عندما توجهت ليلة عيد الميلاد إلي كنيسة السيدة العذراء بروض الفرج.. مقرراً أن أشارك صديقي الصدوق المهندس ماجد الراهب وابنه المهندس بولا وأصدقاءهما فرحة العيد، لم تكن المرة الأولي بالطبع التي نتشارك فيها أفراحنا، لكنها بالتأكيد كانت مختلفة. كان احتفال هذا العام ممزوجاً بقدر غير ضئيل من المرارة والأسي، وبحزن وألم ملأ قلوب كل المصريين بسبب جريمة كنيسة القديسين بالإسكندرية. كانت المسافة طويلة نسبياً من حي الهرم حتي منطقة روض الفرج.. لهذا فضلت أن أستقل مترو الأنفاق تفادياً لأي اختناقات مرورية متوقعة هذه الليلة. ثم ما لبث أن جاءني صوت صديقي المهندس ماجد عبر الهاتف وأنا في الطريق تكسوه مسحة حرج واضحة.. وقال: لقد صدرت للتو تعليمات أمنية عليا بحظر دخول المسلمين للكنائس، ثم بادر بإعطاء الهاتف للضابط المسئول عن تأمين الكنيسة. لم أمهل الضابط - الذي كان أكثر حرجاً - في أن يسرد المبررات وراء هذا القرار وقاطعته بقولي: أنا أؤيد ذلك الحظر بشدة، بل وطالبت به كثيراً من الأصدقاء المسلمين.. وأكدت له أن الهدف من التواجد عند الكنائس هو المشاركة "المعنوية" لإخوتنا في فرحتهم. لهذا فلا داعي أبداً للإصرار علي الدخول تفادياً لأن يندس أحدهم وسط الحشود ويسبب كارثة أخري لا قدر الله، ويكفينا التواجد خارج الكنائس.. لهذا فأنا قادم في الطريق ولن أعود أدراجي. عندما وصلت للمكان وجدت المهندس ماجد واقفاً خارج الكردون الأمني المحيط بالكنيسة يتجادل بإصرار مع رجال الأمن محاولاً إقناعهم بالسماح بدخول الصحفية "المحجبة" الأستاذة نوارة نجم، التي ذهبت محاولاتها في إقناعهم بتفتيشها والتأكد من هويتها هي الأخري سدي. ورغم أنه كان من الممكن أن أدلف بسهولة للكنيسة وادعاء أنني من روادها المسيحيين إلا أنني لم أفعل وآثرت أن أقضي طول فترة القداس مع الأستاذة نوارة نجم جالسين عند الميكانيكي المجاور للكنيسة. وبينما كانت الأستاذة نوارة تقلب بضيق شديد في المواقع المختلفة علي النت في هاتفها، ومع تزايد حدة غيظها كلما قرأت علي النت دخول بعض المسلمين والمحجبات بل وإحدي المنتقبات للكنائس والمشاركة في القداس.. جذب انتباهي حوار لافت بين الميكانيكي صاحب الورشة الذي استضافنا للجلوس عنده وواحد من الشباب الذين يعملون عنده. سمعت الشاب يقول: أريد أن أدخل الكنيسة.. هل سيسمحون لي بذلك؟ فأجابه الأسطي: هل معك بطاقة يا علي؟ قال: نعم.. ثم سأله الأسطي مندهشاً: ولماذا تريد أن تدخل؟ أجاب بدون تردد: عايز أشوف الكنيسة من جوه واعرف بيعملوا إيه!!! ثم مالبث أن تراجع عن الفكرة عندما شاهد إصرار الأمن علي منع أي مسلم من الدخول. أكد لي هذا الحوار القصير صحة واحدة من قناعاتي التي أرددها كثيراً.. سواء مع طلابي في الجامعة، أو في الندوات العامة والنقاشات المفتوحة التي تدور حول الشأن القبطي عموماً وعن حالة الشحن والاحتقان الطائفي خصوصاً، والتي أصبحت سمة في المجتمع المصري لاتخطؤها عين. وهذه القناعة هي أن واحدة من أهم وسائل نزع فتيل الاحتقان يكمن في "معرفة الآخر" وإزالة الجهل به وبفكره وثقافته، وأن هذا "الجهل" هو السبب الرئيسي للكراهية والعداء لدي البعض. رغم عمق الألم والمرارة الذين سببتهما جريمة الإسكندرية الأليمة، لكن واحدة من أهم إيجابياتها هو انطلاق ذلك الاهتمام غير المسبوق بثقافة الأقباط وعاداتهم واحتفالاتهم من قبل شركائهم في الوطن من المسلمين.. فجأة وعندما ذهب آلاف من المسلمين ليهنئوا إخوتهم من المسيحيين بعيد الميلاد أو ليعزونهم في شهداء الإسكندرية، اكتشفوا أنهم يدخلون الكنائس لأول مرة في حياتهم، وكانت دهشتهم أكبر عندما وجدها بعضهم -كما قالوا ذلك صراحة- تتميز بروحانيات وبصفاء وبجو نقي من الإيمان يعادل ما يجدونه عند دخولهم المساجد. إن ما حدث مع الغالبية العظمي من المسلمين المصريين يتشابه لحد كبير -مع فارق طبيعة الحادثتين- مع الانفجار الجارف للاهتمام بالإسلام والثقافة الإسلامية لدي الأمريكيين والغربيين، والذي تلي أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فقد وجد المسلمون المصريون أنهم في الواقع يجهلون الكثير عمن يتغنون ليل نهار بأنهم جيرانهم وأحباؤهم.. فلا هم يعرفون شيئاً عن عاداتهم وتقاليدهم، ولا عن أعيادهم وأنواعها، ولا عن كنائسهم وصلواتهم.. ولا عن التاريخ والثقافة القبطية بشكل عام.. مجرد آراء مبهمة مغلوطة في الغالب.. تصور هذا الآخر في أحسن الأحوال علي أنه "كائن مريخي" عجيب. فلا المناهج الدراسية تقدم شيئاً مفيداً لإزالة هذا اللبس في فهم التراث والثقافة القبطية، ولاوسائل الإعلام تتعامل معها إلا كمادة للمبارزة العقائدية وضحد الآخر وتفنيده، ولا المثقفون أو المتحزبون أو رجال الدين من الطرفين يبذلون جهداً حقيقياً نحو سد هذا الفراغ وإزالة هوة "الجهل بالآخر" ومحاولة فهم ثقافته والوعي بها. إن اللحظة التاريخية التي نمر بها تستدعي أن نقتنص الفرصة السانحة في التقريب بين الطرفين، وتقديم كل من التراث القبطي والتراث الإسلامي لكل المصريين منزوعاً من غلالة الطائفية البغيضة التي تغلفهما.. والتأكيد علي مفهوم أن "التراث والآثار القبطية" لا تخص المسيحيين فقط بل والمسلمين أيضاً، وأن "التراث والثقافة الإسلامية" المصرية لا تخص مسلمي مصر فقط بل ومسيحييها أيضاً. فإذا كان "الدين لله.. فإن التراث للجميع".. وهو الوسيلة الأهم في فهم الآخر والتقريب بين شركاء الوطن من أجل مستقبل خال من الطائفية الكريهة.