هل هناك معني لعودة كاتب مسرحي إنجليزي إلي الأضواء بعد ما يقرب من أربعين عامًا علي وفاته؟ وليس ذلك فحسب بل لاعتباره متمشيا مع آخر الأزياء الفنية في بداية القرن الواحد والعشرين؟ وذلك علي الرغم من أن بدايته التي تستعاد انتمت إلي العشرينات من القرن العشرين. إنه سير نويل كوارد (1899-1973) الذي اعتبر أبرز كتاب كوميديا السلوك منذ أوسكار وايلد. ولا يضعه أحد في مرتبة الخالدين أو يقدمه مثالا لموت الفنان وخلود أعماله الفنية. هو النموذج المثالي للجنتلمان الإنجليزي في كتابته، ويعود الآن بسلسلة من أعماله التي تعيد إحياؤه في لندن ونيويورك. لقد افتتحت مسرحياته "تخطيط للعيش" ولقيت استقبالا حماسيا جماهيريا ونقديا في سبتمبر 2010 حينما بدأ التحضير المعلن لعرض مسرحيته "الروح الخالية من الهموم" في أول العام الجديد. وفي آخر سبتمبر مثلت مسرحيتاه "حمي القش" و"حياة خاصة" في لندن أوائل هذا العام وتنتقلان إلي برودواي ومعهما المسرحية التي تحولت إلي الفيلم الشهير "لقاء قصير". 50 مسرحية و40 أغنية وكان كوارد في زمن تألقه قبل الحرب العالمية الثانية نجمًا ضخمًا علي جانبي الأطلسي، فقد كتب ما يزيد علي خمسين مسرحية وأربعمائة أغنية، كما كان ممثلا ناجحًا يؤدي أدوارًا في مسرحياته وملحنًا، فهو ملم بتقنيات المسرح. واستمرت شهرته الجماهيرية بعد الحرب العالمية ولكن مسرحياته بدت سطحية في ذلك الوقت إلي جوار الواقعية الجديدة لجون أوزبورن أو العمق الفلسفي لصمويل بيكيت. وحينما مات عام 1973 كان شخصية بارزة ولكنها تنتمي إلي عصر مختلف. أما الآن فيقول أنصاره ومنتجو مسرحياته والمشاركون فيها إن الحساسية المعاصرة أدخلت تقييمًا واستحسانًا لما يرونه فيها من تصوير للأخلاقيات الجنسية والمعايير المنافقة للمجتمع. وهو ما غض الطرف عنه في الماضي. فمسرحيته "تخطيط للعيش" لديها في رأيهم الكثير لتقوله عن طرق الحياة، فهي تبين أن المرء يستطيع أن يكون أخلاقيا وصاحب مباديء دون أن تكون مبادؤه هي المباديء المقرة للمجتمع: النجاح والربح المادي. وتؤكد رئيسة جمعية "مسرح لندن" أن هناك جمهورًا جديدًا لكوارد. ففي السنوات الثلاث الأخيرة حدث له انبعاث أو ما يشبه إعادة ميلاد. ويزعم ممثل شهير حدوث تغير اجتماعي جذري في السنوات العشر الماضية مما يتفق مع تنوع وتشعب أفكار كوارد. فالتمثيل صار شديد الطبيعية. ولكن بمقدرة تقنية يستطاع استخلاص ما عند كوارد بطريقة جديدة. ويقول رئيس جمعية "نويل كوارد" إن انبعاثه بدأ منذ عشر سنوات وإنه يكتسب قوة دافعة تدريجية. ونعلم من أحد ممثلي مسرحيته الشهيرة "الدوامة" في 2008 أنه لا تمضي دقيقة واحدة في اليوم دون أن تكون مسرحية لكوارد تعرض في مكان ما من العالم. فمسارح الهواة تمثله ويعاد تفسيرها بطرق متعددة تكشف عن طزاجتها علي الرغم من أن تلخيص موضوعها يجعلها شديدة البساطة، وقد قالت عنه فيرجينيا وولف إنه ذكي مثل كيس من القوارض وتافه كمكان تجثم فيه طيور الكناري. وربما كان خطاب كوارد المسرحي مثل خطاب الحداثة وهو تتشرب بما بعد الحداثة، يعيد تقييم الافتراضات السائدة دون أن يقدم مفاهيم جديدة لحرية السلوك وتطوير الشخصية بل يقدم بدلا من المفاهيم الكثير من الانطباعات والمعتقدات وإنكار المعتقدات والمشاعر التي يمكن أن يطلق عليها مشاعر العصر: إحساس بعدم الارتياح وعدم الطمأنينة والحرج والتفكير غير المحدد الذي يأتي في صيغة إلي هذه الدرجة أو تلك، أي الموقف اللا أدري. وحواره يعتمد علي ما هو طريف جذاب وعلي سرعة البديهة في الردود والتلاعب بالأفكار والتعابير. ويعيب بعض النقاد عليه ما يرونه تكلفًا وبعدًا عن الجدية وتظرفًا ومجرد قدرة علي التسلية. ويرد عليهم نقاد آخرون بأنه ليس مجرد مسرحي مشاغب مثير للغضب والحيرة بل هو يسائل المؤسسات المتحجرة