تعد بروكلين هايتس للروائية ميرال الطحاوي، من روايات المواجهة مع الآخر، أي مقارعة الحضارة العربية بالحضارة الغربية، أو مواجهتها، ولم تشأ الكاتبة أن تعلن صراحة تلك المواجهة الفكرية، بل اكتفت بالمقارنة الصامتة، بدون أي تدخل منها، أو تعليق، حيث ينتمي زمن الرواية لفترة وصول باراك أوباما لسدة الحكم في أمريكا، مع تطلّع العالم أجمع، لا الشعب الأمريكي فحسب، لما سيحققه أوباما خلال فترة حكمه، بعد أن أراق الرئيس السابق دماء الأبرياء، فماذا سيحقق أوباما في خضم حياة من التعصب، وأحداث سيئة تكرست وتعمقت خلال العقود الأخيرة، عبر فكر متطرف، وسياسات عقيمة، وانهيار قيم الأسرة والمجتمع. وبروكلين هايتس هو اسم لأحد أحياء نيويورك، يقطن فيه عدد كبير من السود، كما يعب بالمغتربين من كل حدب وصوب، تتجاور فيه البيوت الصغيرة بشكل كبير، تضم سكانا من مختلف الجنسيات، تقطن هند بطلة الرواية أحد هذه البيوت مع ابنها، الذي لم يتجاوز التاسعة تقريباً من العمر. استطاع الراوي أن ينقل، باقتدار، تفاصيل الحياة داخل هذا الحي، الذي تتباين فيه الجنسيات والثقافات، مستخدماً ضمير الغائب، لهدف تقني في الرواية، وهو رغبة البطلة في الانسلاخ عن شخصيتها الأساسية، ووضع مسافة بين الشخصيتين، حتي تستطيع أن تتحدث، بموضوعية وحيادية شديدة، عن تلك الشخصية. تنتمي بروكلين هايتس، من حيث تقنية السرد، لما يسمي بالتيار العضوي، أو تيار الرواية الداخلية، وهو تيار يفسر نفسه بنفسه، فليس العين الداخلية هي التي تلعب دورها هنا، بل الحياة الداخلية كلها تبتعث، سواء علي مستوي الإدراك الحسي، أو الرؤية الحُلمية الهفهافة، وهنا، يتصور الراوي دائماً بيئته، باعتبارها نبضاً متذبذباً، أو كتلة دائمة الحركة من الأحاسيس والخواطر، ولذا، يقل الحوار، ويحاول السارد إزاحة الحواجز بين الحلم والصحو، وبين الداخلي والخارجي، وبين الوهم والحقيقة، وبين الخيال والواقع، ولذا، يعتمد السارد علي معجم لغوي خاص، يتسم بالشاعرية، فهو معجم حساس رقيق هفهاف كثيف متفجر، مشحون بالطاقة الكامنة، دائما ما يكمن وراء هذه الأعمال الروائية، مشكلات اجتماعية كبيرة، أو استسلام لضغوط نفسية وانفعالية، ولكن الرواية تتورط في قضايا كونية كبري، لم تستطع الفكاك منها، كالبحث عن حقيقة الوجود، والمصير، وقد كتب هذا النوع من الروايات إدوارد خراط في الأربعينات ومنتصر القفاش وآخرون، أما بالنسبة لموضوع الرواية، فهي تنتمي، كما أسلفت، لروايات المواجهة الحضارية والثقافية مع الغرب، بل هذه المواجهة هي التيمة الأساسية التي تنبني عليها الرواية، بدليل عنوان الرواية الذي يحمل اسم أحد الأحياء الغربية، كما رأينا من قبل مثلا، رواية نيويورك 80، ليوسف إدريس، وفينا 60، أيضا لإدريس، وحديثا شيكاغو، لعلاء الأسواني، وهكذا، ومن قبل كانت محاولة رفاعة الطهطاوي في روايته "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، في القرن التاسع عشر، وتنتمي هذه الروايات، بشكل أو بآخر، لنوع من روايات السيرة الذاتية، ففي بروكلين هايتس، لم يترك الراوي مناسبة، إلا وأبحر بنا في الزمان والمكان الماضيين، ليطّلع المتلقي علي تاريخ هند، بطلة الرواية، منذ طفولتها في القرية، وحتي صباها، وعلاقتها بأبيها وأمها وجدتها وصديقاتها، فيعيد الراوي النبض لتلك الحياة، لتعيشها هند من جديد، إلي حد الاستغراق التام، ثم تفيق، وتعود للحظة الآنية، وهو في كل مرة يفعل ذلك، يقصد عمل نوع من المقارنة بين اللحظتين، السابقة والآنية، ومع كل رحلة في الماضي، يعود المتلقي مع الراوي، حاملاً حزمة من الأحزان، فهي ذكريات مؤلمة، في أغلبها، بكل ما