الحديث ومن استشهد بهم «محرم» نبغوا في الخمسينات والستينات أتابع ما يكتبه الصديق العزيز السيناريست الكبير مصطفي محرم في جريدة «القاهرة» خاصة فيما ينشره عن حياته في السينما، وهي رؤية بالغة الخصوصية يروي فيها تجربته وشهادته علي أكثر من أربعين عاما من الإبداع والنشاط السينمائي، قدم خلالها عددا من الأفلام المهمة نذكر من بينها علي سبيل المثال «ليل وقضبان» لأشرف فهمي و«أهل القمة» و«الجوع» لعلي بدرخان و«الهروب» لعاطف الطيب. كما لابد وأن نشير أيضا إلي الأفلام التي حققت نجاحا جماهيريا كبيرا مثل «الباطنية» لحسام الدين مصطفي و«اغتيال مدرسة» لأشرف فهمي، وغيرهما الكثير وهو أمر ضروري لأية صناعة سينمائية أن تحدث توازنا دقيقا بين الصناعة والفن، وكان مخرجنا الكبير حسن الإمام يقول ليوسف شاهين: «برافو عليك يا أبويوسف أنت بتعمل أفلام تجيب جوايز وأنا بعمل أفلام تجيب فلوس».. وهذا هو واقع السينما في العالم. ففي هوليوود علي سبيل المثال لا تعرض أفلام ستيفن سبيلبرج أو جورج لوكاس في مهرجانات مثل «كان» أو «فينيسيا» مثلا ولكنها تحقق إيرادات هائلة في نفس الوقت الذي تعرض فيه أفلام مارتن سكورسيزي وودي آلن وغيرهما في المهرجانات الكبري وتقابل بحفاوة نقدية كبيرة دون أن ينتقص ذلك من الأهمية البالغة لفرسان الصناعة السينمائية في أمريكا الذين يحملون لواء هذه الصناعة وأعباءها ولولا أفلامهم لما أتيح لأفلام الفن أن تظهر. تجربة شخصية هناك جانب آخر في عمل الصديق العزيز مصطفي محرم لا تسلط عليه الأضواء رغم أهميته الشديدة وهو ترجمته لعدد من الكتب عن فن كتابة السيناريو في ترجمات دقيقة تقدم مراجع مهمة لقراء العربية في هذا المجال الذي أعطاه حياته. أما ما يجذبني لقراءة كتاباته عن تجربته الشخصية في السينما فهو جموح ما يكتبه والتعبير عن رأيه الشخصي دون حواجز أو قيود.. ولعل هذه الروح الجامحة المغامرة هي سر جاذبية أعماله حتي لو اختلفنا معها، ولكنه أحيانا ما يشتط في هذه الرؤية الذاتية الخالصة بصورة مبالغ فيها تذكرني بفكاهة روسية شهيرة تقول إنه أقيمت مسابقة في عهد الرئيس السوفييتي جوزيف ستالين لإقامة نصب تذكاري للشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين، فكان النصب التذكاري الفائز في المسابقة تمثال لستالين وهو يقرأ بوشكين.. وبنفس هذه الذاتية الشديدة التي يكتب بها مصطفي محرم أعماله الإبداعية وذكرياته السينمائية، كتب مناقشا بحثا لي كان قد قدم في حلقة دراسية عن السينما المصرية في السبعينات أقامها المجلس الأعلي للثقافة تحت إشراف المخرج التسجيلي والباحث السينمائي الكبير الأستاذ هاشم النحاس ونشر في جريدة «القاهرة».. وأود أن أشكر الأستاذ مصطفي محرم علي اهتمامه بالتعليق علي ما كتبته، وأشكره أيضا علي تصحيحه لمعلومة خاطئة وردت في دراستي وهي أن أحمد ضياء الدين قد أعاد إخراج فيلم بركات «ارحم دموعي» عام 1954 تحت عنوان «عاشق الروح» عام 1972، بينما أن هذا الفيلم قد أعيد إخراجه تحت عنوان «حب وكبرياء» من إخراج حسن الإمام عام 1972وهو خطأ حدث سهوا مني خاصة أن هناك فيلما آخر من إخراج حلمي رفلة عام 1955 يحمل عنوان «عاشق الروح»، ومن المفارقة أن كاتب سيناريو الفيلمين هو يوسف السباعي الذي اختار نفس