ومن هؤلاء الذين طالتهم اتهامات التخوين والعمالة الأستاذ الدكتور مأمون فندي والذي يعمل متخصصا في العلوم السياسية وأستاذاً بجامعة جورج تاون الأمريكية ويعد ويعتبر واحداً من المشتغلين والمهتمين بالشأن العام، وقد عمل فترة مديراً لبرنامج الشرق الأوسط وأمن الخليج بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن، كما عمل مديراً لبرنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية في واشنطن وكان طبيعياً مع كل هذه الوظائف والمهام أن تأتي مصر علي أجندة همومه إنْ لم يكن بحكم مناصبه وعمله فبحكم انتمائه لها، ولم يترك قضية من قضايا السياسة أو الفكر أو الاجتماع إلا وشارك فيها برأي هنا أو بفكرة هناك، ومقالاته وأفكاره في كبريات الصحف الأمريكية مثل "الواشنطن بوست ونيويورك تايمز والفايننشال تايمز" عدا حواراته وأحاديثه المتعددة علي ال C.N.N والB.B.C. إذا التمسنا العذرَ للعامة والدهماء في أن ينالوا مِن دُعاة الفكر والتقدم والتنوير فكيف يمكن أن نلتمسه للمتعلمين وبعض المثقفين وخريجي الجامعات؟ هؤلاء الذين يرون في نجيب محفوظ كافرا أو زنديقا بسبب أولاد حارتنا..! وهم أنفسهم الذين يقسِمون في يقين مدهش أن الراحل نصر حامد أبو زيد في النار ...! ولم ينجُ من اتهامات التكفير هذه عشرات بل مئات من الكُتَّاب والمفكرين والشعراء فضلا عن عدد من رجال الدين أيضا هؤلاء الذين ليسوا علي شاكلة مولاهم الشيخ محمد حسان أو الحويني ومَن شابههما. ومن غريب أيضا أن من ينجو مِن اتهامات التكفير هيهات أن ينجو مِن مقصلة العمالة أو التخوين؛ فبعض المفكرين أو السياسيين عملاء للغرب أو مجندون في الموساد الإسرائيلي، أو علي الأقل متهَمون بالتطبيع وكتابة التقارير المشبوهة وما إلي ذلك مما نسمعه ونقرؤه ليل نهار عبر وسائل الإعلام المختلفة، أو حتي مما يدور في جلساتنا العامة من أحاديثَ في السياسة والدين أو الفكر والثقافة، فالمتهِمون - بكسر الهاء - لا يعرفون شيئا عن حق وشرعية اختلافهم مع هؤلاء المتهَمين - بفتح الهاء- ولم يطالبهم أحد بتقديسهم ولا حتي باعتبار أنهم لا يخطئون أبدا فهم بشر يجري عليهم الصواب كما يجري الخطأ، وبعضهم يخطئ في التقدير وفي الرأي. ومِن حق المختلفين معهم إعلان هذا الاختلاف بل ودعوتهم للحوار بعيدا عن القمع والمصادرة والنفي فضلا عن اتهامات التكفير والتخوين تلك التي تجد صدي كبيرا في مجتمعاتنا لظروف نعرفها جميعا . اتهام بالخيانة والحق أن كثيرين كانوا يجهلون أن الرجل ابن محافظة قنا (قرية كوم الضبع - مركز نقادة ) وأنه تخرج في كلية الآداب قسم اللغة الانجليزية، وأنه عمل فترة كمعيد بإحدي الجامعات المصرية إلي أن قرر شق طريقه وسافر أول ما سافر إلي اليابان ثم انطلق بعدها لأوروبا وأمريكا. والرجل مهتم بالشأن السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي العام كمنظومة متكاملة ورغم ما يتمتع به من تقدير واحترام بالغين في الأوساط الثقافية السياسية العالمية إلا أننا في مصر مسكونون بالطبع بفكرة الخونة والعملاء والمتآمرين. وكل من يختلف معنا فهو عميل أو خائن، خاصة إذا تمتعت أفكاره بالليبرالية أوالعلمانية لقاءات ثلاث وقد سعدتُ بلقاء الدكتور فندي ثلاث مرات في الأعوام الثلاثة الأخيرة، والحق أن الجلوس معه والحديث إليه يختلف تماماً عن قراءة ما يكتبه فالرجل رقيق الحاشية، طيب الخلق، عذب الحديث، ينتقل بك في هدوء آسر بين الشرق والغرب، ومن حضارة المصريين إلي ثقافة الهند، ومن الليبرالية وتياراتها إلي الأصولية