منذ وقت مبكر دب الخلاف بين العلمانيين والمتدينين في إسرائيل (رغم اتساع التعبير) حول تعريف: من هو اليهودي؟ وسقطت حكومة بن جوريون عام 1958 بسبب الخلاف حول هذا التعريف، وشكّلوا لجنة حكماء للبت في هذا الخلاف، الذي مازال قائمًا، بعد حوالي نصف قرن ومازال نقاشًا يطل برأسه بين فترة وأخري كلما شعر أي من التيارين بقوة متعاظمة مثلما حاول إيهود باراك تقليم أظفار التيار الديني بإجبار اليهود المتدينين علي الخدمة في الجيش حين شعر بقوته، ولكنه لم يستطع ذلك في نهاية المطاف بسبب التكوين السياسي الهش في إسرائيل. العلمانيون يريدون تعريفًا موسّعًا لمن هو اليهودي يتيح استيعاب يهود ليسوا من أم يهودية، كما يريد المتدينون وذلك لجلب عدد أكبر من المهاجرين (المحتملين). ومن هذا المنطلق حرص الدكتور أحمد فؤاد أنور الأستاذ بكلية الآداب جامعة الإسكندرية علي دراسة كيف تناولت الصحف العبرية الخلاف بين العلمانيين والمتدينين داخل إسرائيل، فصدر منذ أيام عن المجلس الأعلي للثقافة كتاب مهم للدكتور فؤاد تحت عنوان "خلافات المتدينين والعلمانيين في إسرائيل - رؤية الصحافة العبرية"، وذلك علي صعيد القضايا الاجتماعية والثقافية والأمنية والتشريعية، حيث يسعي الكتاب لاستشراف ما سيسفر عنه تذمر المعسكر العلماني علي التفرقة في التعامل والواجبات بينهم وبين نظرائهم المتدينين في صفوف الجيش الإسرائيلي. هذا مع ملاحظة أن الأوضاع تتفاقم خطورتها في الأونة الأخيرة نظرا إلي أن المجتمع الإسرائيلي أصبح كيانين لهما استقلالية ما. الخلاف الداخلي الكتاب يطرح سؤالا مهما وهو " إلي أين تتجه الخلافات الداخلية في إسرائيل؟"وفي ظل اشتعال الخلافات بين عدد من القوي الحزبية والمجتمعية، أصبحت الإجابة عن هذا السؤال مسألة ملحة، لأنها ستكشف عن كثير من الأبعاد السياسية. وتفيد من التعرف عن كثب علي كثير من المعطيات وفهم دلالاتها الحالية والمستقبلية. معروف أن العلاقة بين الدين والدولة تشكل إحدي الإشكاليات المعقدة التي تمنع إسرائيل من الشعور بقدر من التوازن، يؤهلها لكي تكون دولة مستقرة، فإشكالية تلك العلاقة وبالتالي ماهية الدولة ومقوماتها محل جدل يصاحب الجميع في إسرائيل، مما يجعل العلاقة بين العلمانيين والمتدينين تتوتر حتي علي صعيد الحياة اليومية، لدرجة تعوقهم في حالات كثيرة عن أبسط مظاهر التعايش الطبيعي مثل التريض أو إقامة تجارة أو إنجاز مشروع معا". وفي الكتاب قسم المؤلف المجتمع الإسرائيلي في هذا الصدد إلي تيارين متعارضين رئيسيين، لكل منهما جذوره وثوابته ومصالحه.. يسعي التيار الأول لتحجيم نفوذ المتدينين داخل المعابد، ويشترط لقبولهم في المجتمع أن يتأقلموا مع متغيرات العصر، وأن يؤدوا واجباتهم كاملة تجاه المجتمع، ويسعي هذا التيار بكل قوة لإقرار إطار مشترك -غير ديني- يحوي بين جنباته كل قوي المجتمع، علي أن يكون واضحا إنه عند حدوث تعارض بين الشريعة والقوانين الوضعية تكون الأولوية للقوانين الوضعية . في حين يسعي التيار الثاني لإجبار العلمانيين علي التراجع عن توجهاتهم والالتزام بالدين، وأن يعلنوا توبتهم والتزامهم الكامل بالطقوس والواجبات الدينية في كل مناحي الحياة، مستغلا في ذلك التلويح بالعقاب الإلهي، وأدوات دنيوية مثل المشاركة في الائتلافات