عرفت أستاذي علي أدهم ستة عشر عاما في حداثتي. فلم أعرف أحدا بعده أكثر منه إصغاء لجليسه، واستماعا لوجهة النظر الأخري، وكان إما متقبلا لها، وإما معارضها في هدوء ولين، دون محاولة منه لفرض رأيه، وإلزام الآخر بفكره، وإحالة جو المناقشة إلي صخب وشغب، وكان ما يقوله في الوجه هو كل القول، فلا ينتقص من الشخص الآخر بعد انصرافه، ولا يخفض من شأنه ليسوغ أصالة نظرته، ورسوخ معارفه ولم يكن هذا كياسة منه وتأدبا، وإنما هو طبع مركب فيه، لا يستطيع أن يحيد عنه ويجافيه، وهو بهذا يحافظ علي توازنه ولا يوهن من قواه، ويثري روحه ويجعلها أكثر صفاء وإشراقا، وأنفذ نظرة ورؤية، وأقدر علي التأهل لاستكشاف الحقائق الكامنة. وصاحبنا لا يستهويه الصدام والثورة، ولا يدلي بالكلمات المجلجلة الصارخة، ولا يتيه ولا يباهي، وإنما يجرد عبارته من العنف، وينأي برأيه عن الشطط، وتنطبق عليه مقولة «يقول كلمته ويمشي» ويسجل ما يرتأيه، وهو في طمأنينة العلماء، وجلال الحكماء الذين رزقهم الله الرزانة والرصانة، وأحيانا كانت لا تعجبه بعض آراء العقاد في الشعر وأبطال التاريخ، فلا ينتقده، ولا يدخل معه في سجال، وإنما يدون في كتبه ما يعتقد أنه صواب، من غير ذكر اسم العقاد، ولكن من يقرأ هذا وذاك، يدرك ماذا يعني علي أدهم، ومع ذلك كان العقاد يطريه، ويقدره، ويشيد بمعارفه ومما قاله فيه: «علي أدهم رجل يدرس التاريخ بنظر الفيلسوف، ورؤية العالم، وحماسة الأديب، ويعرف من مذاهب الفلاسفة العظام في أسرار التاريخ ما ليس يعرفه عندنا غير أفراد معدودين، فإذا تناول قبيلا أو رجلا أو دولة نفذ إلي موضع الملاحظة والحكمة مما تناوله في مذاهب التحليل والتعليل «جريدة الدستور 9/1/1939». وعلي أدهم لا يدعي علما لا يعلمه، ولا يصدر حكما في قضية لا يعرف حيثياتها ولا تنقصه الشجاعة والصراحة إذا حكم، ولا يحاسن إلا إذا أدرك وجوه الحسن، وقد سألته إحدي المذيعات عن نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وأيهما أمكن في القص؟ فقال ما مفاده: لقد أشبعت عاطفتي في قراءة القصص، من قصص وروايات الأوروبيين، ولم أكن في حاجة لقراءة القصة المصرية وهي تتشكل وتتكون. وهو في هذا الرد لا يكتم سره أو يتملق، وله ثلاث مجموعات قصصية مترجمة هي «فيرانا أو الهارب من الخطيئة» «الخطايا السبع» «صديق الشدة» وقد اختارها بعناية من بين مئات القصص الأوروبية، وتعكس اتجاهات ذهنه الباحث عن الفن الذي يصور دخائل النفس ويتأمل غوامض الوجود، ويعرض لمشكلات الحياة ومفارقات الدنيا وغيرها، ومقدمات هذه المجموعات تعد دراسات في القصة والرواية، كما أنه يعطيك نبذا في مقدمات معظم القصص عن مؤلفيها مع ذكر العبرة المستخلصة منها، وهي قصص جميلة الأسلوب تجمع بين الفائدة والمتعة. نظرات في الحياة وتدور دراسات علي أدهم حول النقد الأدبي والفلسفة والتاريخ وفلسفة