تُعتبررواية (حزن مَدْرسي) للكاتب والروائي الفرنسي دانيال بناك والتي صدرت ترجمتها إلي العربية عن الهيئة العامة للكتاب ضمن إصدارات سلسلة الجوائز عملاً روائياً يمكن أنْ يوصف بالعبقري ليس فقط لحصولها علي إحدي الجوائز العالمية الشهيرة وهي جائزة (رينودو)..لكن كذلك لأنها عمل روائي ممتع بحق، وعلي الرغم من كونها رواية إلا أنه يمكن اعتبارها كتاباً قيماً في علم التربية والتعليم.كتاب يمكن للقائمين علي العملية التعليمية أن يستفيدوا منه في كيفية التعامل مع التلاميذ وإعداد المدرس الكفء وتخليص المناهج الدراسية مما فيها من حشو ينفر التلاميذ من موادهم الدراسية بدلاً من أن يحببهم فيها، ويثبت بناك بروايته هذه عكس ما استقر في أذهان المبدعين العرب خاصةً الروائيين في السنوات الأخيرة وهو أن العمل الإبداعي لن يترجم ولن يطير في اتجاه العالمية ولن يحصل علي جوائز إلا إذا قام بتحطيم التابوهات وثار وتمرد دينياً وجنسياً..هكذا يحسب هؤلاء..غير أن الحقيقة غير ذلك فالعمل الإبداعي يصبح عملاً عالمياً ويحصد العديد من الجوائز إذا كان فقط معجوناً بكيمياء الإبداع ولديه رصيد وفير من التَّماس مع النفس الإنسانية مُعبّراً عما يجول بداخلها ويخطر علي بالها. الرواية في روايته (حزن مدرسي) يحكي دانيال بناك تفاصيل رحلته التعليمية أي أن الرواية هي سيرة ذاتية للكاتب لكن في الجانب الذي يخص السنوات التي قضاها بين جدران المدارس.لم يكن دانيال بناك طالباً أو تلميذاً مجتهداً وإلا لكانت هذه السنوات من أمتع وأحلي سنين حياته..لكنه كان غير ذلك..لقد كان تلميذاً بليداً بل فلنقل فاشلاً..حتي أن والده قال له ذات يوم:لا بأس سوف تحفظ حروف الهجاء A..B..C..D في ستة وعشرين عاماً:(كنْتُ أسْمعُ مَنْ يقولُ بأنّني أحْتاجُ إلي عامٍ كاملٍ كي أحْفظَ حرْفَ ال «a» حرفُ ال (a) في عامٍ.كانتْ صحْراءُ غبائي تبْدأُ بعْد ذلكَ مِنْ حرْفِ ال «b» الذي لا يقْهرُ. مَا مِنْ هَلعٍ..في غضونِ ستّةٍ وعشرينَ عاماً سيعْرفُ حروفَ أبجديتهِ بامْتيازٍ.هكذا كان أبي يتهكَّمُ كي يلْهي نفْسهُ عمَّا في داخلهِ مِنْ خَوْفٍ.) فكرة الرواية أما فكرة الرواية فقد جاءته وهو يتنزه ذات يوم مع أخ له وأخبره أنه يود أن يقوم بكتابة كتاب ما..ظنه أخوه أنه يريد كتابة كتاب عن المدرسة لكنه قال له: ألا تَري أنَّ الكتبَ التي تتناولُ هذا الموضوعَ ليستْ موجودةً بالقدْرِ الكافي؟ لىْسَ عَن المدْرسةِ! فالجميعُ مُهْتمونَ بالمدرسةِ..نِزاعٌ أبدىٌّ للقدماءِ والمُحْدثينَ: مناهجها..دورها المُجْتمعىُّ.. قَصْدىَّاتها..