المتروبوليتان الأمريكية كما نعلم جميعا هي أكبر دار أوبرا في العالم تملك من الإمكانيات المادية والمعونات الهائلة التي يقدمها رجال الأعمال الأمريكيون المهتمون بشئون الفنون .. مما ساعد إدارة هذه الأوبرا علي تقديم عروضها مستعينة بأشهر المغنين وأكبر قادة الأوركسترا وأشهر مصممي الديكور وأكثر المخرجين موهبة في تقديم الأوبرات علي المسرح.. فجاءت عروضها مبهرة لا يمكن أن تقاس بها أي عروض أخري في العالم .. رغم شهرة «لاسكالا» الإيطالية ومهرجانات بابروت وسالزبورج الألمانية وعروض أوبرا فيينا المثالية. لذلك تري عشاق الأوبرا وهواة الفن الرفيع يتسابقون كل عام للذهاب إلي نيورك والحصول علي التذاكر الغالية الثمن، قبل شهور طويلة من بدء العروض وذلك كي يتمتعوا بهذه الميزات الكثيرة التي يقدمها إنتاج المتروبوليتان للأوبرات الشهيرة .. التي كتبها مؤلفون ذوو شهرة من كل أنحاء العالم. لذلك كان واحدا من هذه الأحلام المستحيلة أن نري واحدا من هذه العروض المدهشة الثرية الإنتاج الفائقة التفوق الفني علي مسارحنا وذلك لصعوبة نقل الديكورات وعدم اتساع مسارحنا .. لقبول هذه العروض الاستثنائية ودفع نفقات الفنيين من مغنين ومغنيات وكورس وأوركسترا. المعجزة الجديدة لذلك جاءت هذه المعجزة الجديدة التي تقدمها لنا دار الأوبرا المصرية بعد أن تحققت وسائل الاتصال الخارقة للعادة وسمحت لنا أن نشاهد عن طريق المحطات الفضائية هذه العروض.. في الوقت نفسه الذي تعرض فيه في نيورك علي مسرح المتروبوليتان. ولم تكن القاهرة.. هي العاصمة الوحيدة في العالم التي تمتعت بهذه الميزة الفريدة بل شاركتها في ذلك مجموعة من العواصم العالمية وبعض العواصم العربية كدبي مثلا للتمتع بمشاهدة هذا البث الفضائي الذي جعل المستحيل ممكنا وأتاح لنا أن نتمتع بما يتمتع به الجمهور الأمريكي من عشاق الفن الأصيل دون أن نغادر بلدنا. طبعا إن تحقيق هذا المشروع كان يحتاج إلي جهد دءوب سعي إليه مدير الأوبرا د. عبد المنعم كامل، وجهد مالي حققه بعض رجال الأعمال لكي يتاح تأمين هذا النقل بأجود الوسائل الممكنة.. بصريا وسمعيا بحيث يمكنه أن يعطينا شعورا مقاربا لما يشعر به المتفرج العادي الذي يحتل مقعده في صالة المتروبوليتان الأمريكية. أعرف أن فن الأوبرا الراقي مازال عصيا علي أذواق الكثير من المتفرجين العرب والمصريين. كذلك كان الشأن مع فن الباليه قبل نصف قرن ولكن مثل هذه الأمور لا تأتي فجأة وإنما تنضج دائما علي نار هادئة وربما كان الفضول بادئ الأمر، هو الذي سيجذب الجمهور إلي مشاهدة عروض المتروبوليتان التي طالما سمع أو قرأ عنها، ولكن شيئا فشيئا ومع تكرار هذه المشاهدة سيمكن لنا أن ننشيء جيلا قادرا علي متابعة هذا الفن والشغف به. ابتدأت عروض هذا الموسم .. بأوبرا الفاجنر التي اجتذبت جمهورا متخصصا «نظرا لصعوبة موسيقاها حتي بالنسبة للمتفرج الغربي» اتبعتها الأوبرا الروسية «بورجس جرودتوف» التي حققت لدينا نجاحا جماهيريا «وأقول ذلك بشكل نسبي» لم نكن نتصوره وتبعتها بعد ذلك أوبرا لوتشيني مبهرة في إخراجها وفي غنائها وديكوراتها وبدأ الجمهور العاشق للأوبرا يترقب حالما عرض الأوبرات التالية التي أعلن عنها وخصوصا «لوسيادو لاميرمور» و«الترو فاتوري» و«إيفجينا» التي ستعيد لنا المغني العالمي الشهير سلاسيدو دومنجو.. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن أو جاءت الحقبة المباركة لتقلب موازين العروض السينمائية والمسرحية والأوبرالية في القاهرة مما أوقف بث هذه العروض المشتهاة وكان علينا أن نلتقط أنفاسنا، قبل أن تعود المتروبوليتان من جديد لتقديم آخر عرض لها هذا الموسم، وهو أيضا عرض لفاجنر من خلال أوبرا الأكثر شهرة «الفالكيري» أي أن الموسم المتروبوليتاني ابتدأ بهذا المؤلف الألماني وانتهي به. فارسات سماويات «الفالكيري» هو الاسم الذي أطلقه فاجنر علي الفارسات السماويات اللاتي يعملن تحت امرة الألهة التي تحكم البشر.. وهن وسيلة الاتصال بين هذه القوي الإلهية والناس العاديين. وكما هو الشأن في التراجيديات اليونانية التي يحاول فاجنر دائما أن يربط بينها وبين الأساطير الألمانية المغرقة في القدم.. فإن هناك دائما صراعا حقيقيا بين هاتين القوتين المتواجهتين التي تحاول كل قوة منهما تحقيق العدل والمحبة من خلال وجهة نظرها. نحن في بداية العمل أمام الفارس سيجموند الذي يلجأ هاربا إلي الكوخ بعد أن اعتدي فرسان الشر علي أسرته وقتلت أبويه وسبت أخته وزوجتها إلي أحد زعماء هذه الفئة «هوندينج» . لا يعرف سيجموند عندما التجأ إلي كوخ بعيد في النهاية إنه إنما التجأ إلي كوخ قاتل أبيه الذي زوج أخته قسرا. وكما هو الشأن عندما يقابل أورست المتنكر أخته الكترا في التراجيديا القديمة يقابل سيجموند الفتاة زيجلندا ويقع في هواها .. دون أن يدرك أنها أخته المختطفة وهنا يقدم فاجنر ثنائيا غنائيا عاطفيا بين الأخ وأخته من أجمل وأروع ما ابدعت قريحته الموسيقية ويتباري كل من المغني الألماني بوناس كوفمان والأمريكية أيضا ماريا وستبروك في تقديم هذا المقطع بأصوات خارقة للعادة وبتأثير درامي من الصعب نسيانه. وحتي عندما يدرك العاشقان أنهما توأم واحد .. فإنهما لا يكفان عن إعلان حبهما وتساعد الأخت أخاها علي الهرب بعد أن تدس منوما لزوجها وتدله علي السيف الذي غرزه الأب القتيل في شجرة ضخمة ولا يمكن لأحد أن ينتزعه إلا بمعونة الألهة. البحث عن السعادة وهنا تبدأ العلاقة بين البشر المطاردين والباحثين عن السعادة وبين الألهة التي تراقب وتنظم وتثأر وإذا كانت بروتهيلد إحدي الفالكيرات والمقربة تماما من الألهة «فوتان» الذي يعتبرها ابنته الروحية تساعد العاشقان علي الاختفاء مما يثير حفيظة كبيرة الألهة التي لا توافق علي هذه الصلة المحرمة وتأمر «فوتان» زوجها بأن يأمر جندياته «الفالكيرات» بقتل الفتاة ويكلف «فوتان» ابنته بهذه المهمة التي ترفضها.. وتخالف أوامر أبيها لأنها انفعلت بالحب الصادق الذي يربط من سيجموند وأخته مما يسبب الحكم عليها بتجريدها من الوهيتها وحبسها في برج تحيطه النيران، سينقذها منه الفارس الذي ستصبح عبدة له يحكمها بعد أن كانت في جيش الألهة التي تحكم البشر .. ويتم قتل سيجموند بينما تبقي أخته حية تحمل في أحشائها الطفل الذي سيدعي سيجفريه والذي سيكون محور الجزء الثالث من هذه الأوبرا المدهشة التي تعتبر اليوم من شوامخ المسرح الغنائي. لا يمكن وصف الشكل المسرحي الذي قدمت به أوبرا المتروبوليتان هذه الأوبرا الشديدة الصعوبة التي تستعصي علي كثير من المخرجين .. ديكور متحرك مكون من أعمدة هائلة وادراج متحركة بتناسق هندسي خلاب، إضاءة مركزة شديدة التأثير، وحركة مسرحية تكاد تشابه في انسيابها وقوتها، حركات الباليه وأصوات غنائية نادرا ما تجتمع في أوبرا واحدة كل صوت ينافس الآخر قوة وجمالا وتأثراً خصوصا المغني الألماني بوناس كادوفمان الذي يجمع بين الوسامة الزائدة والصوت القوي الرنان والأداء التمثيلي المؤثر.. وكذلك ستفاني بلايث في دور كبيرة الألهة بجسدها الضخم والتي استطاعت أن تخطف الأضواء رغم ظهورها في مشهد واحد فقط في هذه الأوبرا التي يستمر عرضها ست ساعات متواصلة. لقد كانت هدية لا تقدر بثمن هذه التي قدمتها لنا أوبرا القاهرة بتقديمها هذا العرض الشديد التميز إخراجا وديكورا وغناء وموسيقي .. كما أثارت شهيتنا العروض القادمة التي أعلن عنها والتي تضم من بين ما تضم أوبرات لاترافيانا وتوسكا ودون جوان ومافون وهرناني وسواها. نشاط نادر يسد نقصا كبيرا في حياتنا الغنائية والموسيقية .. وفي العروض الأوبرالية التي لن يمكن للمشاهد المصري أن يراها وأن يتذوقها بهذا الشكل المبهر إلا بواسطة هذه الطريقة الخاصة التي جعلنا التكنيك الفني نحس أننا نحتل مقاعد أوبرا نيورك الشهيرة ونحن مازلنا علي مقاعدنا الصغيرة في أوبرا القاهرة.