التاريخ والاجتماع والتراجم الأدبية والتاريخية، وهي علوم كثيرة حية وسع بحثه فيها من آفاقه، ونوعت كتاباته وحاول ما استطاع معالجة بعض قضاياها، بطرائق مناسبة ولا استطيع القول إنه حسم الأمور وأجاب عن كل سؤال، لأنه ليس من السهل الوقوف علي العلل والاهتداء إلي النتائج التي تجعل القضايا ظاهرة جلية، وحلولها ميسورة ممكنة وبخاصة في الميتافيزيقا. ومما شغله وشاع في كتاباته بحثه عن الإنسان في هذا الوجود، وهو موضوع كسفت صعوباته الباحثين فيه، فقد أعياه فهم هذا الكون الغامض وكثرة الشرور وما ينجم عنها من آلام، ووطأة الشك علي النفس، وما ينتج عنه من بلبلة، وعدم الاستيثاق في حقيقة الخلود، والتأمل الطويل في حالة الموت الفاجع، والصراع الناشب بين الجسد والنفس، وصعوبة الترجيح بين شيء وشيء في معطيات الوجود.. وغير هذا من القضايا العليا الشائكة التي انشغلت بها الفلسفة، ولم تقدم عنها مقولات شافية، وحلولا واقعية. وقد حاول أدهم أن يوضح هذه القضايا في كثير من كتاباته. وبخاصة كتابه «لماذا يشقي الإنسان»: ولكنه مثل الفلاسفة تكبحه كوابح الغموض عن الوصول إلي الحقائق. وهو في هذه القضايا التي يتناولها يثير الشجن في النفس، ويعبر عن مخاوف الإنسان، وكلامه بمنزلة تعزية لنا، وتسرية عما يلم بنا، لأنه ليس في إمكاننا التغلب علي المجهول. وهذه الصورة المحزنة عن وضع الإنسان في الكون، قد تميل بالمرء الذي أطال التفكير في الوجود إلي التشاؤم والطيرة، فيتبرم بالحياة، ويسيء الظن في جدواها، وقد حاول أدهم أن يتوازن في هذه الحياة بين التفاؤل والتشاؤم ولم تأت أحاديثه في كتبه عن شو بنهور وليوباردي وبابيني، والمتنبي وأبي العلاء المعري وعبدالرحمن شكري اعتباطا، وهم من أكثر الشعراء والمفكرين تشاؤما، وكانت خطراتهم تجد لها متسعا في نفسه، كذلك فإن ما كتبه عن الموت والخلود وهو غير قليل وما كتبه عن «التشاؤم التاريخي» وسفري «الجامعة» و«أيوب» يفيد غلبة هذا الجانب عليه. ويقول في كتابه «نظرات في الحياة والمجتمع»: «مذهب التشاؤم علي ما فيه من نقص وعيوب أجدي علي الحياة، وأعظم أثرا في الإصلاح وتحريك العزائم من التفاؤل البليد القانع» ويقول أيضا: .. والتفاؤل في كثير من الحالات ضرب من اليقين لا سند له من المنطق، ولا دليل عليه من التجربة. والتشاؤم ليس سبة، فالسخط يدفع بالإنسان إلي التقدم والنهوض، وهو حذر شديد يجعل المرء أكثر تطلعا وترقبا واستيقاظا ويبصر الإنسان بعواقب الأمور ويتخذ الأهبة قبل وقوع الشرور. أبو العلاء وفلسفة التاريخ والتشاؤم عنده ليس نظرة عابرة، وإنما يتمطي في كتاباته، ويدخله في صميم فلسفة التاريخ، ويختار له من يمثلونه، مثل أبي العلاء المعري. ولما كان التاريخ هو الأحداث والأفعال المتتابعة عبر الزمان، فإن فلسفة التاريخ هي رؤية فلسفية للواقعات والدورات تفسر ما جري، أو تمنحه معني كليا