طالعتنا جريدة «الأهرام» يوم 27 يوليو 2011 بمقال الدكتور محمد عمارة عنوانه «ماذا صنعت العلمانية بأوروبا» وعندما قرأت هذا العنوان ظننت ان الكاتب سيتحدث عن التقدم العلمي والاقتصادي الذي حققته وتشهده أوروبا بفضل العلمانية وفصل الدين عن نظام الحكم، وتوقعت انه سيتحدث عن الأسباب التي تجعل عشرات الآلاف من الشباب العربي ينفقون آلاف الجنيهات ليصلوا إلي أي دولة أوروبية حيث ينعمن بالحرية والرخاء والرفاهية، ولكنني أصبت بخيبة أمل عندما وجدت كاتب المقال يصب جام غضبه علي العلمانية ويستشهد بدراسة عن «العلمانية والدين» للقس الألماني- عالم الاجتماع وأستاذ اللاهوت الإنجيلي والأخلاقيات الاجتماعية بجامعة القوات المسلحة بميونخ، جوتفرايد كونزلن والتي مفادها ان العلمانية تعني الفصل التام والنهائي بين المعتقدات الدينية والحقوق المدنية، وسيادة مبدأ: دين بلا سياسة وسياسة بلا دين. حاول الدكتور عمارة في مقاله ان يثبت لنا ما فعلته العلمانية في أوروبا من بعد الناس عن الله وهجر للكنائس وانتشار للإباحية وللشذوذ الجنسي وغيرها من الأضرار التي أرجعها سيادته إلي العلمانية وفي النهاية ختم الدكتور عمارة مقاله بالقول «تلك هي الثمرات المرة ليتجرع أوروبا كأس العلمانية المسمومة، تلك الكأس التي يريد الغرب، وعملاؤه العلمانيون في بلادنا ان يتجرعها المسلمون في بلاد الإسلام!؟ وحول مقال الدكتور عمارة لي بعض الملحوظات والتي أرجو ان يتسع صدره لها:- تشويه متعمد أولا:- من المؤكد ان دعاة الدولة الدينية في عالمنا العربي يحاولون قدر استطاعتهم تشويه لفظ «العلمانية» وترسيخه في أذهان العامة والبسطاء علي اعتبار أنه مرادف للكفر والإلحاد والعياذ بالله، وأسلوب تشويه مصطلحات الحداثة هو أسلوب معروف ومألوف لدي الأصوليين فقديما قيل لأتباع أحمد لطفي السيد الذي كان يروج للديمقراطية في حملته الانتخابية، ان الديمقراطية تعني تبادل الزوجات!! وذلك بقصد تشويهه وعدم فوزه في الانتخابات، وها هو التاريخ يعيد نفسه بتشويه مصطلح العلمانية، والسبب في هذا الموقف المعادي للعلمانية هو أنها ستسحب البساط من تحت أقدام المستفيدين من دعوة الدولة الدينية والمنظرين لها، فالعلمانية تدعو لحوار الأفكار علي مائدة العقل وتعريتها من رداء القداسة الذي يغطيها به هؤلاء الدعاة للوصول إلي أهدافهم، فدعاة الدولة الدينية يتحدثون عن حكم الله بينما العلمانية تتضمن الحديث عن الديمقراطية والدستور لتنظيم العلاقات بين البشر، فالعلمانية كما يعرفها الدكتور مراد وهبة هي التفكير في النسبي بما هو نسبي رئيس بما هو مطلق، ويخطئ من يظن ان العلمانية هي نقيض الدين، ففي حقيقة الأمر ان العلمانية تعلي من شأن القيم الدينية، وتقوم علي احترام الدين وعدم تلويثه بالسياسة، وتحول دون تحويل الصراع السياسي إلي صراع ديني، فهي ليست سوي تنظيم اجتماعي يبعد الدين عن استغلاله في السياسة والمتاجرة به، في حين ان الجوانب الأخري من الحياة مشروع فيها استخدام الدين بكل أشكاله ومستوياته، وفرق كبير بين ان نقول إن العلمانية ليست دينية، وان نقول ان العلمانية تعني الإلحاد واللادينية، فكونها غير دينية يعني أنها تقف من الدين موقفا محايدا، باستثناء