العنوان لفيلمين مختلفين في موضوعيهما. رد التحية وبما أنني اعتبر أن تصحيح هذه المعلومة بمثابة تحية للدراسة التي كتبتها، فليسمح لي الصديق العزيز مصطفي محرم بأن أرد له تحيته من منطلق أنه «إذا حييتم بتحية فردوا بأحسن منها» بأن أقوم بدوري بتصحيح المعلومات الخاطئة التي وردت بمقاله. يذكر الأستاذ مصطفي أنه خلال فترة السبعينات ظهر أفضل صناع السينما المصرية شادي عبدالسلام وسعيد مرزوق وحسين كمال ورأفت الميهي ومصطفي محرم وممدوح شكري وممدوح الليثي ووحيد حامد وخليل شوقي وأشرف فهمي. وواقع الأمر أن شادي عبدالسلام بدأ عمله كمهندس للمناظر في الخمسينات والستينات ثم قام بإخراج فيلمه الروائي الأول «المومياء» عام 1969 «عرض عام 1975»، وظل يحاول صنع مشروعه الكبير الذي وضعت أمامه العراقيل، فيلم «إخناتون» أو «حريق البيت الكبير» طوال السبعينات والأعوام الستة الأولي من الثمانينات حتي وفاته في 8 أكتوبر عام 1986 دون أن يجد الفرصة لذلك. أما حسين كمال فلقد ظهر في الستينات وقدم أهم أفلامه خلالها «المستحيل عام 1965 و«البوسطجي» عام 1968، و«شيء من الخوف» و«أبي فوق الشجرة» عام 1969، ولم يقدم بعد ذلك أفلاما علي نفس المستوي. أما رأفت الميهي فلقد بدأ عمله ككاتب سيناريو عام 1967 بفيلم «جفت الأمطار» من إخراج سيد عيسي، وبدأ عمله كمخرج عام 1981 بفيلم «عيون لا تنام»، وبدأ مصطفي محرم هو الآخر عمله ككاتب سيناريو عام 1966 بفيلم «وداعا أيها الليل» من إخراج حسن رضا. بدأ ممدوح شكري أيضا عام 1969 بفيلم «ثلاثة وجوه للحب» وفي عام 1972 تمت مصادرة فيلمه «زائر الفجر» ومنعه من العرض، فأصيب بجلطة في المخ وتوفي عام 1973، وفيما بعد سمح بعرض الفيلم بعد أن ناله ما ناله من مقص الرقابة عام 1975. وبدأ ممدوح الليثي عمله كسيناريست عام 1969 أيضا بفيلم «ميرامار» إخراج كمال الشيخ، وأؤكد للأستاد مصطفي محرم أن الفيلم من إنتاج المؤسسة المصرية العامة للسينما وعليه أن يراجع معلوماته في هذا الشأن. أما وحيد حامد فلم ينجز طوال السبعينات سوي فيلم واحد وهو فيلم «طائر الليل الحزين» من إخراج يحيي العلمي عام 1977، وكذلك الحال أيضا بالنسبة لخليل شوقي الذي ظهر في الستينات أيضا بفيلمي «الجبل» عام 1965، و«معسكر البنات» عام 1967، ولم ينجز طوال السبعينات سوي فيلم «لعبة كل يوم» عام 1971. ظهور متأخر أما بقية المخرجين الذين يذكر مصطفي محرم بأنهم قد ظهروا في السبعينات وهم سعيد مرزوق وعلي عبدالخالق ومحمد راضي وأشرف فهمي، فلقد بدأ الثلاثة الأول منهم بأفلام «زوجتي والكلب» و«أغنية علي الممر» و«الحاجز» وجميعها من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في مطلع السبعينات وقبل إلغائها بعام واحد. أما عن حديث الأستاذ مصطفي محرم عن النقد السينمائي الذي ازدهر في السبعينات التي شهدت ظهور صبحي شفيق وفتحي فرج وسمير فريد وأحمد الحضري ورفيق الصبان وسامي السلاموني علي ساحة النقد السينمائي، فأود أن أصحح له معلوماته بهذا الشأن أيضا.. فلقد ظهر صبحي شفيق كناقد سينمائي في نهاية الخمسينات، وكان أول من حدثنا عن الموجة الجديدة الفرنسية وجان لوك جودار، وأول من عرف ببرتولت بريشت «أوبرخت كما يطلق عليه البعض» وترجم له مسرحية «الأم شجاعة» علي صفحات