كان حلما لدي بعض الأثريين.. وكابوساً لدي البعض الآخر أن يعمل في أحد قصور الرئاسة خلال عهد الرئيس السابق حسني مبارك. فالعمل داخل أسوار الرئاسة كان محاطاً بالغموض وبالسرية التامة وبالكثير من المحاذير.. فلم يكن أحد يعرف علي وجه اليقين حجم الآثار والمقتنيات الأثرية التي تحتويها تلك القصور، ولا يعرف طبيعة الاهتمام بها وصيانتها من قبل قاطنيها.. وبعد اندلاع ثورة 25 يناير وعندما بدأ مؤخرا فتح تلك الملفات المسكوت عنها وتوجهت لجان أثرية وقضائية لجرد محتويات تلك القصور، آثرت "القاهرة" أن تفتح الملفات علي طريقتها.. من خلال من عملوا لسنوات داخل هذه القصور.. فخبروا أسرارها وما تحتويه من آثار ومقتنيات.. وحالة هذه المقتنيات. كان لعمل الأثريين داخل القصور الرئاسية آلية صارمة لا يمكن تجاوزها.. فعندما تصدر التعليمات بضرورة ترميم أحد مقتنياتها الأثرية يتم إخطار المجلس الأعلي للآثار لترشيح بعض المتخصصين وتقديم أسمائهم للرئاسة حتي تبدأ الخطوة الأصعب. يبدأ الأثري أو المرمم المترشح للعمل بقصور الرئاسة في خوض اختبار أمني صارم .. حيث يتم التحري عنه وعن كل أفراد أسرته وأقاربه بدقة متناهية، كما توضع تليفوناته وكل اتصالاته للمراقبة لمدة 6 أشهر كاملة حتي يتم قبوله وتفتح له أبواب الرئاسة. وإذا ثبتت عليه أو علي أي من أقاربه أي تحفظات أمنية يستبعد علي الفور.. وهو ما حدث ذات مرة بالفعل حيث أشارت التحريات إلي أن واحدة من المترشحات كان لها ابن خالة يطلق لحيته فرفضوا إلحاقها بالعمل واستبعدت. لكن اللافت للنظر أنه رغم أن العمل بالرئاسة بالنسبة للأثريين كان يمثل عبئا نفسيا وأمنيا ثقيلا، إلا أنه كان لا يمكن الاعتذار عنه وكأنه خدمة إلزامية. كما أن المبشرين بالعمل هناك كانوا يخضعون للتعليمات والأوامر التي تصدر لهم من لواءات الرئاسة وكان عليهم أن يطيعوها بلا أدني نقاش.. فالتعامل داخل القصور يكون بحذر شديد جدا ولايوجد احتكاك مباشر مع هذه القيادات إلا في أضيق الحدود.. وقد حدث أكثر من مرة أن اختلف بعض هؤلاء الأثريين مع بعض قيادات تلك القصور.. فتكون النتيجة المباشرة أن تصدر التعليمات بأن يترك هذا الأثري العمل ويغادر الموقع خلال أيام قلائل. وأحيانا يكون العكس صحيحاً.. فإذا كان هناك رضاء علي العمل الذي يتم إنجازه فقد تصدر مذكرات تزكية (أو حتي اتصالات تليفونية) في حق الأثري أو المرمم موجهة لكبار مسئولي الآثار وممهورة بتوقيع د.زكريا عزمي رجل القصور الرئاسية الأول قائلا علي سبيل المثال "مع خالص اهتمامي وتقديري".. فيتم علي الفور صرف مكافآت للمذكور من المجلس الأعلي للآثار. كان هناك نوعان من الانتدابات للعمل في القصور الرئاسية.. فغالبية الأثريين كان يتم انتدابهم جزئياً لمدة يومين أسبوعياً.. لذا كان هؤلاء يتقاضون كل مكافآتهم وبدلات الانتقال من مجلس الآثار. أما المحظوظون الذين يتم انتدابهم ندبا كليا للعمل بالقصور فكانوا يتقاضون من الرئاسة مرتبات تصل لستة آلاف جنيه شهريا وكانوا يستخرجون كارنيهات خاصة بالقصور ويوقعون بها يوميا حضور وانصراف.. هذا بالإضافة للتفتيش الدقيق الذي يخضع له كل الأثريين وأدواتهم دخولا وخروجا من هذه القصور. والجدير بالذكر أن قيادات هذه القصور الرئاسية كانوا حريصين (حسب ما ذكره أحد المترشحين للعمل بها) علي أن يكون عمل الأثريين والمرممين تحت إشرافهم ومن خلال تعليماتهم المباشرة، رغم أن هؤلاء اللواءات من الناحية الفنية والتقنية لا علاقة لهم بطبيعة العمل الأثري. ويستشهد المصدر علي ذلك بواقعة مهمة جرت أحداثها عام 2009 . حيث طلبت الرئاسة من المجلس الأعلي للآثار