وكما اتفقنا، اتصلت بالصديق الرائع هاني جورج ليصطحبني معه إلى قداس عيد الميلاد، وهاني يسكن في شبرا، حيث تتنوع الكنائس، فإذا لم تستقبل هذه الكنيسة مسلمين، ستستقبلنا تلك.. كنائس كثيرة، وننقي براحتنا بقى، ناصحة أنا قوي. أخبرني هاني أننا سنصلي في كنيسة مارجرجس، وأننا سنتقابل في الساعة التاسعة بدوران شبرا، فاتفقت مع صديقتي أروى أن أقابلها في وسط المدينة في الساعة الثامنة والنصف. ثم اتصل بي هاني ليخبرني بأنه قد تم تقديم الموعد لأن القداس سينتهي في الساعة التاسعة ونصف، وأروى هاتفها المحمول ضائع، ونتواصل على الموقع الاجتماعي: التويتر، إلا أنها لم تكن متواجدة على الموقع لتعلم بتقديم الموعد، فأرسلت استغاثات عاجلة لكل من يجد أروى أن يخبرها بتقديم الموعد، ولم يصلني منها إفادة حتى وصلت إلى دوران شبرا. كانت والدتي تعاني من نزلة شعبية، وقلق شديد، وحاولت أن تثنيني عن عزمي وأنا أستعد للنزول: "طب افرضي حصل انفجار لا قدر الله، مين بقى حيدافع عن المسيحيين تاني لما تموتي؟ شوفي باكح إزاي؟ طيب يا نوارة.. خليك على دول.. أنت حرة". بعد أن مارست علي كل الابتزاز الأمومي دون جدوى، قبلت أمي وذهبت. اتضح أن الكنيسة تغيرت، وأننا سنذهب إلى كنيسة العذراء بروض الفرج. حضر هاني حسب الموعد ومعه مريان ناجي ومجموعة من أصدقائها المسلمين، بينهم فتاتين مسلمتين، لكنهما غير محجبتين. وصلنا إلى الكنيسة، فدخلت كل المجموعة المسلمة مع مريان، لكن الكشافة الواقفة على الكنيسة استوقفتني أنا بالتحديد لأنني أرتدي الحجاب، ثم أقبل علينا ضابط المباحث المتجهم كأعقد ما يكون التجهم وقال: ممنوع دخول المسلمين، تعليمات. قلت: طب فتشوني.. طب خدوا بطاقتي. - آسف تعليمات. ثم أشار لهاني: أنت مسلم ولا مسيحي. فأجابه هاني بأنه مسيحي، وبأنه يعرفني، وأنني حضرت معه، ورجاه أن يدخلني، إلا أن ضابط المباحث أصر على الرفض. طلبت من هاني أن يدخل إلى القداس وسأقف هنا لأحرس الكنيسة، بعد شد وجذب دخل هاني إلى الكنيسة ليخبر المهندس ماجد من داخل الكنيسة بأن الأمن يرفض السماح لي بالدخول - أنا بالذات، دونا عن كل البشريات المسلمة التي دخلت قبلي. في تلك الأثناء وصل الأستاذ لؤي محمود، من جريدة القاهرة، ولدواع أخلاقية بحتة رفض انتحال المسيحية، أو حتى استغفال الوقوف على باب الكنيسة، وأخبرهم دون أن يسألوه بأنه مسلم، والحقيقة لم أفهم لماذا تمسك الأستاذ بهذه القيم الأخلاقية؟ لو كنت مكانه لدخلت، ولو سألوني لقلت بأنني مسيحي، عادي على فكرة، حلال الواحد يكدب على الأمن. خرج المهندس ماجد وتحدث مع الضابط راجيا منه أن يدخلني إلى الكنيسة، إلا أن ضابط المباحث كان ينظر إلى المدى ويعقد حاجبيه، ويجيب باقتضاب: تعليمات من فوق. خمن المهندس ماجد أن تلك التعليمات التي من "فوق" جاءت من نصف ساعة فقط، إذ أن بداخل الكنيسة الآن سيدة محجبة تحمل مصحفا وصليبا وتجلس في الصف الأول، كما أن الأمن لا يطلب البطاقات الشخصية من الوافدين على الكنيسة، وإنما يميز المسلمين بالشبه، وبما أننا في مصر، وليس هناك "شبه" محدد للمسلمين يميزهم عن المسيحيين، فقد قرر الأمن أن المسلمين في مصر هم النساء المحجبات فقط. بعد محاولات فاشلة مع الأمن الواقف على باب الكنيسة، دخل المهندس ماجد ليتحدث إلى إدارة الكنيسة علهم يفلحون في إقناع الأمن بالسماح للمسلمين - وأنا منهم - بالدخول. حاول الأستاذ لؤي محمود إقناعي بأن الأمن محق في عدم السماح للمسلمين بالدخول إلى الكنيسة، حتى لا يندس بينهم شخص يقوم بعمل تخريبي. لكنني لم أقتنع، لأن من يخطط لعمل تخريبي، بالطبع لن يرتدي حجابا، ولن يخبر الأمن الواقف على الباب بأنه مسلم كما فعل الأستاذ لؤي، بل ربما زور بطاقة هوية مسيحية وعلق صليبا في رقبته. ما زاد شعوري بالاضطهاد والتمييز أن الأمن طلب مني الابتعاد عن الكنيسة، فقلت لهم أنني واقفة هنا بالخارج لأحرس الكنيسة - خاصة وأن التدابير الأمنية لم تكن مشددة، فلم أجد مدرعة مثلا، ولا حتى أفرادا يحملون ولو سلاحا خفيفا، كانت مهمتهم الوحيدة اصطياد المحجبات وإشعارهن بأنهن عار على الخليقة، ولا أعرف لماذا لم تشرع قوات الأمن في اصطياد المحجبات إلا فور حضوري، وشي مستفز؟ جلست أنا والأستاذ لؤي في محل الميكانيكي المقابل للكنيسة ورفضنا الذهاب: احنا قاعدين هنا بنحرس الكنيسة. فتحت موقع التويتر من هاتفي، فوجدت أن كل المسلمين سمح لهم بالدخول إلى الكنائس، بما فيهم المنقبات، الله.. ده استنصاد بقى. خرج المهندس ماجد وأخبرنا بأن نيافة القس نادى على اسمينا في الميكروفون، ثم خرج بعد ذلك شخصان يبدو أنهما من إدارة الكنيسة، وتحدثا مع ضابط المباحث راجيان منه أن يدخلنا، وده أبدا، وكأن وزير الداخلية ذاته أرسل إليه صورتي وكتب تحتها: لو شفتوه في المعركة أقتلوه. فأخذت هاتفي وتوجهت إلى ضابط المباحث الجالس بجوار ضابط شرطة على كتفه عدد لا بأس به من النجوم، وعرضت عليه صورة المنقبة المتواجدة في كنيسة الدوبارة الآن متسائلة: يعني أنا بنت الكلب الوحيدة في الكون ده؟ فإذا بضابط الشرطة يخبرني بأن الكنيسة هي التي لا تريد إدخالي - شوف التوقيع - بينما كان ينادي القس على اسمي في الميكروفون، ولم يبق إلا أن توسط إدارة الكنيسة البابا شخصيا ليسمحوا لي بالدخول. ثم انفجر ضابط المباحث غاضبا: أنا أعرفك؟ دي تعليمات.. تحبي أدخل أجيب المسلمين اللي جوه عشان ترتاحي؟ عدت إلى موقعي، حيث أحرس الكنيسة من محل الميكانيكي، وشعرت بالذنب، لأن الأمن استهدف بعد حضوري كل المحجبات اللاتي حضرن مع أطفالهن، وأزواجهن، لمشاركة المسيحيين احتفالاتهم بعيد الميلاد. ثم دخلت مجموعة إعلامية فرنسية إلى الكنيسة بكل سهولة، بينما أتابع من هاتفي تقارير مراسلي التويتر الذين حالفهم الحظ ودخلوا الكنائس لحضور القداس، وعلمت منهم أن كل ما كان يتخوف منه بعض المسلمين، من عدم ترحيب، أو غضب يوجه تجاههم من المسيحيين، كان محض هلاوس، وأن الترحيب في كل الكنائس كان يفوق الخيال، وأن الجميع، في كل الكنائس، مسلمين ومسيحيين، لا يكفون عن البكاء فرحا وتأثرا. أما المهندس ماجد، وهاني، وبعض الحضور بالكنيسة، فطفقوا يخرجون كل برهة ليطمئنوا علي أنا والأستاذ لؤي، وليرحبوا بنا، ولا بأس من بعض الرجاء للحائط الصد الذي يقف متشبثا برفضه. انتهت الليلة بسلام. في طريقي للعودة، وجدت الأمن - مرة أخرى - يغلق كوبري أكتوبر، والشارع الذي به الكاتدرائية، وهو طريقي الوحيد للوصول إلى منزلي، حاولت سؤال عناصر الأمن عن طريق آخر لأصل إلى بيتي، إلا أن عناصر الأمن اكتفت بأن "تهشني" حتى أبتعد عن الكوردون الذي يحيطون به كل شارع رمسيس دون أن يحاولوا سماع سؤالي ناهيك عن الإجابة عليه، فسرت خلف السيارات، ثم وجدتني دخلت في شارع صغير يعج بالمدمنين المترنحين، وعاملين أحلى دماغ، فسألت مجموعة لطيفة من المدمنين ذوي العيون الزائغة عن طريق بيتي فشرحوا لي بالتفصيل، وبكل شهامة، وتهذيب، ولسان ثقيل، الطريق. وصلت بسلام والحمد لله، بعد أن اختبرت بنفسي معنى كلمة "اضطهاد"، وهي أن يساء معاملتك بسبب من تكون ودون هدف محدد. لكن أحدا من السكان الأصليين لهذه البلاد لا يضطهدني، فالكل يحسن معاملتي، ويبتسم في وجهي بدفء وحنان، ويخاطبني ب"ست الكل": مسلمون، ومسيحيون، ومدمنون. فقط عناصر الأمن هي التي أشعرتني بأنني من الزوائد البشرية التي يشي وجودها بأن العالم يحتاج إلى الاستحمام بماء نار للتخلص من أمثالي. سألتني أمي بشغف فور وصولي: ها.. عملتي إيه؟ فأجبت بحرج: إحم.. الحمد لله.. - الحمد لله إيه.. حضرتي القداس؟ - ها... آه.. آه طبعا - انبسطتي؟ - الحمد لله.. - صوتهم كان حلو في الكنيسة اللي رحتيها؟ - آه.. حلو.. ظنت أمي أنني أمارس عليها "رخامتي" المعتادة، فسكتت. لكنني شعرت بالحرج من إخبارها بالحقيقة. ثم إنني لم أكذب.. أنا قلت: الحمد لله. آه.. نسيت: أروى تاهت.