مَدْرسةُ الأمْسِ..ومَدْرسةُ الغدِ..لا..كتابٌ عَن التلميذِ الكسولِ! عنْ ألمِ عَدَمِ الفَهْمِ وآثارهِ الجانبية». لقد برع دانيال بناك في تصوير صورة التلميذ الكسول/ البليد/الفاشل التي كانها: أتستطيعُ أنْ تقولَ لي شيئاً آخرَعن التلميذِ الكسولِ الذي كنتُهُ؟ أنْتَ تتذمَّرُ مِنْ عدَمِ امْتلاكِ ذاكرةٍ.لقدْ كانت الدروسُ التي أشْرحها لكَ في المساءِ تتبخّرُ حالما يجيءُ الليلُ.وتكونُ في صباح اليوم التالي وقد نسيتها كلَّها، الحقيقة أنَّ...لمْ يكن شيء يرسخ في ذاكرتي كما يقولُ شبابُ اليوْمِ.كانت أبسط الكلمات تفقد فحواها ما إنْ يطلب مني أنْ أتأملها كمادةٍ للمعرفة». حجر عثرة وطوال صفحات الرواية يسرد دانيال بناك الصعوبات التي كانت تقف حجر عثرة في طريقه ذاكراً دروساً كثيرة في مواده الدراسية كان يصعب عليه فهمُها واستيعابها: «عصىُّ الذّهْنِ علي الحسابِ أوَّلاً..ثمَّ علي الرياضياتِ بعْدَ ذلكَ..ثمَّةَ أخْطاءٌ إمْلائيةٌ بعُمْقٍ..مُتمرّدٌ علي حِفْظِ التواريخِ..علي حَصْرِ الأماكنِ الجُغْرافيةِ..غيرُ جديرٍ بالتدرّبِ علي اللغاتِ الأجنبيةِ..مَشْهورٌ بالكسَلِ..دروسٌ لا تُسْتذْكرُ..عملٌ لا يؤدّي. كنْتُ أَجْلبُ إلي المنْزلِ نتائجَ تَدْعو إلي الرثاءِ..لمْ تكنْ تُكفّر عنْها لا الموسيقي ولا الرياضةُ ولا حتَّي أي نشاطٍ دراسي آخرْ». «إذن..كنْتُ تلميذاً سَيئاً.كل مساءٍ مِنْ مساءاتِ طفولتي كنْتُ أعودُ إلي منْزلي تُلاحقني مَدْرستي.كانتْ كرّاساتي تَرْوي توْبيخَ أساتذتي الشديدَ لي.حينَ لا أكونُ الأخيرَ في الترتيبِ علي الفصْلِ فهذا يعْني أنَّ ترْتيبي هو قبل الأخيرْ». من أين يأتي تكاسلي؟ تُري لماذا لم يتصالح دانيال بناك مع المدرسة؟ ولماذا لم يتوصل إلي حل لمشكلته في التعامل والتعاطي معها؟: ىُخىّل للكسالي أنَّ المدرسة نادٍ مغلقٍ بإحكام ىُمْنعون من دخوله..بمساعدة بعض المدرسين..أحياناً». لنبدأ بالخاتمة لقد افتتح الراوي روايته مُتحدثاً عن علاقته بأمه التي كان يؤلمها فشله وتكاسله قائلاً:(فَلْنبدأْ بالخاتمة:أمِّي ذاتُ المائةِ عامٍ تقْريباً تُشاهدُ فيلماً عَنْ مُؤلِّفٍ تَعْرفهُ جَيداً.نَري المؤلفَ حيثُما يقيمُ..في باريسْ مُحاطاً بكُتُبِهِ..في مَكْتبتهِ ومَكْتبِهِ في آنْ.تُطلُّ النافذةُ علي فِناءِ مَدْرسةٍ.نعْرفُ أنَّهُ خلالَ ربْعِ قَرْنٍ مَارسَ المؤلفُ مِهْنةَ التدْريسِ.لقد مات والد المؤلف فتحملت أمه تبعات تربيته: «لكنْ في قرارةِ نفْسها كانَ يقْطنُ قَلقُ أنّها تَسبَّبتْ وإلي الأبدِ في ولادةِ تلميذٍ سيئ منْذُ البداية». ولأنه كان كثير الرسوب وثمة سنوات دراسية عديدة قام دانيال بناك بإعادتها فكان والده كثيراً ما يسخر منه:(لا تقْلقْ..