الاستعانة بخبراء من تخصصات مختلفة لترميم وصيانة مقتنيات أثرية داخل القصور. وبناء عليه صدر قرار بتشكيل مجموعات عمل بكل القصور اختير لها أكفأ الخبراء.. وكانت كل مجموعة تضم اثنين أو ثلاثة من المتخصصين المهرة الذين يعملون تحت رئاسة مشرف.. فتكونت بهذا مجموعات مختلفة لصيانة وترميم النسيج ومجموعة للكتب والمخطوطات وأخري للزجاج والخزف ومجموعة للوحات الزيتية، والفساتين والأزياء، وللمعادن، وللرخام والأحجار.. بما يوحي بالقطع بحجم وكم الآثار الموجودة بالقصور وتحتاج للترميم، لكن بعد هذا كله توقف المشروع ولم يتم تنفيذه بسبب رفض لواءات القصور الرئاسية.. لماذا؟ لأن القرار الذي أصدره المجلس الأعلي للآثار لا يتضمن أن يشرف السادة اللواءات علي هذه المجموعات المتخصصة، وبالتالي فهم لن يسمحوا لهم أن يعملوا أحرارا بعيدا عن إشرافهم! لكن مع هذا فلقد كان العمل في ترميم وصيانة المقتنيات الأثرية بالقصور الرئاسية قد بدأ بالفعل قبل ذلك بسنوات تعود للثمانينات علي الأقل. في عام 1995 تشكلت لجنة مكونة من أحد عشر خبيرا لترميم قطع النسيج الأثرية في القصور الرئاسية.. كان عدد القطع المطلوب ترميمه كبيرا جدا ويشمل سجاجيد أثرية وتابلوهات وأطقم صالونات وأنتريهات أبيسون ترجع جميعها للعصر الملكي، لكنها كانت قد تعرضت للتلف داخل هذه القصور من كثرة الاستعمال (في العصر الجمهوري بالطبع). لكن اللافت أن هذه القطع برغم أنها لم تكن مسجلة لدي مجلس الآثار إلا انها جميعا كانت مدونة بدقة في دفاتر القصور وعلي أجهزة الكمبيوتر.. فكان كل قصر رئاسي يمتلك قائمة بما يحتويه من هذه الآثار. لهذا فعندما بدأ ترميم النسيج تم تجميع كل القطع من كل القصور في إدارة مخازن قصر القبة.. حيث يوجد به مكان كاف ومجهز لعملية الترميم مثله مثل قصر عابدين. وللتدليل علي الكم الكبير لهذه القطع الأثرية الموجودة في القصور فإن ما ورد علي سبيل المثال من قصر المنتزه بالإسكندرية وحده قد بلغ 14 صندوقاً تضم المئات من هذه المنسوجات المطلوب ترميمها. في البداية طلب مسئولو القصور الرئاسية إعدام وتكهين هذه "المنسوجات القديمة" حتي يتسني إسقاطها من سجلات المخازن واستبدالها بأخري جديدة ، وكان السبب في هذا أنهم قد اعتادوا علي ذلك منذ سنوات طويلة من قبل مسئولي الآثار الذين كانوا يتخلصون من تلك القطع "القديمة" بعد أن يستنسخوها بأخري جديدة من أحد محلات المنسوجات الشهيرة بوسط القاهرة. لكن لواءات القصور فوجئوا عام 1995 بمسئولي الترميم يرفضون رفضاً قاطعا التخلص من القطع الأثرية كما كان متبعاً من قبل ويصرون علي أن يقوموا بترميمها وصيانتها، وبعد أن وافقوا علي مضض ورضخوا لرغبة الأثريين، اضطروا للتراجع عن هذه الموافقة بعد أن مرت عدة سنوات ولم يكن قد تم ترميم سوي 20 قطعة أثرية فقط نظرا لدقة العمل وصعوبته، وبعد أن أبلغهم خبراء الترميم أنه حتي هذه القطع التي تم ترميمها لا يمكن إعادة استخدامها مرة أخري حتي لاتتلف ثانية، فتم الاتفاق بين مسئولي الآثار والقصور الرئاسية علي أن يتم "تكهين" هذه القطع بمحاضر رسمية حتي يتم استبدالها بأخري جديدة، لكن مع عدم التخلص من هذه الآثار "الكهنة" وتم التبرع بعدة صناديق محملة بهذا النسيج الأثري الملكي الذي يعود للقرنين 19 و 20 لمدرسة ترميم الآثار التابعة للمجلس الأعلي للآثار عام 2000 وذلك لتدريب الطلاب عليها ولصيانتها. كما تم أيضاً ترميم عدد كبير من روائع الزجاج الأثري الملون والمعشق.. حيث كانت تستخدم مادة بارالويد ب42 أو ب20 لاستكمال المتكسر منه بقوالب الشمع ثم إعادته مرة أخري، وتم أيضاً ترميم مجموعات