بقدر ما يكون الإبحار في عوالم الرواد من الكتاب والأدباء والشعراء ممتعاً وشيقاً ومشبعاً للنفس والروح معاً، بقدر ما يكون أحياناً كاشفاً لجوانب خفية في عوالمهم وأجوائهم الإبداعية والذاتية، ملقياً الضوء بشكل مفاجئ- بل وصادم أيضاً في بعض الحالات- علي الكثير من طبائعهم الشخصية ونوازعهم الخاصة التي يجنحون فيها جنوحاً، قد يبدو- علي أقل الفروض- غريباً وشاذاً في عيون قرائهم، ومتناولي إبداعهم الأولي. والشاعر والكاتب الإنجليزي الأشهر - «وليم شكسبير» واحد بالطبع من هؤلاء الكتاب الذين يحلو للكثيرين من النقاد والدارسين الغوص في عوالمهم والولوج خلال أجوائهم لاكتشاف مالم يكتشف فيها من قبل. ونظرة أو قراءة بشيء من التأمل ل «سونيتاته» الصادرة في سلسلة كتاب مجلة «دبي» الثقافية عدد يناير 2010، والتي نقلها إلي العربية د.«كمال أبو ديب» تثبت ذلك التوقع وتؤكده. بداية نكتشف منها ان صراع «شكسبير» الأول والأخير ضد «الزمن» ضد «الوقت» أو علي وجه الدقة ضد مروره وحلول فعله وتأثيره علي الأشياء، فهو عدوه الأساسي الذي يسلب منه كل جمال، ويقضي علي كل روعة وبهاء، ولا يبقي أبداً أي شيء علي أصله وهيئته التي أحبها وتعلق بها ضد زمن سيكون فيه حبيبي كما أنا الآن/ باليا ومسحوقاً بيد الزمن الفاتكة/ حين تكون الساعات قد امتصت دماءه/ وملأت جبينه بالخطوط والغضون/ وحين يكون صباحه الفتي/ قد ترحل إلي هاوية ليل العمر/ لأجل زمن كهذا أتحصن الآن/ ضد المدية الفتاكة للعمر المدمر» س 63ص 102. وانطلاقاً من قوة الإحساس بذلك، يدعو «شكسبير» إلي المقاومة والتصدي ببذل «العطاء» المادي والمعنوي لمنح «الجمال» لكل ما حول المرء من كائنات وأشياء، تلك دعوته الفعلية والجارفة «للعطاء» إذ لابد لمن منح الجمال أيا ما كان هذا الجمال- ألا يبخل علي غيره به أو يحرمه منه، دعوته للاستمرارية، إذ لابد من السعي للبقاء، بالتجدد والارتباط بين كل «اثنين». إنها فكرة الزمن «النقيض» الزمن «ذي الوجهين» الذي يصنع أو يضع الجمال والروعة في الكائن والشيء، وفي نفس الوقت يمضي به «بالكبر» أو «القدم» نحو الفناء والتلاشي، لذلك لابد من السعي لتخليد الأشياء حتي لا نفقد جمالها وروعتها للأبد:- ذلك الزمن الذي لا يقر له قرار/ يقود الصيف إلي فظاعة الشتاء القبيح وهناك يأسره/ وقد جمد نسغه الصقيع، وتساقطت أوراقه الناضرة/ وتكدست الثلوج العارمة علي جماله/ إذن، لو لم يبق من الصيف العطر لذي يقطر من أزاهيره اليانعات/ ويؤسر سجيناً سائلاً ضمن جدران زجاجية/ لما بقي من الجمال أو مآثره شيء/ بل لما بقيت منه حتي ذكري لما كان» س 5 ص 92، 93. فكرة اختران الحياة للآتي، للمستقبل، «الجمال» الذي يجب ألا يعيش لنفسه، بل يحيا للآخرين ويسعي دوماً لبقاء صورته وملامحه في غيره. إنه تحدي الفناء والزوال بحرص المرء علي تجديد شباب من يحب وتطعيمه الدائم له مادياً ومعنوياً حتي يبقي جماله وعطره لأطول فترة ممكنة، ويعلن «شكسبير» في إحدي «سونتياته» وتحديداً سونيت 16 ان الطريق المتاح لهذا التحدي ليس «بالكلام» وإنما بالفعل، بالعمل علي «النماء» و«التكاثر» وغرس كل ماهو جميل في الغير. وفجأة وعلي غير توقع، يناقض «شكسبير» ذاته، وينفي تقريباً كل ما باح به في سونيتاته السابقة، إنه يثبت للحبيب بقاءه الدائم والأبدي وحده بجماله وروعته دون الحاجة للتجدد والتكاثر والنماء، وعلي عكس الحديث آنفاً عن مقاومة الزمن والوقوف في وجه الفناء والزوال والتلاشي، نجده يطلب من الزمن، بل يرجوه ألا يأتي علي وجه