صدر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتاب "فنون الأدب" للأديب ه. ب. تشارلتن، وقام بترجمة الكتاب إلي اللغة العربية الفيلسوف الكبير الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود. ففي الفصل الأول من الكتاب بعنوان "ما الشعر؟" يعرف المؤلف الشعر انه ألفاظ، كما تتألف سائر ضروب الكلام، فكل ما للشعر من سحر يفتن القلوب، إنما هو سحر صادر عن الألفاظ. واللفظ كما يعرفه المعجم اللغوي "صوت أو مجموعة أصوات تواضع الناس علي أن تكون جزءا من الحديث لتنقل بينهم فكرة من الأفكار". والشعر مفعم بالمعاني، لأن الشاعر يريد بالألفاظ حين يستخدمها أكبر قسط من معانيها ومشاعرها المخزونة، والقصيدة الجيدة هي التي يستخدم فيها الشاعر الألفاظ بحيث تؤدي معانيها كاملة، والشاعر الحق هو الذي يتميز عن سائر البشر بإدراكه لما للألفاظ من قوة، ثم سرد المؤلف بعض التطبيقات العملية لكبار الشعراء العالميين، ففي قصيدة للشاعر الانجليزي الشهير وردزورث بعنوان "الحاصدة المنفردة Solitary Reaper" وفيها ينصت الشاعر إلي فلاحة انجليزية تحصد الحقل وهي تغني بصوت شجي، فيعجب الشاعر بغنائها ويكتب هذه القصيدة: «انظر إليها في الحقل وحيدة تلك الفتاة الريفية في عزلتها تحصد وتغني بنفسها قف هاهنا أو أمض هادئا قف وانصت فالوادي العميق فياض بصوت النغم». يتعمق الشاعر في صوت الفتاة فيشبهه بصوت البلبل، ثم يكتب هذه الأبيات :- إن بلبلا قط لم يغرد بهذه الطلاوة للحشد النائم ان صوتا كهذا يهز النفس لم تسمعه آذان من الوقواق المغرد إبان الربيع يشق سكون السحار يعود الشاعر يتأمل في غناء الفتاة، ويتساءل عما يكمن وراء هذا الغناء من مشاعر حزن وألم فيقول: هلا وجدت من يحدثني بماذا تغني؟ فربما فاضت هذه النغمات الحزينة من أجل ماض سحيق شقي قديم ومعارك انقضي عهدها منذ زمن بعيد أم تراني أسمع نغما متواضعا نغما لا ينبؤ بمعناه عن شئون العصر فيه ما في الحياة الجارية من ألم وفقد وأسي مما شهدته الحياة، وما قد تعود فتشهده قراءة الشعر من وجهة نظر المؤلف ليست عملية عقلية، فالعقل هنا يأتي في المرتبة الثانية، فلا يجوز لك أن تقرأ القصيدة لتحكم علي رأي الشاعر بالصواب أو الخطأ، فليس الشاعر فيلسوفا يبسط رأيا يحتمل الصدق أو الكذب، لكنه شاعر يحس، وله كل الحق أن يحس كما يشاء، قراءة الشعر عمل فيه شيء من الخلق والإبداع، فيه هضم لما تقرأ فالقصيدة من الشعر تعبير عن تجربة مارسها الشاعر، هي سلسلة من الأفكار والمشاعر تتولد في ذهن الشاعر عن موقف بعينه، ثم تودع في قوارير الألفاظ لتبقي أبد الدهر متعة لمن يشاء أن يفتح هذه القوارير، فلكي تقرأ القصيدة، من الشعر لابد لك ان تتناول هذه القوارير اللفظية واحدة بعد واحدة، فتفرغها في شعورك وتتمثل ما أفرغته في دمائك. المقال والقصة في فصل تال يناقش المؤلف تاريخ كتابة المقال، حيث يذكر مؤرخو الأدب أن"مونتيني" هو مؤسس هذا الفن ومنشئه في القرن السادس عشر، فلقد أحس في نفسه الرغبة أن يكتب شيئا يختلف في جوهره عما ألف السابقون أن يكتبوه، ولم تكن مصادفة أن تنشأ المقالة الأدبية حين تحكمت النزعة الفردية في عقول الناس وسادت تفكيرهم، فطبيعي لهذه النزعة الفردية الطاغية أن تبحث لها عن مخرج، ولم يكن مصادفة أن ينشأ أدب التراجم في صورة جديدة، فلأول مرة في تاريخ الأدب كتبت سير الرجال بدقائقها الشخصية وتفصيلاتها الذاتية، والذي يحدد أسلوب الكاتب عناصر ثلاثة هي : استخدامه لألفاظ معينة تميزه عن سواه، ثم اتباعه لطريقة معينة خاصة به في ترتيب هذه الألفاظ، ثم معالجة موضوعاته علي نحو ينفرد به . عن فن القصة كتب المؤلف عنها فصلا كاملا جاء فيه أن القصة أداة تعبر عن الحياة الجارية المألوفة الشائعة التي لا غرابة فيها أو شذوذ، والقصة تتميز عن سائر فنون الأدب بطابعين هما، لغة النثر السائدة فيها والطول، فالقصة الجيدة هي التي تستغل كل ما للنثر من قدرة علي التعبير، فللقصة أن تطول أو تقصر حسب الاحتياج، ولقد ازداد الاهتمام بفن القصة بنمو البحث العلمي في تلك الفترة عن طريق الجمعية الملكية عام 1662م، فكما أرادت الملاحظة الخارجية تسجيل العالم الخارجي كما تراه العين المجردة، أرادت الملاحظة الباطنية تسجيل العالم النفسي كما يراه من يستبطن نفسه، ونري ظاهرة الاسبتطان النفسي ظاهرة في جلاء في رواية "رحلة الحاج " لجون بينان، ثم سار التحليل النفسي خطوات أخري إلي الأمام، ومن هنا أخذ الكاتب لا يحلل نفسيته فقط بل نفسية الآخرين، ومن هنا نشأ لون جديد يعني بتصوير الشخصية البشرية، كما جاء عصر الديمقراطية والثورات الانجليزية والفرنسية ليرفع من قيمة الطبقة الوسطي والدنيا، وجاء فن القصة ليعبر عن مطالب واحتياجات هذه الطبقات، وفي القرن التاسع عشر ازدهر فن القصة كثيرا علي يد "جين أوستن " و"والتر سكوت " و"تشارلز ديكنز " الذي عالج في قصصه عالم الفقراء واللصوص، فجاءت قصصه بمثابة مرآة للحياة كما تجري، ثم جاءت الأخوات برونتي " لتبدأ القصة علي أيديهن عصرا جديدا تمثل في رائعة شارلوت برونتي "جين أير "ورائعة أميلي برونتي "مرتفعات وذرنج " المسرحية أما عن المسرحية، فهي تكتب لتمثل، والتمثيل يدخل فيه عدة عناصر مثل الممثلون والملابس والاضاءة والديكور، ولقد اهتم المسرح بالعنصر الاجتماعي كثيرا، وهذا واضح جدا في مسرحيات أبسن، وشو، وجولزوذي .... الخ، ولهذا السبب ظهر كثير من كُتّاب المسرح الذين يتبنون الاتجاه الاشتراكي . أما عن الفرق بين الملهاة والمأساة، أن المأساة تمثل صراعا، سواء كان هذا الصراع بين أفراد المسرحية، أو بين البطل ونفسه، بين دوافعه وعوارضه المتعارضة، بين واجبه الوطني وولائه لأسرته، بين الحب والواجب، بين العقل والعاطفة .... الخ، ويشترط لخاتمة المأساة أن تكون نتيجة طبيعية لطبائع الأشياء، حتي يشعر المشاهد أنها متفقة مع ما يسود الكون كله من سببية مطردة، فلا يجوز أن يجيء موت البطل في النهاية بفعل المصادفة التي لا تجد مبرراتها في فصول المسرحية، والمأساة تبحث عن القوي النظرية والقوانين العامة التي تسير الحياة، والمأساة بهذا المعني تعبر عن فلسفة عصرها، فالمأساة سلسلة من الأفعال يتلو بعضها بعضا، وينتهي بها البطل إلي قضائه المحتوم، فواجب الكاتب المسرحي هنا أن يحبك هذه المراحل حبكا محكما، بحيث يبدي لنظارته لا يقبل الشك أن البطل سائر في طريقه ذاك مسيرا بتلك القوة العليا . أما في الملهاة، فالحوادث أقل شأنا وأخف وزنا منها في المأساة، فالملهاة تختار الحوادث السطحية التافهة، وجمال الملهاة أنها تأخذ الأمور كما هي، ولا تبحث عما يمكن أن تكون عليه، تأخذ العالم كما يبدو للعين، وحكم البداهة في الملهاة هو مفتاح السعادة والنجاح في هذه الدنيا التي نحياها، وغايتها هي امتاع المشاهدين، والمبادئ التي يخرج عليها بطل الملهاة هي التقاليد السائدة في جماعة، وليست هي النظم الأبدية الثابتة في الخير والشر والصواب والخطأ .