عاما، فالتاريخ هو الأصل، وفلسفة التاريخ رؤية له. وبالعقل يتعامل الفيلسوف مع الحادثات المطردة، ويكشف عن سرها ويفسرها، وللتاريخ رؤي كثيرة، أو فلسفات عديدة، وكل فيلسوف له رؤيته الخاصة التي يفسر بها جيشان الإنسان وأفعاله في الزمان الممتد، فمن فسر التاريخ تفسيرا اقتصاديا ماديا مثل كارل ماركس ومن فسره تفسيرا بطوليا مثل كارل ماركس، ومن فسره تفسيرا بطوليا مثل كارليل الذي رأي أن التاريخ هو سير الأبطال، ومن فسره بالصراع أو الديالكتيك يفسر التاريخ مثل هيجل. وهناك من قالوا إن الحياة تتقدم أو في حركة تقدمية دائمة مع توالي الحقب، وفي المقابل هناك من أنكروا التقدم، ويذهب أدهم إلي أن أبا العلاء من الرافضين لتقدم الإنسان، ونزوعه إلي الكمال، والسمو الروحي، ويعمد أي أدهم، إلي شرح نظرية الحركة الدائرة الرافضة للتقدم والتي ينتسب إليها المعري في نظرته إلي التاريخ، فيقول في كتابه «بين الفلسفة والأدب»: مذهب الحركة الدائرة يمثله القدماء بالأفعي التي تأكل ذنبها وأنصار هذا المذهب ينكرون الوحدة الاجتماعية، والتقدم التدريجي الشامل ولا يعتقدون أن هناك غاية منصوبة تتجه إليها الإنسانية، ويرون المجتمع والإنسانية عامة شراذم من الأفراد، تستحثها المطالب المادية، وتسوقها الحاجة إلي الاجتماع استجابة لتلك الرغائب والحاجات، وفريق من أنصار هذه النظرية «يبشرون باليأس والتزهيد في الحياة ويندبون حظ الإنسانية.. وفلسفتهم حزينة مجللة بالسواد..». وقد طبق علي أدهم هذه الرؤية الفلسفية علي شعر أبي العلاء، وكأنه صاغها من شعره، أو نثرها من فكره، فضرب أمثلة عديدة دالة عليها من منظومات حكيم المعرة، والتي تبين إنكاره للتقدم الإنساني، وأنه لا جديد تحت الشمس: ومن هذا قوله: «والله يحمد كلما طال المدي/ طغت الشرور، وقلت الأخيار» أي ربما استفحل الشر في المستقبل، وقوله: «والدهر أكوان تمر سريعة/ ويكون آخرها نظير الأول» أي أن حركة الدنيا أو الكون تتكرر ولا تتجدد، وقوله «لم يقدر الله تهذيبا لعالمنا/ فلا ترومن للأقوام تهذيبا» أي أن الناس غير مهذبين، ولا أمل في تهذيبهم، وقريب منه قوله: «ولا تأمل من الدنيا صلاحا/فذاك هو الذي لا يستطاع» أي لا أمل في إصلاح الدنيا، وقوله: «وهكذا كان أهل الأرض منذ فطروا/ فلا يظن جهول أنهم فسدوا» أي أن أهل الأرض فاسدون منذ الأزل، وليس الآن فحسب، يعني أنهم لم يتقدموا، وقريب منه قوله: «ما كان في الأرض من خير ولا كرم/ فضلّ من قال إن الأكرمين فنوا» أي ليس هناك كرماء لا في الماضي ولا في الحاضر. وقوله: «فأما هؤلاء فأهل مكر/ وأما الأولون فأغبياء». وهذه الأبيات تخدم القائلين بنظرية الحركة الدائرة، وعدم تقدم الإنسان، وإذا كان لي حق التعليق فإنني أقول إن الإنسان تقدم شكلا، وأفاد في ظاهره من وثبة العلم الحديث، أما من داخله فلم يتقدم، فمازال يتغلب عليه الطمع