ومذاهبها المختلفة، بينما يبدو في كتاباته وكتبه ومقالاته حاداً وعنيفاً وصادماً ومباشراً في عرض أفكاره وتصوراته. ولسنا في حاجة للتأكيد علي ما يتمتع به مِن ثقل سياسي وأكاديمي بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه،... ورغم كل ذلك فقد راجت وانتشرت في شارعنا المصري فكرة خيانة الرجل وعمالته وتآمره ضد المصالح المصرية والعربية والإسلامية لصالح الأجندة الصهيونية والأمريكية. دون أن يحاول أحد مناقشة الرجل فكراً بفكر ومنطقاً بمنطق. وقد تابعنا جميعاً المعركة الكلامية والإعلامية التي نشبت بينه وبين الأستاذ مصطفي بكري رئيس تحرير جريدة الأسبوع منذ عامين تقريبا؛ حيث تقدم بكري ببلاغ للنائب العام بعد اتهام مأمون له بالتواطؤ مع إسرائيل والتطبيع معها في مقاله له بمجلة " المصور "، وكان قد سبق لفندي أن كرر اتهام بكري بتلقي أموال ودعم من إيران وحزب الله علي إحدي القنوات الفضائية ، في الوقت الذي شنت فيه جريدة الأسبوع أكثر من حملة لتكشف ما أسمته بماضي وحاضر وتاريخ فضائح مأمون فندي..! وكان طبيعيا أن ينتقل هذا الخلاف لرجل الشارع الذي لم يقرأ حرفا مما يكتبه مأمون فندي بالطبع لكنه قارئ جيد للصحف المصرية التي تشكل وعيه وثقافته. وللدكتور فندي أكثر من كتاب فيما يتصل بالسياسات العربية / العالمية منها كتاب " السعودية وسياسات المعارضة" وكتاب " الطريق إلي قندهار " وكتاب " الكويت والمفهوم الجديد للسياسات العالمية " وغير ذلك، ومن أرائه التي لم يلتفت إليها أحد ما كتبه عقب حادث نجع حمادي عشية ليلة الميلاد العام قبل الماضي عن رفضه لشعار " تعانق الهلال مع الصليب " والذي درجتْ وسائل الإعلام علي ترديده لتخفيف حدة التوتر بعد كل حادث طائفي... ولأول وهلة يبدو رفضه صدمة كبيرة لكننا إذا تريثنا قليلاً ومضينا معه في فكرته لأدركنا أن الحق معه حيث يري أن " فكرة تعانق الهلال مع الصليب هي فكرة تصب في خانة الدولة الدينية علي اعتبار أنها دولة جناحاها الإسلام والمسيحية لكن الدولة المنشودة في مصر والعالم العربي هي الدولة المدنية التي تتخذ من شعار المواطنة Citizenship دستوراً حقيقياً لها " وأعتقد أننا جميعاً متفقون معه في هذه النقطة، عدا بعض التيارات ذات المصالح السياسية التي تتخذ من الدين ايدولوجيا لتبرير وتمرير ممارساتها وطموحاتها . حربة كلامية وقد صدر للدكتور مأمون فندي منذ عام تقريبا كتابا بعنوان " حرب كلامية همجية - الإعلام والسياسة في العالم العربي - " شن فيه حرباً شعواء علي تجليات وظواهر الإعلام العربي ووصَفه أنه إعلام سياسي بالدرجة الأولي بغض النظر عن طبيعة أدواته وملكيته، وفضَح كثيراً من تلك القنوات الفضائية التي تتصدر المشهد بزعمها أنها مستقلة ومحايدة رغم انتماءها الأيديولوجي والسياسي لمالكيها أفراداً كانوا أو جماعات أو دولاً بعكس الإعلام الأوروبي والأمريكي ...فهل الرجل مخطئ في هذا ؟ لا أظن فالجماعة الصحفية والثقافية والإعلامية في مصر كلها تتكلم ليل نهار عن تلك القنوات وتوجهاتها وسياساتها ، وليس خافياً علي أحد أن إعلامنا العربي لا يزال في حاجة إلي خطوات وخطوات ليقترب من حرية وديمقراطية وفلسفة تداول الأفكار والمعلومات بشفافية مطلقة،ولعل ما قاله الرجل أثبتته الثورات العربية الأخيرة في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين من تلوّن تلك القنوات ولعبها علي كل الحبال التي تتناسب مع سياسات ومصالح مالكيها من ناحية، وسياسات ومصالح ظروف وواقع البلدان العربية من ناحية أخري .