عن المبادئ التي أرساها الإسلام حول العدل الاجتماعي (وهي مبادئ لا نزاع عليها) كتب الدكتور محمد عمارة مقالا بجريدة الأهرام بتاريخ 10/8/2011 يحمد للشيخ محمد الغزالي تمسكه بتلك المبادئ السديدة التي أرساها الإسلام بغية تحقيق العدل في المجتمع الإنساني ، وهذا أيضا ً غير مختلف عليه . لكن الخلاف يظل قائماً بين أصحاب النزعة العلمية وبين حاملي الأيديولوجيا . وآية ذلك أن الأيديولوجيين يحملون معهم أينما ولوا أفكارا ً جاهزة ومسبقة تدفعهم إلي تلوين الواقع بما ليس فيه ، وهم مستعدون لبتر أقدام الواقع أو حز رأسه ليطابق سريرا ً أعدوه لنومه ما دام السرير قد ُفصّل علي مقاس مبادئهم الصحيحة ! أما العلوم الإنسانية فمهمتها تحويل المبادئ إلي نظريات تفسر الأفعال وتتنبأ بالمستقبل، وفي الحالين فهي تحتمل التصويب وتقبل بالتخطئة، ولا غرو أن تغدو هذه النظريات في مجال التطبيق سياسات وبرامج قابلة للتغيير والحذف والإضافة .. خذ مثلا النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد التي مهد لها فلاسفة القرن 17 هوبز ولوك وستيوارت ميل علي أساس مبدأ "طبيعي" يري أن المجتمع هو مجموع أفراده، وعليه فإن الخير العام يتحقق تلقائيا ً من خلال تحقيق خير الفرد، وإذ يسعي هذا الفرد لتوفير أقصي قدر من المنفعة لنفسه فإن علي الدولة ألا تقف في وجهه بل تشجعه حين يقيم المصانع ويستثمر الأموال كيف يشاء دون أي تدخل منها، أما من يعجزون عن الادخار ومن ثم الاستثمار في المجالات الاقتصادية فلهم أن يعملوا أجراء عند القادرين Laissez Fair ومن بعد هؤلاء أرسي دعائم النظرية الاقتصادية الفيلسوف الانجليزي آدم سميث(ت 1790) الذي بفضل نظريته الليبرالية تجاوز نشاط الرأسماليين حالة العشوائية إلي الاندماج في "نظام" رأسمالي معترف به ذي قواعد وأصول. ومع ذلك فإن "ريكاردو" (ت 1823) الذي قرأ في شبابه كتاب سميث " ثروة الأمم " ما لبث حتي أصلح بعضا ً من مثالب تلك النظرية بإضافته تحليلات مسألة الريع الناتج عن امتلاك مورد طبيعي للثروة ، بحسبانه سلوكا ً يؤدي إلي استيلاء من لا يعمل علي معظم فائض القيمة الاجتماعي وبذلك يضر الرأسماليون والعمال معا ً. وجراء تنظيرات ريكاردو هذه انتفت حجج القائلين بعدم مشروعية تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي. وفيما بعد سيطور كارل ماركس نظريتي سميث (القيمة أساسها العمل) وريكاردو (رأس المال نفسه هو عمل سابق متراكم) مؤسسا ً عليهما نظريته الاشتراكية. ذلك فيما يتعلق بالنظريات، أما السياسات فيكفي الإشارة إلي تعددها ما بين ليبرالية كلاسيكية: ترك الأسواق لقانون العرض والطلب، إلي توجيهات لورد كينز( ت1946) بضرورة تدخل الدولة سياسيا ً وماليا ً للتحكم في العملية الاقتصادية من خلال سياسة الضرائب المتصاعدة والتخلص من الفائض السلعي ولو بتدميره لضمان استمرار التشغيل الكامل للعمالة (ما مهد لتدخل الدولة كشريك رأسمالي لعقود تالية) ثم إلي سياسات الليبرالية الجديدة والتي بموجبها ترفع الدولة يدها عن معظم الخدمات المقدمة للمواطنين (التاتشرية والريجانية ) وواضح أن تعددية السياسات هذه إنما تبين عقم الوقوف عند حدود المبادئ العامة ، فالحياة أشد تعقيدا ً وأكثر ثراء من أن تختزل في عبارات براقة ولكن ليس لها مضمون. شعبوية المفكر الإسلامي إن المتأمل في تاريخ الفكر الإسلامي سوف يدرك - بخلاف بعض الإشارات الضنينة عند ابن خلدون وابن قتيبة والمسعودي - أنه لا يوجد ما يعرف بالنظرية الإسلامية في الاقتصاد اللهم الاجتهادات النيئة لمصطفي السباعي القائمة علي منهج التلفيق بين الماركسية والليبرالية، وعلي هامش تلك الاجتهادات اقترح الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - عددا ً من رءوس الموضوعات دون تأسيس نظري ولكن بشعبوية " تضرب بحذائها ماركس " بحد تعبير الدكتور محمد عمارة !! هذا التعبير الذي ضمن به تصفيق الذين لم يسمعوا بل قرءوا كتاب رأس المال أو كتاب "بؤس الفلسفة " أو حتي " مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي " التي أقامت الدنيا ولم تقعدها بعدُ. وما من شك في أن الدكتور عمارة قد قرأ هذه الكتب وقت تأليفه لكتابه الرائع " " المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد" والذي