مميزة من الخزف وأطقم الصيني التي تعرضت للكسر أو التلف بسبب الاستعمال داخل هذه القصور. ولم يقتصر الترميم علي الآثار المنقولة فقط، لكن الخبراء بقطاع الآثار الإسلامية تولوا ترميم الرسوم الجدارية والنقوش ومباني قصر عابدين وضريح عابدين وقصري المنتزه والقبة، كما تولي فريق عمل من قطاع المشروعات العام الماضي ترميم النافورة النحاسية الوحيدة الموجودة في مصر والمقامة بقصر الطاهرة بعد أن كانت تعرضت للصدأ وكان تم تجميع أجزائها بصورة خاطئة.. وهي تتميز بتماثيل إغريقية جميلة تزينها. وعن آلية العمل بالترميم داخل القصور يذكر أحد الخبراء أن كل قصر به أمين عهدة لديه سجلات تتضمن ما في حوزته من قطع أثرية، وفي قصر عابدين يوجد أمين عهدة مركزي وبه مركز معلومات دقيق تسجل به كل خطوات تنقلات أي أثر من مكان لآخر بما لا يسمح مطلقاً بضياع أو سرقة أي قطعة. وكان هناك مكانان مخصصان للترميم بقصري القبة وعابدين، وعندما تصل القطع المراد ترميمها من أحد القصور تدخل بمحضر رسمي لمنطقة الترميم ويتسلمها المرمم الموجود الذي يبدأ في ممارسة عمله في القاعة المخصصة لذلك والتي كانت تتمتع بحراسة مشددة ويتم تفتيش كل من يدخلها أو يخرج منها تفتيشا دقيقا. كما أن خامات الترميم كان يتم توفيرها فوراً وبدون أي تعقيدات روتينية.. لكن علي نفقة المجلس الأعلي للآثار. ورغم أنه كان من النادر أن يشاهد أحد هؤلاء المرممين د.زكريا عزمي رجل قصور الرئاسة الأول، إلا أنه كان يظهر أحياناً لمتابعة العمل ويعلق عليه.. مثل قوله: "الشغل ده مش عاجبني"، او عندما طالب في إحدي المرات بأن يتم استبدال بعض العاملات الفنيات بغيرهن لأن "شكلهن وحش ومؤهلاتهن متوسطة".. وطالب بأخريات علي أن يكن "بنات شيك ومؤهلات عليا". وفي مرة أخري طالب د.زكريا فريق الترميم بأن يقوموا بالانتهاء من ترميم طقم أنتريه "في حجرة الريس" قبل حلول يوم غد "لأن الريس عنده مقابلة فيه غدا".. فاضطر الجميع للمبيت بالقصر حتي الصباح لتنفيذ التعليمات. ويؤكد أحد الخبراء أن طول عملهم بهذه القصور مكنهم من التعرف علي طبيعة كل منها.. فكان قصر الطاهرة علي سبيل المثال مخصصاً لضيوف سوزان مبارك، وكذلك كان قصر القبة الذي كان يستضيف أيضاً ضيوف الرئاسة من الدرجة الثانية كرؤساء الوزراء أو رؤساء الدول غير ذات الأهمية وغيرهم. إلا أنه يضيف ملحوظة طريفة وهي أن هذا القصر كانت به ملاعب مخصصة لعلاء وجمال مبارك يمارسان فيها من حين وآخر رياضة كرة القدم. لهذا كان يتم وقف العمل بالترميم ويتم منع خبراء الآثار من دخول القصر في أوقات مباريات أبناء الرئيس السابق. أما ما يتم ترميمه حاليا منذ ما قبل ثورة 25 يناير.. فكل اللوحات الزيتية التي رسمها كبار الفنانين العالميين والموجودة بكل القصور الرئاسية تقريبا مثل عابدين والطاهرة والقبة وغيرها. كما يتم حاليا ترميم قطعة جوبلان فرنسية أثرية كبيرة عليها الشعار الملكي وتصل إلي 14 مترا عرضا في اا مترا طولا وموجودة في قصر محمد علي بالمنيل. كما توجد لجنة من المجلس الأعلي للآثار تعمل منذ حوالي 10 سنوات علي تسجيل كل المقتنيات الأثرية بالقصور الرئاسية حتي فساتين الملكة ناريمان. إن حكايات الآثار بالقصور الرئاسية كثيرة وتكشف عن أسرار كثيرة.. فبعض هذه الآثار ضاع للأبد نتيجة التلف أو الإهمال وسوء الاستعمال، وبعضها تم ترميمه والتخلص منه بصورة أو بأخري لاستبداله بآخر جديد.. لكن ما زال يوجد الكثير مما يستدعي سرعة تسجيله وتكوين فرق عمل عاجلة لإنقاذ ما تبقي لأنه يمثل جزءا مهما من ذاكرة مصر يعود لعصرين.. عصر ملكي فاسد، وعصر رئاسي أكثر فساداً.