مجلة الشهر التي أصدرها سعد الدين وهبة في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات، ثم قام صبحي شفيق بهجرة غاضبة إلي فرنسا في السبعينات وبدأ كل من أحمد الحضري وفتحي فرج مشوارهما النقدي في مطلع الستينات، وفي السبعينات توقف الحضري عن كتابة النقد وانصرف إلي ترجمة الكتب السينمائية وإدارة نادي القاهرة للسينما ثم بدأ في الثمانينات في كتابة تاريخ السينما المصرية. وفي السبعينات أيضا سافر فتحي فرج إلي السعودية للعمل في جريدة «عكاظ» وتوقف تماما عن كتابة النقد السينمائي وحتي وفاته عام 2001، أما سمير فريد الذي بدأ عام 1965 وسامي السلاموني الذي بدأ عام 1968، فلقد توجت رحلتهما السبعينية في النقد السينمائي بالنقل من مؤسستيهما الصحفيتين إلي مصلحة الاستعلامات (؟!!) ومنعا من الكتابة. هجرة غاضبة أما عن ظهور أفضل الأعمال الأدبية خلال فترة السبعينات المزدهرة في رأي مصطفي محرم علي يد نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، فحدث ولا حرج، فلقد توقف عبدالرحمن الشرقاوي عن كتابة الرواية أو المسرحية بعد مصادرة مسرحيتيه «الحسين ثائرا» و«الحسين شهيدا» ثم تم عزله من رئاسة مجلس إدارة مؤسسة «روزاليوسف» بعد خلافه مع شيخ الأزهر عبدالحليم محمود الذي بدأ علي يديه دخول الفكر الوهابي إلي مصر، وتفرغ الشرقاوي بعدها لكتابة المقالات، وكذلك الحال بالنسبة ليوسف إدريس، أما أحمد عبدالمعطي حجازي فلقد هاجر إلي الخارج هو الآخر في هجرة غاضبة شاركه فيها غالي شكري وأمير إسكندر ومحمود أمين العالم ود. عبدالعظيم انيس ومحمود السعدني وعبدالرحمن الخميسي وميشيل كامل وأديب ديمتري ود.فؤاد زكريا وغيرهم الكثير في أكبر هجرة جماعية لمثقفي مصر ومبدعيها في أكبر عملية تجريف حدثت للعقل المصري في تاريخنا، وكان عدد منهم قد اعتقل لبعض الوقت والبعض الآخر منع من السفر لفترة والبعض الآخر فصل من عمله وآخرون نقلوا من أعمالهم ومن الأمثلة الصارخة لذلك نقل الشاعر والكاتب الكبير عبدالرحمن الخميسي من عمله بصحيفة «الجمهورية» إلي مؤسسة «باتا» للأحذية (؟!!)، وفي فترة السبعينات الزاهرة تلك وقف النبوي إسماعيل وزير الداخلية في مجلس الشعب ليتحدث عن مثقفي ومبدعي مصر المهاجرين قسرا بأنه كان بامكانه أن ينزلهم من العوامات «بلابيص» في واحد من الخطابات السياسية الكثيرة التي تميزت بانحطاط لغتها وأسلوبها علي جميع المستويات خلال هذه الفترة، والتي كان الرئيس السادات صاحب تعبير الديمقراطية «أم أنياب» اياها، النصيب الأكبرمنها. أما توفيق صالح الذي كان قد سبقهم بالهجرة إلي سوريا ثم العراق، فينتقد مصطفي محرم فيلمه «يوميات نائب في الأرياف» مستشهدا بحديث يوسف إدريس له بأن الفيلم قام بتشويه رواية توفيق الحكيم، وفي الواقع لم أكن اتصور أن ذوق يوسف إدريس السينمائي علي هذه الدرجة من التخلف، ففيلم «يوميات نائب في الأرياف» ليس أفضل أفلام توفيق صالح فحسب بل يعد واحدا من أفضل وأجمل الأفلام في تاريخ السينما المصرية، أما ما يذكره مصطفي محرم بأن صالح مرسي بكي حزنا بعد مشاهدته لفيلم «زقاق السيد البلطي» فمعه كل الحق في ذلك بعد أن اعملت الرقابة في الفيلم حذفا وتشويها امتد إلي «نيجاتيف» الفيلم نفسه بحيث أصبح من المستحيل تقريبا العثور