الحبيبة الجميل، ويظلله بالتجاعيد وعلامات الشيخوخة، وفي نفس السونيت «19» يناقض ما أعلنه من ان الشعر أو الكلام بشكل عام ليس طريق الخلود، عندما يدعو «الزمن» ان يفعل ما يشاء بحبيبه، لأنه سيخلده بشعره وقصائده:- «أنت أيها الزمن المفترس، التهم براثن الأسد واجعل الأرض تفترس المخلوقات الحلوة التي أنجبتها/ واحرق العنقاء المعمرة في نار دمائها/ اخلق مواسم للغبطة ومواسم للفجيعة وأنت تهرع عابراً/ وافعل كل ما تشاء/ لكن ثمة جريمة نكراء واحدة أمنعك ان ترتكبها/ لا تحتزن بساعاتك جبين حبيب الجميل/ ولا ترسمن عليه التجاعيد بقلمك العتيق/ مع ذلك، افعل أسوأ ما بوسعك أيها الزمن/ فإن حبيبي سيحيا فتياً في شعري» س 19 ص 96، 97. إنه ينعي في أسي شمسه الخاصة، وصباحه الشخصي، وإشراقه المادي والمعنوي «س 33 ص 98» ذلك الذي حجبه الغروب، وأخفته الغيوم والظلال.. وهو في ذات الوقت ينفي القدرة علي مقاومة الفناء والتلاشي عن كل شيء أو أمر عدا «الشعر»، فهو وحده القادر علي تخليد الأشياء وإبقاء الكائنات علي صورتها البديعة.. بل نصل في سونيته تالية «س64 ص103» إلي اثباته لقدرة الزمن علي الانتزاع والهدم والإزالة لكل ماله قيمة من الأشياء والكائنات، حيث لا قدرة علي مقاومته أو الوقوف في وجهه. علي الجانب الآخر، وفي مطلع الحديث عن «الحبيبة»، يثبت «شكسبير» تفردها ومثاليتها، فهي متعددة الطيوف، متشعبة الإحالات لكل أشياء الكون الجميلة الرائعة، في كل شيء جميل لمحة منها، وفي كل كنه رائع فيض من فيوضها، ومع هذا فهي ليست شبيهة بأحد ولا مثيل لها:- « ماجوهرك؟ ومن أي كنه صنعت؟/ لتهفهف حولك وفي خدمتك ملايين الطيوف الغريبة؟/ لكل واحد، كل واحد، طيف واحد فقط/ أما أنت، ولست إلا واحداً، فإنك تعير كل الطيوف/. في كل بهاء ظاهر ثمة لمسة منك/ لكنك لست كمثل أحد وليس كمثلك أحد/ في ثبات قلبك» س 53ص99، 100. ان جمال حبيبة «الباطن» أقوي وأشد من جماله الظاهر أو الخارجي، إذ أنه يبقي ولا يذوي أو يفني أبداً. تكفي إذن نظرته للحبيبة، إنها نظرة مثالية حقاً، فهي كل شيء عذب يروي النفس والروح، يهب الحياة والوجود والتحقق، لا شيء يسعد «شكسبير» في الوجود والدنيا سواها، لا شيء يشبعه مما حوله سوي نظراته لها وتواجده بقربها. ولذا فهو ينفي القدرة علي إشعال نار الحب عن إله الحب «كيوبيد»، ويثبتها لعيني «الحبيبة» التي يستمد منها «كيوبيد» ناراً مشعلة. وفي توجه صادم معاكس لذلك، نجده يصف «الحبيبة» بالقبح والسوء، ويسومها بكل ما يدعو للكره، بل والاحتقار، إنها مشبعة بالقسوة والطغيان، معيبة خاطئة، تفرض عليه قهراً سلطان حبها، لدرجة اتهامه لنفسه «بالعمي» لأنه قد «عمي» عن رؤية حقيقتها الصادمة. إنه يثبت عيوبها ونقائصها وخطاياها، ويقر بحمق وسفه قلبه العاشق لها، بل ويستنكر وجوده في الحقيقة وبين جنبات جسده:- «بصدق، أنا لا أحبك بعيني/ إذا أنهما تلحظان فيك ألف عيب/ ولكن قلبي هو الذي يعشق ما تزدريه عيناي/ قلبي الذي يلذ له رغم المنظر أن يتوله/ ليست أذناي بنغمات لسانك مغبتطتين/ ولا الشعور الرقيق للمسات الخسيسة تواق/ ولا الذوق ولا الشم يشتهيات ان يدعيا/ إلي أية وليمة شبقية معك وحدك/ لكن لا ملكاتي الخمس ولا حواسي الخمس/ تستطيع أن تثني هذا القلب الأحمق عن خدمتك» س141ص119. ... وهكذا في معرض صراعه ضد «الزمن» و«الوقت» ودعوته لمقاومة «الفناء» و«الزوال» بالحب والتوحد، لا يسلم الشاعر «وليم شكسبير» كغيره من الكتاب والشعراء- من الوقوع في «شرك».. التناقض الذاتي مع النفس.