الدين المسيس، أو المقحم في الشأن السياسي، وفي شئون الدولة فالدين السياسي هو المرفوض عند العلمانيين وليس الدين كدين إذا ما جري الفصل بينه وبين السياسة وبينه وبين أسلوب حكم الدولة، أما القول بأن العلمانية هي اللادينية، فهذا كلام غير حقيقي، حيث ان العلمانية المعتدلة هي التي تحترم الدين ولكنها ترفض قاطعا تسييسه وإقحامه في نظام الحكم، كما ترفض تديين السياسة والدولة والدستور، وفي هذا الصدد قال البابا بنيديكتوس السادس عشر بابا الفاتيكان: «إن العلمانية لا تتعارض مع الإيمان»، مشددا علي الأهمية الجوهرية للقيم المسيحية ومؤكدا «أن الإيمان ليس سياسة والسياسة ليست دين»، يأتي هذا التصريح للبابا تأكيدا لاختيار أوروبا العلماني بعدما يزيد علي قرنين من كفاحهما المرير والطويل ضد سطوة السلطة الدينية، ونجاحها في فصل الدين عن السياسة وعن نظام حكم الدولة لتصبح الكنيسة مجالا لممارسة العبادات وتصبح مهمة الدولة تنظيم علاقات المواطنة وإدارة الشئون العامة لكل الناس دون النظر لمعتقداتهم الدينية، وإذا كان الدكتور عمارة اقتبس من القس الألماني- جوتفرايد كونزلن ليدلل علي مساوئ العلمانية- من وجهة نظره- إلا أنه من المؤكد ان نقول إن الاختيار العلماني أصبح من القوة والرسوخ إلي الحد الذي جعل أكثر باباوات روما تشددا من الناحية الدينية يعترف بأن فصل الدين عن نظام الحكم ضرورة حتمية، وهو ما يترتب عليه تأمين الحريات العامة ضد سلطة رجال الدين، والفهم المتعدد للنصوص الدينية. الفهم العلمي للدين ثانيا:- ان العلمانية هي في جوهرها ليست سوي التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، ومن ثم فهي ليست ضد الدين بل هي ضد تدخل الدين بالسياسة وعلي هذا الأساس فقد اكتظت مدن الدول ذات الحكومات العلمانية بالكنائس والجوامح والمعابد، بعكس دول أخري كثيرة تحكمها دساتير دينية ولا توجد فيها حرية اعتقاد ولا حرية بناء أماكن عبادة للمغايرين لدين الدولة، وكذلك في الدول العلمانية يتعاون السياسون مع رجال الدين وتدعم الدولة المؤسسات الدينية بقدر تدعيمها لمنظمات المجتمع المدني الأخري، وذلك لأن العلمانية لا تجعل الدين أساسا للمواطنة، ولكنها تفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان، هذه هي العلمانية دون زيادة أو نقصان فهي لم ترادف في أي زمان أو مكان نفي الأديان، وأسس الدولة العلمانية تتمثل في دولة محايدة تجاه جميع مواطنيها ليس لها دين رسمي، وان حق المواطنة هو أساس الانتماء وليس الدين أو الجنس، وان الأساس في الحكم هو الدستور الذي يساوي بين جميع المواطنين ويكفل حرية العقيدة دون قيود وان المصلحة العامة والخاصة هي أساس التشريع، فلا توجد ديمقراطية حقيقية بدون علمانية. ثالثا:- من المؤكد ان الأصولية- والتي تعني النضال بإخلاص من أجل الأصول- موجودة في جميع الأديان، والأصولية بطبيعتها ضد العلمانية ونقيضها، لذا فليس غريبا ان يوجد في الغرب أصوليون يقاومون العلمانية كما أنه من الطبيعي ان يوجد أيضا في شرقنا وعالمنا العربي أصوليون يعلو صوتهم دائماً لتشويه العلمانية، وعلي الرغم من هذا المتعمد ألم يسأل الدكتو عمارة نفسه لماذا يضطر عشرات الآلاف من شبابنا