تحمله من مشاعر الأسي والألم، وإن كان الفرح فيها قليلا، ولذا قال توفيق الحكيم: "إن صاحب الأيام الجميلة يحياها ولا يدونها"، فتدويننا لتلك الذكريات المؤلمة، قهر لها، وتقليص لتأثيرها السلبي علينا. ازدادت روايات اللقاء بين الذات العربية المثقفة بالآخر الأوروبي، في مطلع العصر الحديث، فقد تحرك المثقفون، من واقع البحث عن الهوية وحفظ الموروث، من أجل الثبات أمام الآخر، أو الذوبان فيه، فهو ينتقد الآخر، وانتقاد الآخر شرط لوعي الذات بنفسها، ووعي الذات، هو نفسه شرط لاكتساب القدرة علي التعامل النقدي الواعي مع الآخر الغربي، ويأخذ الصراع بين أبطال هذه الروايات اتجاهين، كل منهما عكس الآخر، الأول داخلي في الوطن، والثاني خارجي مع الآخر الغربي، كما حدث مع محسن في "عصفور من الشرق"، لتوفيق الحكيم، في مطلع القرن العشرين، ورواية "بدوي في أوروبا"، لجمعة حماد، و"موسم الهجرة للشمال"، للطيب صالح، وغيرها. يستند موضوع روايات المواجهة الحضارية، في منطقه، علي أبعاد سياسية وفكرية وأيديولوجية، ولذا، نجد الخطاب الروائي غنياً بالدلالات، فيكون من الطبيعي ألا يتعامل الناقد مع ظاهر النص ومعطياته الواضحة، وإنما يسعي إلي تقديم تفسيرات، ولاسيما إن كانت اللغة الروائية قابلة لقراءات عدة، فيحاول الناقد الارتقاء فوق الفهم المباشر، واستبدال الرمز البعيد بالرمز القريب، وهذا ما ظهر من خلال السرد في "بروكلين هايتس"، فعندما تحدث الراوي عن معالم التغيير السلبية التي حدثت بقرية هند، بل بكل القري المصرية، بسبب فساد النظم السياسية، وتحكم أجهزة القمع، قال: "خافت للمرة الأولي من نبرة صوت أبيها، ارتعشت من عينيه اللتين تبحران بعيداً عنها..صارت هند رفيقه الوحيد، بعد أن سافر شامل الصيدلي إلي ليبيا، وهاجر إيميل الناظر عند أقاربه في كندا، وصار الموظفون الجدد لا يهتمون بالمضيفة ولا صاحبها، وفضل كثير من المتخاصمين أن يحلوا قضاياهم في المسجد، وارتدت فاطمة القرومية إسدالاً، وافترشت الأرض أمام المسجد لتبيع المسك والسواك والمصاحف..". وكلها إشارات لطمس هوية القرية المصرية، كانت هند في نهاية العقد الثالث من عمرها، حين طُلّقت وهاجرت للعيش في هذا الحي بأمريكا مع طفلها، وبعد فترة، تكتشف هند أنها لم تستطع التخلص من ذكرياتها التي تركتها وراءها بقريتها، بل مازالت تحمل جرح الزوجة التي تكررت خيانات زوجها أمام عينيها، وحاولت أن تسامح كثيراً، إلا أنها لم تعد تستطيع التحمل، حملت هند القرية في قلبها، لتعود إليها في فترات الضيق والألم، وتعيد معايشة تفاصيل الحياة هناك، وبخاصة ذكريات الطفولة، وتتذكر هند لحظات السعادة والخوف والفرح والألم، وبالرغم من أن الكاتبة أكثرت في الرواية من الحديث عن تلك الذكريات، حتي كاد المتلقي أن يشعر بالملل، لأنه لم ير تنامياً درامياً في الأحداث، إلا أن الكاتبة استطاعت كسر ذلك الملل، بعقد المقارنة بين موقفين؛ الأول في حياتها الجديدة في الغربة، والثاني في حياتها السابقة في الوطن، مما أعطي للمتلقي مساحة للتأمل، ومحاولة التذوق لطعم هاتين الحياتين، فيقع علي المشاعر الحقيقية التي تمر بها هند في تلك اللحظة، وهذه حرفنة، لا تؤتي إلا لروائي متمكن من أدواته، ويعرف كيف يستحوذ علي حواس المتلقي، حتي لا ينصرف عنه، فقد سارت الأحداث متجاورة متتالية، لا متراتبة أو متتابعة، وهو نوع من السرد الحديث، ظهر مع الروايات التي ترفض القولبة، يمكن استحسانه أحياناً. اهتمت الكاتبة بوصف المكان بدقة، سواء في القرية، أم في "بروكلين هايتس" وبلغ اهتمامها بالمكان، إلي حد أنها أطلقت علي فصول الرواية أسماء لأماكن في هذا الحي، مثل: "فلات بوش"، و"باي ريدج"، و"جرين وود"، و"فولتون ستريت"، وهكذا باقي فصول الرواية، ماعدا الفصل الأخير، "فصل البرد"، وهو رمز للغربة المضاعفة؛ غربتها عن نفسها، وغربتها الحقيقية فقد فشلت في استعادة حياتها، رغم محاولتها نسيان الماضي. استطاعت الكاتبة أن تمتلك المكان باقتدار، كما امتلكت الحقيقة باقتدار، مما مكنها من تصوير المشهد بعبقرية، يضاهيها في ذلك الروائي الأمريكي، آرنست همنجواي في أشهر رواياته، مثل: "وداعاً أيتها الحرب"، و"الشمس أيضاً تطلع"، و"لمن تدق الأجراس"، وغيرها، كان همنجواي مولعاً بوصف الريف، ووصف أشعة الشمس وهي تتخلل أوراق الشجر، فتبدو علي شكل دوائر نحاسية علي الأرض، كما كان مولعاً بوصف مصارعة الثيران بإسبانيا، فالمكان بالنسبة له، يكاد يكون معشوقاً، وقد قال همنجواي: "إذا لم تكن لديك جغرافية المكان، فليس لديك شيء"، ولذا، قل أن نجد أدباء يتمتعون بهذا الإحساس بالمكان، دون أن يكون ذلك سبباً في أن يزحم العناصر القصصية الأخري، "فقليل من استطاعوا، بمثل إيجاز همنجواي ولمساته، أن يصوروا كيف يمشي امرؤ خلال شوارع باريس، مفتشاً عن فطور في مقهي منزو، أو كيف تتردد أصداء خطوات امرئ يمشي بين الجدران المتقاربة علي البلاط القديم، صباح أحد الأيام بمدينة البندقية، عامداً إلي السوق المحاذي للأدرياتيك، أو كيف يرقب امرؤ الساعة السادسة عند الفجر بإسبانيا، الثيران وهي تجري من حظائرها، خلال شوارع بمبلونة نحو حلبة الصراع". وتصف الكاتبة، بعبقرية، مشهد عطلة السبت في مقطع، تمزج فيه المكان بمشاعرها قائلة: "وتأخذه من يده وتمشي كثيراً، لأن اليوم يوم عطلتها الأسبوعية، تمشي لأن الغرفة التي تسكنها مقبضة، ولأنها لا تستطيع النوم ليلاً، ولأن روحها القلقة تجعل الاستكانة التي في عينيها مخيفة، حين يعودان في نهاية النهار، سيجلس إلي جوارها يتابع شاشة التليفزيون، وهي تدفن رأسها في الأغطية أكثر، وتحلم بهم، تحلم بحياتها التي تنساها وتضيع من يدها.."، وفي مشهد آخر، تصف فيه المشردين وهم يجرون عرباتهم نحو المقهي، ساعة نزول المطر، فتقول: "في الصباح، يأتي الموظفون، يتبعهم الطلبة، وفي المطر يأتي المشردون، يأتون من شوارع بعيدة، ويحيون بعضهم وكأنهم علي موعد، يأخذون وقتاً طويلاً ليكملوا عد العملات المستديرة في جيوبهم المتسخة، يقفون في صف طويل يطلبون القهوة، ويجلسون طوال النهار، يسحبون عرباتهم المليئة بأشياء تفوح منها رائحة العطن..". وتتفجر مفاجأة مع نهاية الرواية؛ ففي المكان الذي يُلقي فيه بمتاع من رحلوا عن الدنيا، أو بأشياء استغني عنها أصحابها، تزاحم بيوتهم الضيقة، وجدت هند متعلقات للسيدة ليليان، التي رأتها تزور الحي عدة مرات، وهي سيدة مصرية، زوجة سابقة لأحد مشاهير الأطباء، ابنها من أشهر رجال الأعمال بأمريكا، فعلمت أنها توفيت، فألقي بمتعلقاتها، وعندما تقلب هند في متاعها، تشعر أنها رأت تلك الأشياء من قبل، بل تنتمي هذه الأشياء لأسرتها، فتعلن مفاجأتها لصديقتها الروسية، "إيميليا"، وهي سيدة تبيع الأحذية القديمة، بعد أن تحصل عليها من هذا المكان، اعتادت هند الجلوس معها، أثناء انتظارها خروج ابنها من المدرسة، بل شعرت هند أن كل ما خطته ليليان، هو خط هند وقلمها، لم تبال السيدة الروسية بما تقوله هند، وتنشغل بجمع الأحذية، وهنا، تدخل هند في تلك المنطقة الرمادية بين الحلم والواقع: "وتحاول أن تنسي الخوف في الحلم تأتي أرانب صغيرة لها عيون حمراء مثل إيميليا مثل عيون الجدة زينب..تطل الأرانب من جحورها علي الموتي وتسرح في أنفاق المقابر وتتوالد بين الموت والحياة.."، وتتركنا الكاتبة في حيرة لا تقل عن حيرة هند.