والجشع، والحقد، والحسد والأنانية والكذب والغرور والمغالطة.. وغير ذلك مما هو ثابت في طبعه ولا يستطيع منه خلاصا، وقد اهتدي علي أدهم إلي مقومات هذه النظرية الفلسفية في أدب المعري، وفسر بها قدرا من أدبه، وأدخل فلسفة التاريخ في النقد الأدبي، وكان هذا جديدا يحسب له: وما كان يفطن إلي هذا التفسير الفلسفي التاريخي لو لم يكن معنيا بهذا الأمر، غزير الاطلاع فيه مع بصيرة نافذة معاونة، وعقلية يقظة قادرة علي النظر الكلي الشامل من خلال جزئيات شاردة. التفسير الفلسفي للأدب وعلي أدهم يعرف كيف يتعامل مع الأدب ونقده بالعلوم المختلفة المتنوعة التي أشرنا إليها، وقد فسر رواية «الحرب والسلام» لتولستوي التي تحكي غزو نابليون لروسيا عام 1912، وهزيمته أمام الطبيعة في نهاية المطاف، وبين أن أشخاصها أدركوا أن الأحداث لا تجري وفقا للتخطيط والتكنيك، وإنما كل ما كان يحدث كان يخضع لقانون «الحتم» الذي يعارض قانون الإرادة. والحتمية كما يفهمها كاتب هذه السطور، قوة عليا مشرفة علي الوجود، تحدد مصائر الأمور وتوجه الأحداث والأفعال إلي اتجاهات لا تتراءي لبصائر الإنسان ولا تأثير للأبطال والأقطاب علي سيرها، لأنهم عاجزون عن فعل ما يشاءون. وقاصرون عن فهم ما يفعلون، وما يفعله غيرهم وكثيرا ما يعلق الإنسان صعوده أو سقوطه علي القضاء والقدر، بعد أن يعيه البحث عن الأسباب. وقد لاحظ أدهم وهو يقرأ الرواية أن أبطالها غير مؤثرين في توجيه الأحداث، وأنهم لا يفهمون ما يفعلون ف «بيير» يري نفسه مسوقا إلي الزواج بهيلين الجميلة وهو يزدري أخلاقها، وناتاشا تقع تحت تأثر جمال كوراجين.. وتحاول صديقتها سونيا إنقاذها من هذه الورطة.. فتقول لها ناتاشا إنني مسلوبة الإرادة وكل منا تعمل في نفسه قوي داخلية لا حيلة له فيها. ويروي تولستوي معركة أوسترليتز ويريها لنا سلسلة من المصادفات، والقائد الروسي كوتوزوف يحس أن هناك إرادة أسمي من إرادته توجه الحوادث. وكأن الميتافيزيقا هي المشرفة علي أحداث الرواية وتوجهات أشخاصها، فإنه يظهر لنا أن واقعاتها كانت في عالم الغيب معدة من قبل وأن دور تولستوي هو التعبير عن القدر والمقدر، وقد استكشف أدهم الدلالة الغيبية للرواية، وفسرها بقانون «الحتمية القدرية» أو قانون الجبر، وشع من وراء تحليلاته ضوء فلسفي أظهر تفسير تولستوي للتاريخ والتفسير الغيبي الميتافزيقي للتاريخ، يصعب إنكاره، فهو تفسير من التفاسير علي أية حال، يؤيده في واقع الحياة ما جري لك، وما تسمعه من صديق تجالسه، وهو يروي عددا من المصادفات التي كان لها دخل كبير في حياته وتوجيه مساره والمصادفة قضاء وقدر. وعلي أدهم يكشف بالعلوم عن فحوي الأدب، ويرينا منه وجوها غائبة، ويجعل نتوءه سهلا منبسطا ولا نشعر أنه يقحم هذه العلوم علي الأدب، وهو يلاقي بينها، فإنها في صحائفه تتقارب ثم تتداخل وكأنها علم واحد، يقدم لنا