العربي أن يهاجروا ويفروا من جناتنا وفراديسنا العربية إلي حيث الجحيم الأوروبي العلماني؟! رابعاً: لست أدري ما العلاقة بين العلمانية والفساد؟! فلا توجد علاقة مطلقا بين فصل الدين عن نظام الحكم وبين فساد البشر، فالعلمانية ليست هي السبب في فساد بعض البشر، لكن الفساد موجود لأن نفس الإنسان كثيرا ما تأمره بالسوء، والموضوعية تدعونا لأن نقول ان الفساد الإنساني غير مرتبط بشرق أو بغرب، فالفساد موجود في كل مكان، وعالمنا العربي علي الرغم من تدينه وتعبده وحرصه الشديد علي تطبيق الشرائع وإقامة كل الشعائر الدينية، إلا أن الفساد يستشري في جسده من هامة الرأس لأخمص القدم، وتقارير منظمات الشفافية العالمية هي خير دليل علي ذلك! ان لدينا في عالمنا العربي زيادة في عدد المصلين ولكن هذا لا ينعكس علي أخلاقنا وضمائرنا ومعاملاتنا وإخلاصنا في العمل والإنتاج، بعكس غالبية المواطنين في الدول العلمانية الذين يتمتعون بالإخلاص واحترام الوقت والحرص علي كرامة الإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه إننا بارعون في ممارسة التعبد والطقوس، ولكننا مع الأسف لدينا الكثير من الثقوب في الضمير الجمعي والشخصي. خامسا:- من الطريف ان الدكتور محمد عمارة كتب رأيا في العلمانية سنة 1979 يخالف ما كتبه في مقاله سنة 2011 ففي كتابه «الإسلام والسلطة الدينية» وفي صفحة 93 و94 قال الدكتور عمارة ما نصه: «الإسلام لا يقر السلطة الدينية، بل هو كما يقول الإمام محمد عبده ينكرها ويدعو إلي رفضها، بل يهدمها من الأساس، فإذا كانت العلمانية في أوروبا هي موقف ضد دينهم كما فسرته الكنيسة، فهي عندنا الحقيقة المعبرة عن نقاء الموقف الإسلامي في هذا الموضوع، فمسيحية أوروبا حاربت العلمانية لأنها ضدها، أما إسلامنا فانه علماني، لأنه ينكر السلطة الدينية التي تجعل لنفر من البشر سلطانا اختص به المولي سبحانه ورسله عليهم الصلاة والسلام ومن هنا فإن الدعوة إلي فصل الدين عن الدولة والسياسة قد جاءت في مناخ وواقع وتراث كانت فيه وحدة واتحاد بين الدين والسياسة، ولم يكن هذا مناخنا الصحي ولا واقعنا المشرق ولا تراثنا النقي في يوم من الأيام ومن ثم فان مصطلح العلمانية لا يمثل عدوانا علي ديننا، ولا انتقاصا من إسلامنا، بل علي العكس يمثل العودة بديننا الحنيف إلي موقفه الأصيل وموقعه المتميز في هذا الميدان» هذا ما كتبه محمد عمارة منذ أكثر من ثلاثين عاما! فلماذا الردة الفكرية بهذا الشكل يا دكتور؟! سادسا:- تحدث الدكتور عمارة عما فعلته العلمانية في أوروبا، وكنت أتمني ان يتوخي الموضوعية ويحدثنا عما فعله الحكم الديني في أوروبا وغيرها من الدول التي تستند في حكمها لمرجعيات دينية، حيث يسود القهر باسم الله وباسم الدين، وحيث العنصرية والاستعلاء علي الآخر الديني المغاير، وحيث التمميز علي أساس اللون والدين والجنس، وحيث كبت الحريات وقصف الأقلام ومصادرة الكتب وقتل الإبداع وحيث تقسيم الدولة الواحدة إلي عدة دول لأن الاندماج الوطني لا يمكن ان يحدث في ظل أي حكم ديني، فهل هذه الرجعية هي التي يريد الدكتور عمارة أن يوصلنا إليها في بر المحروسة؟ وهل هذه الكأس المريرة هي التي لنا ان نتجرعها في مصر الغالية؟!