الحكومية، والسيطرة علي ميزانيات مبالغ فيها تتيح له مزيداً من التأثير في المجتمع، خاصة بين الشرائح الفقيرة، وبالتالي تحويل الدولة في النهاية إلي دولة شريعة يهودية. وقد لوحظ في هذا الإطار أن من بين اتهامات العلمانيين لقادة الدينيين في إسرائيل أن سلوكهم لا يتماشي في الغالب مع توصيات الدين، من حيث ارتكاب أعداد منهم جرائم تمس الشرف، ومع ذلك يبدو للجميع حرصهم علي أداء الطقوس الدينية اليهودية. وفي المقابل يصر المتدينون علي الانصياع الكامل للتشريعات اليهودية بتفسيراتها الجامدة والحرفية، فيما يتعلق بالموقف من المرأة، مما يثير غضبا شديدا في قطاعات عديدة من الرأي العام العلماني، ويدفع بالتالي نحو زيادة الهوة بين المعسكر العلماني والمعسكر الديني. كما أن الحصول علي تمويل للمؤسسات الدينية، لا يتم بمعايير ثابتة أو نزيهة في جميع الأحوال. وفي الوقت نفسه فإن مجتمعات المجموعات الدينية ربما تبدو متحدة ظاهريا فقط، لكن الخلافات الداخلية والبرجماتية للحصول علي أقصي حد من المكاسب الوقتية تكشف واقعا مختلفا. وقد أدت التعقيدات التي أضفاها رجال الدين علي النصوص المقدسة إلي تحول الدين في إسرائيل إلي قائمة طويلة من المهن. فأنصار المعسكر العلماني يرون أن كثيرا من رجال الدين يعتبرونه مجرد وظيفة أو وسيلة لفرض وصاية علي الآخرين أو ابتزازهم. وفي المقابل يتشدد قطاع كبير من العلمانيين في إنكارهم لوجود رب لليهود، وفي عدائهم للمتدينين ومعتقداتهم مما يعقد العلاقة بين المعسكرين ويجعلها تصل كثيرا إلي حد الاحتقان الخطير. نستطيع أن ندرك قدر خطورة الخلافات بين المعسكرين العلماني والديني في إسرائيل، إذا وضعنا في الاعتبار أن مؤسسي الفكرة الصهيونية والدعاة لإعلان دولة إسرائيل هم من العلمانيين، وأن غالبية الإسرائيليين حاليا من العلمانيين، وفي المقابل تتزايد أعداد مواليد المتدينين، وبالتالي أعداد ممثليهم في الكنيست، وكذلك ملاحظة أن إمكانية تشكيل حكومة ائتلافية بأغلبية مريحة أو مناسبة دون مشاركة القوي الحزبية الدينية الممثلة في الكنيست يعد احتمالا ضعيفا ومحفوفا بمخاطر سحب الثقة من الائتلاف عند حدوث أية أزمة سياسية. الصحف المستقلة الدكتور أحمد فؤاد عمد للتركيز علي القضايا الخلافية بين العلمانيين والمتدينين في إسرائيل، من خلال المادة المنشورة في الصحف المستقلة العامة ، التي تسيطر علي سياساتها إلي حد بعيد التوجهات العلمانية، للتوصل لاستنتاجات محددة، تحدد طبيعة العلاقات بين العلمانيين والمتدينين، من وجهة نظر الصحافة محل الدراسة. مع توضيح تباين مواقف الصحافة المستقلة تجاه التيارات الدينية المختلفة، وصور التعامل مع القضايا التي تم حسمها بين المعسكرين العلماني والديني، وتلك التي لا تزال معلقة تنتظر الحسم، علي الصعيد الاجتماعي، والقانوني، والثقافي، ومرجعيات كل معسكر. مع الوضع في الاعتبار أن بعض القضايا الخلافية لها مظهر معقد. فقد يدور الخلاف حولها من زاوية اقتصادية وثقافية وتشريعية في نفس الوقت، مثل: الخلافات التي رصدتها الصحافة محل الدراسة في مجال التعليم. أهمية موضوع الكتاب تكمن في أنه يحلل رؤية الصحافة العبرية لتوجهات المعسكرين الرئيسيين داخل المجتمع الإسرائيلي، إزاء المعسكر الآخر، من خلال