لا تمتلك والدته الإنسانة البسيطة الفقيرة المعدمة إلا ثلاث وزات هي رأسمالها من الحياة تذهب كل يوم إلي العشة أو مكانهما ومعها طعامهما حبات الذرة والماء, ايضا يساعدها ابنها الصغير في حمل هذه الأشياء البسيطة, بعد أن تأكل الوزات ويشبع. هذه الطقوس اليومية تأخذ من الأم والابن الصغير جهدا كبيرا كل يوم.. انظر معي عزيزي القارئ ما قاله المؤلف في بساطة ويسر علي لسان حال الطفل بطل القصة:( عندما تشعر أمي بأن الجو رطب بعد سماعها آذان العصر المنبعث بقوة من مسجد البلاسي علي الفور تخرجهما من مكانهما وهي تحدثهما في سعادة: ياللا شموا هوي العصاري..). يجسد لنا القاص محمود أحمد علي هذه اللحظات الجميلة التي يعيشها الطفل فلم يتبق علي العيد سوي ايام معدودات والامل يكبر وينمو بداخله عندما يجلس مع اقرانه كل منهم يبوح للآخر بما سوف يأتي له أبوه من ثياب العيد ليتزين بها ويفرح ويمرح سعيدا بما يرتديه, وعندما تسأله الأولاد عن ماذا تأتي له أمه من لباس العيد فيقول وهو سعيد قميص وبنطلون وجزمه من البندر. يسمع ضحكات الأطفال.. يشعر بأنها تخنقه, لاتدري ماذا تمثل له هذه الضحكات العالية؟! هل يستخفون بأحلامه العذراء؟! التي سوف تجهض بعد حين, بل سوف تتحطم أحلامه مهيضة الجناح وتموت فرحة العيد بداخله لكن الامل يزداد بداخله.. لأن رأسماله موجود في البيت.. الثلاث وزات. بعد عودته إلي المنزل يجد والدته تجلس منزوية في جانب من ركن الصالة تندب حظها التعس, بل تشعر بأن الزمن يقسو عليها وعلي ابنها الصغير, يقف الابن في حالة من الذهول تتفاعل بداخله الافكار والقلق علي رأسماله, كأنه يشعر بشيء يفقده توازنه.. يذهب إلي العشة فلا يجد إلا وزتين فقط يعود بسرعة تتسمر قدماه امام والدته.. ينظر لها بحسرة تتفهم الأم سؤاله الذي لم يسأله.. تكون الإجابة قاسية مبللة بالدموع:( الواد حمادة ابن حضرة العمدة المدلع.. ابوه جاب له عجلة جديدة وهو سايقها داس علي رقبة الوزة). من هذه اللحظة الفارقة في حياة الابن الصغير تبدا سلسلة القهر الاجتماعي والسياسي في تحطيم وإجهاض أمل الطفل في اكتمال فرحته بشراء ملابس العيد.. لأن القاهر الاول هو العمدة السلطة الكائنة في القرية, يصمت الطفل منكسرا حزينا يتمزق من الداخل فهو لايمتلك المال أو العزوة حتي يقف امام العمدة ولكن مازال الامل يحدوه ويملأ قلبه بالفرحة. (اليوم ليلة العيد.. أيقظتني أمي من نومي مبكرا بعد سماعها أذان الفجر.. أسرعت معها إلي مكانهما داخل العشة وجدتهما جالستين في انتظارنا) يجعلك الكاتب تعيش داخل هذه التركيبة النفسية الصعبة يهيأ أن هناك علاقة وطيدة بين الابن والام ايضا والوزتين كأنها علاقة صداقة تتسم بالحميمية ليس من السهل أن يتنازل عنها طرف دون الآخر, لكن كما يقولون الحاجة سكين يضعه الزمن علي رقبة المحتاج.. فهو يريد أن يفرح ويمرح مع الأطفال في يوم العيد والأم هي الأخري تغدو سعيدة بمشاعر ابنها فلا تريد أن تحرمه من مشاعر الطفولة مهما كانت الوزتان تمثل لهما من رأسمال كبير.. بعد أن يصلا إلي السوق: (تخيرت أمي مكانا مناسبا وجلست واضعة أمامها الوزتين.. (أمي تجلس دون أن تنطق بكلمة واحدة.. سألتها بدوري: مبتندهيش علي الوز ليه يا