الإبداع ابن بيئته، يتحدد بمحدداتها، ويتغير بتغير هذه البيئة، ولذا ظهرت القصة القصيرة جدا، والشعر المنثور، واللوحة السيريالية المتداخلة، والعباقرة دائما يبدعون تبعا لأمرين: فهمهم لذوق متلقيهم، وشعورهم بمسئولية التغيير لهذا الذوق، فكما قال نجيب محفوظ في "أصدائه " علي لسان الشيخ عبدربه التائه: «جاءني قوم وقالوا إنهم قرروا التوقف حتي يعرفوا معني الحياة، فقلت لهم تحركوا دون إبطاء، فالمعني كامن في الحركة» . وهكذا يلتقط دكتور طه حسين فكرة التغير ويبدع من خلالها كتابا نادرا في أدبنا العربي، إنه "جنة الشوك ". «جنة الشوك» عنوانُ كتابٍ ذكىٍ لكاتبٍ بقيمة طه حسين، ففيه تجد لذة الشوق لدخول جنة المعرفة، لكنها جنة بها أشواك تصطدم بالأحداث والعقول لتُحدث هِزةً فكريةً بفنٍ قد نفض الكاتب الغبار من عليه يسمي «الإبيجراما» لكن طه حسين ألبسه ثوب النثر لا الشعر، عُرف عن اليونانيين واللاتينيين ويعني النقش علي الحجر حين كانوا ينقشون أشعارهم علي قبور الموتي وفي معابد التماثيل وبمرور الزمن حُفِظت في الصدور، " فن الإبيجراما "هو الفن الملائم لكل العصور وليس عصر طه حسين فقط لما يمتاز به من قصرٍ يتوافق مع سرعة العصور، كذلك ثوب الألفاظ الرشيقة الذي يزين الإبيجراما حتي تصل بنا إلي ما تريد، والوتر الذي يمس كل النفوس الحائرة لإبراز صورة وعيوب المجتمع أو يتلامس مع فكرة صارخة أو شخصية ما بنقد راق يهدف لصحوة أكثر من صراخ . إبيجرامات ونقوش أما عن إبيجرامات طه حسين فهي موج يعلو ويهبط في كتابه، ، أري أنها مُيزتْ بملامح فنية راقية ، فتري فلسفة واضحة في مسمي العناوين فهي أسماء ممتدة تُلقي بظلالها علي جوهر القضية المطروحة " كدعاء " والذي يعلي من شأن الدعاء لله تعالي ونراه قاصداً كون العنوان كلمة واحدة في كل إبيجراماته ليعبر بحر الملل إلا عنوان واحد " بعد فوات الوقت "، وقد صنع طه حسن معجماً هجائيا في "إبيجراماته" حين عَمِدَ إلي تسميتها بكلمات تبدأ بكل حروف اللغة العربية "إلا حرف الشين" وأظنها سهواً منه حتي يسهل للقارئ الحصول علي "الإبيجرامة"، وقد ابتكر طه حسين شخصية الأستاذ الشيخ والطالب الفتي ليحدث حواراً فكرياً بينهما، فهذا الطالب الفتي دائم السؤال بشغفٍ للتعلم فيسأل في العلم والدين والسياسة والتاريخ، وهذا الأستاذ الشيخ " الخبرة والتاريخ" يعطر ردوده بوقائع تاريخية وبتفسير ديني أمثال و أشعار عربية وغربية لتحقيق المراد. قلما نجد الإبيجراما خالية من طرفي الحوار "الطالب والشيخ" وتري ذات الكاتب حاضرة في بعض إبيجراماته ليطرح وجهة نظر ثالثة تعبر عن الآخرين مثل "ضمائر،حين ىُصر الكاتب علي ذكر عبارة" وكنت موجوداً لتوثيق فكرته. صياغة فنية أما عن جسد الإبيجراما فقد اعتبرها طه حسين رضيعاً انكب علي رعايته وتغذيته بكل ألوان الثقافات والأحداث والشخصيات التاريخية وزينها بذكر آيات القرآن الكريم لتدعيم موقفٍ ما أو توضيح فكرة بعينها، وتشع الروح الدينية والأجواء الروحانية في أغلب الإبيجرامات مثل «وعد، نور»، لبيان مقصده وترفرف روح المتنبي شعرا وحكما ويجسد عشقه في قوة استشهاده بأشعاره لتكون سنداً في إيصال فكرته، كذلك يصادق روح ابن قتيبة ولا ينفصل الأديب طه حسين عما يكتب في إبيجراماته فتطل ثقافاته الجمّة علينا من نافذة الفكر بأبياتٍ لشعراء وقصص لفلاسفة عرب وغربيين أمثال قصة " دون كيشوت" لسرفنتس، والشاعر اللاتيني جوفينال، وكاتول، وأقوال