الصحف الأكثر توزيعا وتأثيرا في إسرائيل . بجانب أنه يسعي لاستشراف مستقبل الخلافات بين العلمانيين والمتدينين في إسرائيل، ويدرس بشكل علمي قرب نشوب مواجهة شاملة بين القوي العلمانية والدينية في إسرائيل من عدمه . من النتائج التي وضع الكتاب أيدينا عليها ولفت نظر المؤسسات البحثية ودوائر صنع القرار إليها علي صعيد القضايا الاجتماعية أن الصحافة العبرية تري أنه من المستبعد أن تثمر جهود تقريب وجهات النظر في القضايا الخلافية الداخلية في إسرائيل، كما أشار إلي أن المجتمع الإسرائيلي أصبح يموج بجمعيات ومنظمات الدين عندها لا ينفصم عن السياسة، مقابل جمعيات ومنظمات يمثل الدين لها مظهرا من مظاهر الجمود، والتخلف، والسيطرة يجب محاربته. مما يزيد من التوتر، والخلافات بين المعسكرين، خاصة في ظل وجود تنظيمات سرية عنيفة في معسكر المتدينين، قد تسعي لفرض رأيها علي المجتمع في قضايا اجتماعية عديدة من خلال العنف. وتري الصحف ضرورة مساندة المعسكر العلماني في هذه الخلافات. وبالإضافة لهذا عرضت الصحافة العبرية محل الدراسة آراء غير تقليدية، وأفكار جديدة، لحل المعضلات من وجهة نظر علمانية، وتحمست لها وأبرزتها مثل تلك التي تطالب وزارة الداخلية بأن تبادر بمحو خانة الحالة الاجتماعية من بطاقة الهوية الإسرائيلية. نظرا للتعقيدات المصاحبة في توصيف الحالة الاجتماعية لأعداد كبيرة من الإسرائيليين. وزواج الإشهار في الملاهي الليلية ومن خلال استخدام نفس السوبر ماركت لفترة طويلة. وهي الاقتراحات التي يعلم من يزكيها أنها ستثير مزيدا من الخلافات. وكذلك خلط الصحافة العبرية المستقلة في كثير من المواضع بين الخبر والإعلان مدفوع الأجر، حيث تقوم بتضمين المادة المنشورة اسم هيئات أو مؤسسات وإنجازاتها، والمعوقات التي تواجهها بشكل دعائي، وهو أمر يكاد يكون مقصورا علي الهيئات التي تخدم الأهداف والرؤي العلمانية. تقسيم إسرائيل علي صعيد القضايا الأمنية أوضح الدكتور أحمد فؤاد أن الصحف العبرية تروج إلي أنه من غير المستبعد حدوث تقسيم للدولة الإسرائيلية لتصبح كيانين لهما استقلالية ما، علي غرار تايوان والصين أو مملكة المغرب والصحراء الغربية، لكن الدراسة المتعمقة تبين لنا أنه من غير المستبعد أن يحدث انقلاب عسكري في إسرائيل، بعد أن تتطور قضية عصيان الأوامر العسكرية أو أن يتبناها أحد الضباط ذوي الرتب الكبيرة. وهو ما حذرت منه الصحف بشكل غير مباشر، وفي المقابل من غير المستبعد أن تترجم القوي العلمانية داخل صفوف الجيش تذمرها من التفرقة في التعامل والواجبات بينهم وبين نظرائهم المتدينين إلي خطوات عملية عنيفة، وفي هذا المجال تناصر الصحف العلمانيين وتتعاطف معهم بشدة. وبشكل موازٍ تم رصد أصوات علمانية تنشر في الصحافة الإسرائيلية محل الدراسة آراء تدعو لرفض الاستقطاب الديني المرتبط بالمواقف السياسية المتطرفة المدعومة بالمزاعم الدينية حول فلسطين. كما تري ضرورة التصدي بكل قوة للمستوطنين (الذين يؤمنون بأرض إسرائيل الكاملة) ولجموحهم، حتي ولو كان هذا التصدي بالرصاص الحي في مواجهتهم، لأنهم -في رأيها- أخطر من الإسلام المتطرف ومن القادة العرب المتشددين، وهو الأمر الذي يقابل باتهامات من المعسكر المقابل تحملهم مسبقا مسئولية نشوب حرب أهلية محتملة.