حتَّي بالنسبةِ للثانويةِ العامةِ ستحْصلُ علىْها بشْكلٍ آلي.لكن تُري ما الذي أدَّي بالراوي هنا أو فلنقل بدانيال بناك إلي أن يصل إلي هذه الحالة من البلادة التعليمية؟: «لكنْ لِنعودَ إلي بداياتي.كنْتُ المولودَ الأخيرَ بينَ أرْبعةِ إخوة.. وكنتُ حالةً شَاذةً.كنْتُ مَثارَ ذهولٍ..ذهولٍ دائمٍ إذْ أنَّ السنواتِ كانتْ تَمرُّ دونَ أنْ تحْملَ لي معها أدْني تَحسّنٍ في حالةِ بلادتي الدراسية». اللعب والتكاسل ولأن تكاسل التلميذ ربما يعود في أصله إلي حبه للعب فها هو دانيال بناك يقول في أحد فصول روايته: «دون أنْ أكون عَصبي المزاج..كنتُ طفْلاً نشيطاً ومُحبّاً للعب.كنتُ ماهراً في لُعبة البِلْي ولعبة العُظيمات..لم يكن أحدٌ يجاريني في لعبة الكرة المحبوسة.كنتُ بطل العالم في لعبة الوسادة..كنتُ ألعب حقاً.بالأحري كنتُ ثرثاراً وساخراً بل مُهرّجا». لكن هل كان الراوي يفشل نتيجة لِلَعِبِهِ أم كان يلعب لينسي حزنه المدرسي؟: «كان اللعب ينقذني مِن الألم الذي كان يجتاحني منذ أنْ أسقط في خِزيي المنعزل مرةً أخري.يا إلهي! عزلةُ تلميذ كسول في خزيه لا تقوم أبداً بفعل ما ينبغي فعله.مِن هنا جاءت رغبتي في الفِرار.. شعرتُ مُبكراً بالرغبة في الفرار.إلي أين؟كفي غموضاً. فلنقلْ الفرار من نفسي..لكن إلي نفسي». القراءة والفشل الدراسي كان الراوي يجد ضالته في القراءة ليس هذا وحسب بل كان يجد فيها دواءً ومنقذاً من المناهج الدراسية التي كانت تصيبه بالحزن: «مما تقدم كان ميلي السري للقراءة. إنها المدرسة الداخلية التي منحتني هذا الذوق. كنتُ أفتقر فيها إلي عالم يخصني.. وكان هو عالم الكتب». نصائح ولأنه مارس التدريس فعلياً نجد الراوي يقدم نصيحة لمن يعملون بالتدريس فيقول: «أمراض النحو تُعالَج بالنحو..الأخطاء الإملائية بالتمرين علي الإملاء..الخوف من القراءة بالقراءة..الخوف من عدم الفهم بالانغماس في النَّص». كتاب تربوي وبعد هذه قراءة خاطفة لرواية حزن مدرسي للروائي الفرنسي دانيال بناك والتي يحكي فيها جانباً من سيرته الذاتية فيما يتعلق بحزنه المدرسي الفعلي..وكما قلت آنفاً إنها رواية ممتعة وجميلة وكذلك هي كتاب يصلح لعلاج الكثير من مشكلاتنا التعليمية والتربوية..هذا بالطبع إذا قرأه من يهمهم الأمر بجانب القراء العاديين وسعوا إلي الإفادة منه..فالأدب والفن الخالي من مضمون رسالة ما..ما هو إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.