أمي؟!! وزنا مفهوش عيب.. لا هو أعوج.. ولا خفيف.. البضاعة الحلوة لها ناسها يا حبيبي) هذه المفردات اللغوية البسيطة التي تتمثل في جمل تحمل دلالة واعية بواقع شديد القتامة يدركه القاص بشكل جيد, فهو يصور لنا هذه اللحظات الجميلة من خلال رؤي ابداعية تجسد قطاعا كبيرا مهمشا في الحياة الريفية التي تعاني الفقر والحاجة والجهل والمرض بشكل يندي له الجبين فالأم هنا تري أن الوزتين كل ما تملك من الحياة.. هما أجمل من كنوز الدنيا, لاتري فيهما إلا الحسن والقوة والجمال, كأنها واثقة من بضاعتها وبالفعل هي الحقيقة ولكن ما أصعب من كلمة تجرح القلب جرحا غائرا, عندما تجر بعدها المفاجآت غير السارة واللحظات المعذبة اثناء ما تفرض السلطة قوتها وظلمها علي هؤلاء المساكين وهي مجردة من المشاعر الإنسانية, وما ادراك بالظلم والقهر والجبروت عندما تمارسه السلطة الغاشمة, يقع علي ظهر الضحية كالسياط التي تلسع الجسد نارا تؤجج الضمائر إلي يوم تقتص فيه المظالم.. الوقت يمر ثقيلا كالكابوس ولاشيء جديدا, الطفل يشعر بأن أحلامه كادت تتبخر, وكأن هناك شيئا يجثم علي صدره يبدد فرحته بملابس العيد التي أصبحت في قبضة السلطة.. (نظرت إلي أمي مرة آخري ثم رمتني بكلماتها: اصبر شوية..) الدقائق تمر بسرعة ولا جديد, والساعات ثقيلة كأنها الدهر كله, الجمل والأحداث تتلاحق لتكشف لنا الورقة الأخيرة مدي الظلم الواقع علينا من هؤلاء الذين يتخفون وراء ملابس السلطة.. (أغمضت عيني بعض الشيء.. أفقت من غفلتي علي دقات سريعة متتالية لم أعهدها من قبل.. رأيت من بعيد أثنين يشبهان خفراء عمدة بلدنا يحملان بندقيتين فوق ظهريهما.. وقفا امامنا..) هنا يصور لنا القاص محمود أحمد علي كيف تحاك المكيدة للاستيلاء علي الوزتين.. يرمون الناس بالتهم ثم يلوحون للضحية بالأمرين.. أن يستولوا علي ممتلكاتهم ويعفوا عنهم, أو السجن وما أدراك بالذي سوف يأتي بعد ذلك, فنجد الضحية تختار السلامة وهي تتنازل طوعا عن كل شيء مهما كان غاليا أو ثمينا.. ( ليه بس يا أخويه هو أنا( لا سمح الله) آذتكم في حاجة.. جالنا شكوي في النقطة بسرجة وزتين.. والوزتين دول ينطبج عليهم نفس مواصفات الوز المسروج.. مش كده يا عوضين..؟!! أيوه تمام..) ثم تأتي النهاية الطبيعية في تلك الظروف الاجتماعية السياسية التي تلتهم حق الضعيف وتسرق قوت يومه وايضا فرحته تحكم عليها بالإعدام حتي تنعم السلطة بكل شيء.. الجاه والمال.. تأتي علي لسان الأم الثكلي بعض الكلمات التي تعزي بها ابنها.. الطفل المسكين الذي بات ينتظر الفرحة التي خنقها الظلم علي شفاه اليتم.. ( معلش يا بني.. إحنا غلابة, مالناش حد يقف جنبنا.. حكم القوي علي الضعيف..) هكذا يبدو محمود أحمد علي في رؤاه الإبداعية صادقا معبرا عن هؤلاء فهو صوت الحق الذي يصدر ويعلو في أجواء الظلم حتي ينعم الوطن بالحرية وقد كان..!! وما اكثر القصص السوداوية داخل هذه المجموعة القصصية التي دائما ما نستمتع بأحداثها وبأسلوبه البارع وبلغته البسيطة السهلة التي يدركها القارئ, عندما تقع عيناه علي قصصه العذبة الشائكة دائما, والتي تجعلنا نثور علي الظلم الاجتماعي, بل نرفضه بكل اشكاله المهينة التي تذبح مشاعرنا.. د. جمال عمر باحث وناقد