فائدة. التراجم وهو أحد فرسان فن كتابة التراجم في ثقافتنا المعاصرة، فقد كتب سيرا كثيرة لأعلام من الشرق والغرب، في الأدب والفن والتاريخ، ولكن أكثر ما توفر عليه هو تراجم القواد الأماثل من المسلمين مثل عبدالرحمن الداخل وعبدالرحمن الناصر، وأبي جعفر المنصور، والمنصور بن أبي عامر، والمعتمد بن عباد، وهؤلاء جاءت سيرهم في كتب كاملة، كما ترجم لنصر بن سيار، وقيس بن سعد، والحجاج، ويوسف بن تاشفين وغيرهم في تراجم قصيرة. والبناء الفني لهذه التراجم قوامه الترتيب التاريخي للأحداث، والواقعات والمواقف، مع ذكر الملابسات وكثير من الجزئيات والمفردات المهمة ذات الدلالة علي الشخصية. وبالرغم من إظهار إعجابه بأبطاله وأسلوبهم في الحياة، فإنه ذكر مثالبهم ونقائصهم، وكشف كثيرا من خفايا شخوصهم، وفي هذا البناء الفني يتمثل أدهم أحداثا تاريخية ويفسرها تفسيرا نفسيا أو دينيا أو سياسيا، وفقا للأحوال، ويضفي عليها من مخيلته ما يجعلها أكثر وضوحا، ولابد لكاتب التراجم من التصور الدائم، لأنه يستعيد أحداثا ومواقف وحوارات جرت في الماضي، والفضل الذي عقده في كتابه «أبوجعفر المنصور» وكتابه «تلاقي الأكفاء» عن علاقة أبي مسلم الخراساني بأبي جعفر يظهر حسن تصوره لمجري الأحداث، وبراعة تفسيره لتصرفاتهما في ضوء تفهمه لنفسيتهما استنادا لمعطيات تاريخية، ثم إن تعليله قتل أبي جعفر لأبي مسلم بأنه ضرورة سياسية لصد النفوذ الفارسي، يبين عمق نظره في سير الحوادث، ومعرفته بما كان يدور في خلد كل منهما: وكأنه كان معهما. وإذا كان الغرض الرئيسي من السيرة هو إبراز الشخصية وإظهار الروح العام لها، والمزاج السائد فيها، فإنه كان يذكر ما يطرأ عليها من تغيير قد يخرجها عن طبيعتها مع التعليل والتمثيل، فهو مع ما يذكره عن سماحة المعتمد بن عباد وكرم نفسه في كتابه عنه يورد الظروف العارضة التي اضطرته إلي قتل ابن عمارة ويظل أدهم في هذا الجانب الباطني المستتر يتغلغل ويتغلغل حتي يكشف النواحي المبهمة في الشخصية. وقد استطاع الأستاذ علي أدهم بألمعيته وثقافته العالية أن يميز بين عدة أنواع من مشاهير الأبطال الذين أثروا في حركة التاريخ فنراه يفرق بين من يبني منهم، ومن يهدم ويتخذ مقياسا دقيقا يفرق به بين الأبطال العظماء والأبطال الأقوياء يتلخص في أن العظيم هو من يترك الدنيا أحسن حالا مما كانت عليه وفي هذا يقول في مقدمة كتابه «أبوجعفر المنصور»: والقوة الروحية والامتياز الفكري هما أساس العظمة والبطولة الصادقة، وفي بعض الأحيان تعد القوة الأخلاقية معيار العظمة ومن خلال هذا المقياس يتردد في إضفاء صفة العظمة علي رجل مثل تيمور لنك لأنه مر علي الدنيا مرور العواصف المدمرة، وتركها بعده أسوأ مما كانت عليه قبله! وفي هذا المجال يفصل بين نوعين آخرين من الرجال الأبطال: رجال صنعوا التاريخ، ووجهوا مسار أحداثه، ورجال صنعتهم الظروف