قام بعده بتحقيق " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال " ما ألمع بظهور مفكر إسلامي حداثي من الطراز الأول. فكيف وقد أمسي اليوم يشار له بالبنان، يتقاعس عن انتقاد فكر ماركس (أو غيره ) بأسلوب علمي رصين مستبدلا بهذا الأسلوب ضربَ رءوس المفكرين بالأحذية؟! البرنامج الاقتصادي للشيخ محمد الغزالي يقدم لنا الدكتور عمارة بسعادة من وجد كنز مقترحات الشيخ محمد الغزالي لحل المشكلة الاقتصادية مطلقا ً عليها اسم " البرنامج" حيث تتمثل في نقاط ست هي : 1 - تأميم المرافق العامة، وجعل الأمة هي الحاكمة الأولي لموارد الاستغلال، وإقصاء الشركات المحتكرة لخيرات الوطن، أجنبية أو غير أجنبية، وعدم إعطاء أي امتياز فردي من هذا القبيل 2- تحديد الملكيات الزراعية الكبري، وتكوين طبقة من صغار الملاك تؤخذ نواتها من العمال الزراعيين3 - فرض ضرائب علي رءوس الأموال الكبري، يقصد بها تحديد الملكية غير الزراعية. 4- استرداد الأملاك التي أخذها الأجانب وإعادتها لأبناء البلاد، وتحريم تملك الأرض المصرية علي الأجانب تحريما مجرما. 5-ربط أجور العمال بأرباح المؤسسات الاقتصادية التي يعملون بها، بحيث تكون لهم أسهم معينة مع أصحابها في الأرباح. 6 - فرض ضرائب تصاعدية علي التركات تنفق في أوجه الخير علي النحو الذي أشار إليه القرآن. هكذا تكلم الشيخ فماذا كان تعليق الدكتور؟ قال: هذا برنامج يتضاءل بجانبه برنامج الحزب الشيوعي. وبغض النظر عن جدارة أو خيبة الحزب الشيوعي أو الحزب الاشتراكي أو غيرهما من الأحزاب السياسية؛ لابد من إدراك أن برامج الأحزاب لا تكتب في غرف التأمل الفردي المغلقة، فتلك غرف لا تخرج منها سوي أمنيات أو "مطالب" هي في الغالب الأعم تعبير عن رؤي يناقض بعضها بعضاً. ومثال ذلك أن المطلب الخامس الذي يرجي به مشاركة العمال في أرباح الشركات لا يمكن تحقيقه في ظل النظام الرأسمالي العالمي في مرحلة ليبراليته الجديدة التي أشرنا إليها آنفا ً، فضلا عن تناقضه مع مبدأ إقصاء الشركات الأجنبية الوارد في المطلب رقم (1) من حيث أن الدولة وهي تضع في اعتبارها شروط التنمية الاقتصادية تكاد تتسول الاستثمارات الأجنبية والمحلية بل وتقدم لها من الحوافز والإغراءات الشيء الكثير. وظيفة الحزب السياسي في المجتمع الرأسمالي لا يمكن الحديث عن مصالح عامة بل عن مصالح طبقية متناقضة، ومن ثم تنشأ الأحزاب السياسية معبرة عن هذا التناقض خاصة بين الطبقة المستغلِة والطبقات المستغلَة، ومع ذلك فقد يعبر عن الطبقة الواحدة أكثر من حزب حسب التوجهات الأيديولوجية لهذه الشريحة من الطبقة أو تلك بما يؤدي لصراعات ثانوية فيما بينها(مثال ذلك الحزب الوطني والحزب الناصري والإخوان المسلمون وغيرها ) ويعتبر الحزب قويا بمقدار نجاحه في ترجمة المبادئ المرضية لأعضائه إلي تأريخ يفسر وقوع الأحداث الماضية (الخط السياسي) ونجاحه ثانيا ً في السير علي هدي تلك المبادئ إلي غاية يحددها (الاستراتيجية) وثالثاً بقدر ما يتمكن من العمل علي توجيه دفة الأحداث لبلوغ تلك الغاية ( وهو ما يسمي بالتكتيك) وأخيرا ً يتم فصل هذه العناصر الثلاثة في هيئة برنامج توكل صياغته إلي المتخصصين داخل الحزب، بعد مناقشات مستفيضة من الكوادر الحزبية، وربما التشكيلات القاعدية في بعض الأحيان. فأين هذا العمل الجمعي الدءوب من مجانية التفاخر بآراء أوردها شيخ ، دون شك هو جليل مبجل، إنما لا شأن له بالعمل الحزبي ولا تربطه علاقة بتعقيدات العالم المعاصر في تناقضاته وتداخلاته وشركاته عابرة القارات، ومنظماته السياسية و"بورصاته" المالية ومؤسساته النقدية وآلياته الاقتصادية الحاكمة؟ والحق أنه لا تثريب علي كائن من كان فيما يقترح أو يتصور من حلول للمشكلات، أما أن توصف هذه المقترحات بأنها تعبر عن الفكر الإسلامي (الذي هو في نظر البعض قادر علي هزيمة أي فكر آخر) فهو ما لا يمكن قبوله سيما حين يصدر عن مفكر بقامة الدكتور عمارة يعرف أن أفكارا ً كهذه لا تصمد للنقد، ولا تصلح للتطبيق بل تصلح حسبُ لتهليل العامة ، وطمأنة المتأدلجين ، وتسكين آلام المتوجعين. النتيجة العملية لهذا كله أن تبقي المجتمعات الإسلامية راكعة عند أطراف النظام الرأسمالي العالمي تتحسر علي مبادئ العدل بينا ُيمارس الظلمُ فعلياً علي أرض الواقع.