علي ضفاف ترعة المحمودية بالإسكندرية نشأ سيف وانلي (1906:1979) واتجه في طفولته بشكل تلقائي إلي التصوير بالزيت والفحم بعيدا عن التعاليم المدرسية وبغير إرشاد من أحد. ولأن هذه النشأة كانت في السنوات التي مهدت لثورة 1919 غلب علي هذه المرحلة المبكرة من حياته الفنية تصوير الجموع، تعبيرا عن هذه الثورة الشعبية وعن تطلعاتها المدنية التي تجلت في نحت محمود مختار، وموسيقي سيد درويش، واقتصاد طلعت حرب. ولو ان سيف وانلي عاش حتي 25 يناير 2011 لانخرط في جموعها المحتشدة في ميدان التحرير وصاغ في فنه أهدافها في العدل والحرية والكرامة الإنسانية. الحديث عن سيف وانلي يبدأ بالحديث عن الإسكندرية التي ارتدت عبر تاريخها الطويل أثوابا مختلفة من المدنيات والحضارات لما لها من تأثير كبير علي شخصيته الفنية وفي تعميق رؤيته الجمالية. الشقيق أدهم يذكر سيف في الحوارات التي أجريت معه في الصحافة أن الشرارة التي أثارت في نفسه وفي نفس شقيقه أدهم (1908:1959) الرغبة في تكريس حياتهما للفن ، كان معرض «جماعة الخيال» التي أسسها في القاهرة محمود مختار سنة 1927 واشترك معه في معرضها الأول محمود سعيد ومحمد ناجي. غير أن سيف وأدهم لم يتمكنا من التفرغ الكامل للإبداع إلا بعد أن قطعا شوطا طويلا في الإنتاج الفني، كان مع ذيوع صيتهما في الأوساط الفنية بمثابة صك الاعتماد في الحركة الفنية الذي يفوق في قيمته أرفع الشهادات الأكاديمية . أما قبل ذلك فكانت الوظيفة الصغيرة لسيف في مصلحة الموانئ، كما كانت وظيفة أدهم في مخازن وزارة المعارف، زادهما الوحيد للحياة المتقشفة التي لم تؤثر بالسلب علي انكبابهما علي الفن، بعد أن تنتهي ساعات العمل المملة، ويأخذان قسطا يسيرا من الراحة والطعام. لهذا ظل سيف وأدهم بعيدين عن صراعات الفنانين التي لا تتوقف، عن منافسة بعضهم البعض يتمتعان في محراب الفن بالسلام والهدوء، وبحب المبدعين من كل التيارات وتقديرهم لها. ليس هناك من الفنانين الذين تأثرا بهم في الإسكندرية غير الفنان الإيطالي أتورينو بيكي الذي يرجع إليه الفضل في اكتشاف موهبتهما الفطرية وشحذ خيالهما الذي اغتني بالتردد الدائم علي مراسم الفنانين الخاصة، والاطلاع الواسع علي كتب ومجلات الفن الأوروبي التي كانت تصل إلي المدينة قبل نشوب الحرب العالمية الثانية وبعدها. لم يبدأ سيف وشقيقه عرض أعمالهما إلا في 1942 في سن الحرفية والنضج، وفيها امتزج الحس القومي في هذه الأعمال بالتيارات العالمية الحديثة، وتناغمت مشاهد الحياة الواقعية للإسكندرية وعواصم العالم مع الحياة الفنية والمسرحية والبيئة الشعبية في مصر بالبيئات المشابهة في الشرق والغرب. كان أكثر ما جذبهما في هذه البيئات كلها، شواطئها وشوارعها وميادينها وحدائقها وفرق الباليه والسيرك التي تشتهر بها. من خلال المعارض التي أقامها سيف وانلي في الخارج حقق شهرة عالمية لم يظفر بمثلها فنان مصري في العصر الحديث وهو مقيم تحت سماء الإسكندرية بعيدا عن أضواء القاهرة علي أقل تقدير. تعد أعمال سيف وأدهم في الباليه والسيرك ومصارعة الثيران من الأعمال التي تقف علي قدم المساواة مع أعمال ألمع الفنانين العالميين في هذا المجال. الفن التجريبي علي المستوي المحلي حصل سيف وانلي في 1973 علي جائزة الدولة التقديرية في الفنون إلا أن التقدير الرسمي لسيف وأدهم لم يقتصر علي حصول سيف علي هذه الجائزة الرفيعة، وإنما تعداها بحصولهما من وزارة الثقافة في 1959 علي منحة التفرغ مدي الحياة. فن سيف وانلي فن تجريبي آسر، يعلو علي كل تصنيف، ولا ينتمي إلي مدرسة محددة، أو يخضع لقواعد ثابتة تقيد انطلاقه الحر. وما يمكن أن يقال عنه انه فنان متجاوز التقاليد الكلاسيكية بعد استيعابها، لا يقف عند الشكل الخارجي للمرئيات، أو عند الخبرات الأولي للتجارب. لكنه يبحث عن الروح والحركة والصراع الكامن الذي يومئ إلي هذه الروح التي ترتبط فيها المادة بالطاقة والأشياء والأحداث بالرمز. تتسم هذه الأعمال بانفساح المساحات وسخاء الألوان واللمسات الشعرية الموقعة التي يتوازن بها تصميم اللوحة وبنائها المحكم الذي تتجلي فيه الأشكال والعناصر والقيم التشكيلية في أبهي صورها. سيف وانلي من الفنانين الذين اهتموا جدا بتكوينه الثقافي بالنهم في قراءة الكتب وسماع الموسيقي ومشاهدة المسرح والتجول في المتاحف والمناطق الأثرية وقاعات الفن وتصفح وجه المدن والطبيعة. كثيرا ما كان أهل الإسكندرية الذين يعرفونه يرونه في أول المساء بعد غروب الشمس يذرع شوارع الإسكندرية من جهة البحر بلا صحبة أحد وهو في حالة من التفكير والاستغراق لا تغري أحدا بالحديث معه، أو اعتراض سيره. أرصفة الإسكندرية ومن بين أعماله الغزيرة التي تبدد الكثير منها بعد رحيله علي أرصفة الإسكندرية، كان سيف شغوفا بتصوير نفسه. هذا الاسكتش صورة شخصية لسيف بشعره المنسدل علي الجانبين واعتداده بذاته، رسمها علي الورق بخطوط الفولماستر الأسود، في لحظات معدودة كأنه يريد أن يكتب بها الصفحة الأولي من سيرته الذاتية، كي يحفظها من الزوال ، تخليدا لأسمه كما خلد هذا الاسم فنه.