سهوا مكانة عالية بغير جهد أو عناء، أو بين رجال أشادوا الصروح الباذخة، ورجال وجدوا الصروح مشيدة، وكان ثناؤه وتقديره للكبار الصانعين. وعلي ذكر العظمة يوضح أستاذنا لونين منها: عظمة المردة الجبابرة، الذين غيروا بحروبهم وجه العالم مثل الإسكندر ويوليوس قيصر ونابليون، واللون الثاني وضحه في كتابه «المنصور بن أبي عامر» وهو «عظمة الذين قدموا للعالم قيما أخلاقية» وهم هداة الإنسانية وأنبياء الله عليهم السلام»، وقد وفق أدهم في إطلاق صفة «العظمة» علي اللون الثاني لأن أعمالهم تشتمل علي الهداية والتنوير، أما اللون الأول فقد كنت أرغب ان يطلق عليه «البطولة الجبارة» لأن أعمال نابليون وأضرابه لا تخلوا من سفك الدماء والهدم، فالأخلاق ملازمة للعظمة، والجبروت ملازم للبطل الجبار. وهذه التراجم الإسلامية ليست الغاية منها تدوين معالم حيوات أبطال وعظماء واستقصاء أخبارهم فحسب وانما من غاياتها تحريك وجداننا، والتأثير في نفوسنا ومزج الصور الحافلة فيها بمدركاتنا، وما يمكن ان توحيه لنا من خطرات، وتضفيه علينا من مشاعر وأحاسيس، أهمها الإعجاب بمن يستحقون الإعجاب فترجمته لعبدالرحمن الداخل «صقر قريش تثير فيك الإعجاب برجل ناهض حازم من بناة الدول، وترجمته ليوسف بن تاشفين أمير المرابطين تجعلك تعجب برجل زاهد صارم دحر الإسبان عندما استنجدت به الأندلس، ورفع الظلم عن المسلمين، كذلك تثير هذه التراجم الأسي والعطف، فترجمته للمعتمد بن عباد توقع في نفسك الإعجاب بأربحيته ونبله وجوده. وتثير العطف عليه بعد ان تراكمت عليه الأحزان وهو أسير حسير في سجن أغمات وهكذا يقدم صورا حية من التاريخ تثير الخيال وتجعل القارئ يتفاعل معها وتولد فيه تقدير العظمة والبطولة. ترجمته توثقت صلتي بالأستاذ علي أدهم في منتصف ستينات القرن الماضي ولازمته حتي وفاته في 8 يناير 1981 وهو متوسط القامة أميل إلي الطول، ممتليء الجسم في غير سمنة حنطي اللون، هادئ الطبع، وعرفت منه ان أباه وجده من تركيا، وانه ولد بالإسكندرية في 19/6/1897. وقد أطلق أبوه عليه اسم «أدهم» إعجابا بالبطل العثماني «أدهم باشا» الذي انتصر علي اليونان في سنة مولده، وتعلم علي أدهم في الإسكندرية والقاهرة، وعمل في جمارك إسكندرية والقاهرة، ثم انتقل إلي وزارة المعارف وترقي فيها وله أكثر من ثلاثين كتاباً منها غير ما ذكرناه «صور أدبية»، «صور تاريخية»، «شخصيات تاريخية»، «متزيني»، «الهند والغرب»، «تاريخ التاريخ»، «علي هامش الأدب والنقد»، «فصول في الأدب والنقد والتاريخ»، «بعض مؤرخي الإسلام»، عدا مئات المقالات في عدد من الدوريات، وصدرت عنه أربعة كتب هي «علي أدهم ونظراته في الأدب والنقد» د. محمد عبدالحكم عبدالباقي «تأويل العابر» للأستاذ بهاء حسين «علي أدهم» للأستاذ جمال بدران «علي أدهم بين الأدب والتاريخ» لكاتب هذه السطور رحم الله علي أدهم.