علي نسخة كاملة منه. أما ما كتبته عن أن فيلم «شيء من الخوف» يحاول أن يصور جمال عبدالناصركزعيم عصابة فمرجعي في ذلك مذكرات د. ثروت عكاشة ويمكن لمصطفي محرم وغيره الرجوع إليها. الناس والنيل يذكر مصطفي محرم أيضا أن إعجابي بيوسف شاهين يصل إلي حد التقديس لمجرد إعجابي بالنسخة الأصلية لفيلم «الناس والنيل»، وفي الواقع فإنني لم أقدس مخلوقا في حياتي، ولست من الحماقة بأن اعجب بفيلم لا يعترف صاحبه به بل يعتز بفيلمه الأصلي الذي أجبر في السبعينات اياها علي إعادة اخراجه، وقام بتهريب النسخة الأصلية من الفيلم إلي «السينماتيك» الفرنسي، حيث ظل لأمد طويل هناك، وأثناء رئاستي للمركز القومي للسينما تمكنت من الحصول علي نسخة أصلية من الفليم عام 2001، حيث كنت أري أنه من العار علينا ألا توجد في الأرشيف المصري، وانتهز الفرصة لأن أدعو مصطفي محرم لمشاهدة النسخة الأصلية من الفيلم وأنا علي ثقة بأنه سيشاركني الرأي فيما ذهبت إليه. قوائم أفلام أما القوائم التي يرصدها الأستاذ مصطفي محرم لمائة وعشرة أفلام يري أنها تمثل روائع السينما المصرية خلال فترة السبعينات التي اشتملت علي أربعمائة وسبعة وخمسين فيلما، فلا أري من بينها سوي خمسة عشر فيلما فقط يمكن اعتبارها كذلك، وعلي أية حال فإن الفرق بين رؤيتنا لفترة السبعينات أن الأستاذ مصفي محرم يري الثمن الملئ من الكوب بينما أري أنا السبعة أثمان الفارغة منه. وفيما يتعلق بخشية مصطفي محرم من نشر دراستي في الكتاب الذي سيصدره المجلس الأعلي للثقافة حتي لا تصبح مرجعا علي حد قوله، فلست بحاجة لأن أتحدث عن دراساتي وأبحاثي التي نشرت في أماكن كثيرة من العالم باللغات العربية والانجليزية والفرنسية والإيطالية والروسية وتحولت إلي مراجع بالفعل، بالإضافة إلي سبعة كتب صدرت لي حتي الآن وأجهز حاليا لنشر أربعة كتب أخري، وهكذا سبق السيف العزل وأصبحت مرجعا رئيسيا في السينما المصرية شاء الأستاذ مصطفي أم أبي، وفي حالة كهذه فعليه أن يقرأ دراساتي أو يبلغ «الانتربول» لمنعها. والحال كذلك في المحاضرات التي ألقيتها عن السينما المصرية والندوات الدولية التي شاركت فيها في الأمريكتين «الشمالية والجنوبية»، وفي عدد كبير من دول أوروبا الغربية والشرقية، وفي معظم بلدان العالم العربي مشرقه ومغربه وجنوبه وخليجه.. فهل سيطالب مصطفي محرم السلطات بمنعي من السفر لتجنب قبولي لهذه الدعوات؟! أما نصيحة مصطفي محرم للصديق العزيز المخرج التسجيلي والباحث السينمائي الكبير هاشم النحاس بأنه كان من المفروض أن يكلف بهذا البحث من هم أقدر عليه مثل الأستاذ أحمد الخضري أوالدكتور رفيق الصبان أو الأستاذ محمد عبدالفتاح، فلا يعادلها سخافة إلا أن اتوجه بنصيحة للصديق العزيز المؤرخ والكاتب الكبير صلاح عيسي رئيس تحرير جريدة «القاهرة» والذي تم اعتقاله لعدة مرات مع الكثير من كتاب وشعراء ومبدعي ومثقفي مصر خلال هذه السبعينات الزاهرة كما يدعي الأستاذ مصطفي محرم، وكان لي شرف ملازمته في أحد هذه الاعتقالات عام 1975، بأن يمنع مصطفي محرم من النشر ويكلف الأستاذين كاتبي السيناريو الكبيرين وحيد حامد وممدوح الليثي بالكتابة بدلا منه.. وهو ما أربأ بنفسي عن فعله في نفس الوقت الذي أربأ بالصديق العزيز مصطفي محرم أن ينزلق إليه.