بعض المؤرخين الرومانيين الذين يتوافقون مع فكرة إبيجراماته ، وتراه لا يكل عن نثر إسقاطاته، فظلال الحكم والحكام تخيم علي سماء الكتاب وهي القاسم المشترك الأعظم في فكره حين ينتقد الأنظمة والشعوب وخذلهم وطمعهم ونفاقهم مستشهداً بقصص وشخصيات وأمثال لتوضيح الفكرة عن طريق الحوار بين الطالب الفتي والأستاذ الشيخ . ملامح فنية من أهم الملامح الفنية المميزة لإبيجرامات طه حسين في كتابه هي "ملمح القصصية" الذي يظهر براعة الكاتب الأديب كقاص محترف و"فن الإبيجراما كما ذكرنا سابقاً"هو الفن الملائم لكل العصور وليس عصر طه حسين فقط لما يمتاز به من قصرٍ يتوافق مع سرعة العصور، كذلك ثوب الألفاظ الرشيقة الذي يزين الإبيجراما حتي تصل بنا إلي ما تريد، والوتر الذي يمس كل النفوس الحائرة لإبراز صورة وعيوب المجتمع أو يتلامس مع فكرة صارخة أو شخصية ما بنقدٍ راقٍ يهدف لصحوةٍ أكثر من صراخ . وتتجلي موهبة طه حسين بشدة هنا ككاتب للقصة القصيرة أو حتي الأقصوصة حيث توفرت عناصر القصة الفنية من فكرة وحوار وشخصيات وحبكة وصراع وبداية ونهاية ويتجلي هذا في ابيجرامة "مجون" وعدد من الإبيجرامات تتحدث عن "شهريار" حين يكتمل عقدها بحوار مميز بين شهريار وشهرزاد في استدعاءٍ مدهشٍ للتراث الشعبي مستوعباً كل قضايا العصر الراهنة . فتعلو مقدرة وبراعة الكاتب في جعل الإبيجراما الصغيرة فضاءً لقصة قصيرة لبعث غايتها في النفوس اعتماداً علي عنصر التشويق مثل ابيجرامات بعنوان "فن وخصام وموعظة". حتي لنصل لملمح يكاد يسير متوارياً بين ثنايا الكلام وهو سريان روح الفكاهة التي تمتزج بجزالة الكلام وقتامة الأفكار لتشع جواً من المرح الجميل المنتهي بجملٍ تطير بقارئها خارج إطار الجد لتصطدم بالخيال الضاحك مثل " رقص وفطرة" ويعبر الأستاذ الشيخ عما نقول في "روغان" حين يقول للفتي : يعطيك من طرف اللسان حلاوة.. ويروغ منك كما يروغ الثعلب . الخيط الرفيع يتعمد طه حسين أن ينسج خيطاً رفيعاً في إبيجراماته يفصل بين إشاعة روح الفكاهة والسخرية من دوام الحال الراكد في أغلب مواقف الحكام والشعوب مثل " نزاهة التي تتحدث عن نزاهة الحكم ثم يختمها بابتسامة حائرة ذاكراً ملء يدي الحاكم بالمغانم والأسلاب وكذلك في تعفف"، ونري الكاتب يثير بعض الألغاز الفكرية حين تُطرح الإجابة علي لسان الشيخ الأستاذ ويطالبه الطالب الفتي بالتفسير واصفاً عدم فهمه باللغز قاصداً الكاتب هنا إثارة العقل وتحريك مياه الفكر الراكدة. تبرق براعة طه حسين حين يذكر أسماءً مترادفة لإبيجرامات عديدة ليظنّها القارئ تعبر عن مغزي واحد لكنها تتباري في مفهومها الفكري والنفسي مثل "نفور وصد وهجر" . لاشك أن طه حسين قد بلغ غاية البراعة وروعة التصوير في هجاء ونقد الشخصيات والسعي لكساء اللفظ بأبهي الحُلل اللفظية مع مراعاة قصر وسهولة الجُمل المُعبرة، واستطاع أن يجعل كتابه مائدة عامرة بإسقاطات سياسية واستشهادات تاريخية وأمثال وأبياتٍ شعرية وثقافات غربية، حين استدعي ضيوفه الرائعين النابغين كأمثال المتنبي والمنصور وأبي نواس وابن قتيبة والشعراء الغربيين وأحاط إبيجراماته بجو إيماني بذِكرِه الدائم لآيات القرآن الكريم وتفسيرها، ليتحول كتاب "جنة الشوك" إلي جنة وارفة لمن يريد الدخول فيها والتجوال بحرية شريطة امتلاكه سعة الأفق وثقافة الحوار اللتين تبيحان له التحرك بقوة لتَحَمُّل السير علي أشواك جنة معرفته اللذيذة .