والأحكام شبه الأخلاقية ذات القوالب الجاهزة، ويتحدي الطقوس الغبية ويحطم الكليشيهات الدعائية بطريقة تقدم مقابل كل ذلك ما يتخذ شكل أقوال مأثورة مختصرة ومحاولات لاستكشاف منظورات بديلة. نضوج كتاباته من 1920-1945 بعد الحرب العالمية الأولي احتدم شعور بأن بداية جديدة ينبغي اتخاذها في السياسة والأدب والفن، وكانت فيرجينيا وولف قد قالت بسلاطة إنه "حوالي ديسمبر 1910 تغيرت الطبيعة البشرية" معبرة عما بدا عند 1924 إحساسًا متراكمًا بالابتهاج بتنوع بدايات جديدة ورفض أعراف الماضي وكانت تشير إلي ما في الأدب من تحول في المواقف وتساؤل ثقافي. وكان دي. إتش. لورانس يكتب في 1923 عن لندن التي لم تعد قلب العالم وصارت دوامة أهواء مكسورة وشهوات وآمال ومخاوف وأحاسيس رعب. حقًا لقد هدأت الحرب أنواعًا من الصراعات الطبقية وحركة حقوق المرأة بواسطة وعود بالتسوية بعدها، ولكن في أعقابها لم تعد الأمور إلي وضعها السابق وقام الإضراب العام في مايو 1926، ولكنه انهار بعد عشرة أيام مشككًا في إمكان انتصار شعبي. لقد كانت العشرينيات مرحلة واعية بذاتها تلصق بها عناوين مثل "عصر الجاز" و"عصر الأشياء الشابة المتألقة" وتخصصت الصحف في أعمدة الدردشة، الشائعات والثرثرة حول الأمور الشخصية والعاطفية، فترة تكدس فوضوي مختلط الظواهر دون شكل محدد يصور العمومية. وقد انتهت المرحلة بأزمة وول ستريت 1929 ولم تكن انجلترا في ذلك الوقت هي مجتمع لندن الراقي مكبرًا. وكانت في الجو دعوة إلي مراجعة القيم ونزعة خارجة علي المتعارف عليه والتقليدي، علي مواضعات الشعر وواقعية الرواية والدراما، وخروج علي اللياقة وخرق للمحرمات ومطاردة للمتع واللذات. فماذا كشفت الحرب للشباب عن جيل آبائهم أو عن الأمة التي دخلت الحرب بكل ذلك الحماس؟ لقد كانت حربًا ألصقت بها قيم متخيلة وجاء في أعقابها رجال يعيشون علي السطح في رد فعل علي الحرب ويضعون عصابة علي الروح بالشهوات والتراخي ومقت بذل الجهد. شعروا بأنهم ينتمون إلي جيل ضائع كما ذكرت جيرترود ستين لهيمنجواي الشاب ضاعت منهم القيم أو المثل أو العقائد التي كان من الممكن أن يطابقوا بين أنفسهم وبينها. فقد بدت جميعًا مدمرة أو مستنفدة بواسطة الحرب، ضاعت مع كبار الموتي أو الذين تركت جثثهم علي أراضي المعركة في أوروبا الغربية، جيل كان قد ضاعت منه الكلمات كما ضاعت منه العوالم، وكان يجب عليه البحث عن عوالم جديدة وكلمات جديدة وأساليب جديدة وتغيير في التكوين العاطفي. وكان دي. إتش. لورانس يقول إن من الخطأ اعتبار أن الحرب انتهت، فالكراهية والشر أضخم مما مضي ولم تسحق ألمانيا وستستعيد قوتها، ومهما يحدث فليس من الممكن وجود سلام علي الأرض. مسرحية الدوامة استقبلت بصدمة في 1924، غضبت عليها الديلي ميل وأسمتها مزبلة وأدانها ناقد كمثل صارخ لانعدام الأخلاق وأطلق عليها ناقد آخر أنها أكثر المسرحيات انحطاطًا في عصرنا. وتحدث آخر عن أن خطأ إدمان المخدرات ليس راجعًا إلي آثام الأمهات بل إلي أنفسنا. حقًا إن الدوامة عن الانحطاط ولكنها تفضحه ولا تحتقل به، فهي تكشف عن نواحي قصور الذين يعيشون من أجل اللذة أيامها، أيام حفلات الكوكتيل وتدخين المخدرات والعلاقات الجنسية العرضية التافهة مختلطة بجنون الموسيقي الراقصة الصاخبة. الجراموفون الاختراع الحديث أيامها يطلق صراخه وسط ضجيج محادثات تسلية محمومة طنانة والهواء أسود من دخان السجائر والأشياء الأخري. الجميع يتكلمون في الوقت نفسه وهم يرقصون في افتتاح الفصل الثاني من المسرحية. هذه رقصة موت، عيش غضوب بلا هدف، تحركات وجوه بلا تعبير في دائرة بلا معني ولا نهاية. وفي مسرحية كوارد هذه يسرع السكر والمخدرات بالشخصيات في طريق اللعنة. المدمن هو شاب وأمه الجميلة التي تمضي بها سنوات عمرها إلي الشيخوخة تحاول أن تنكر مرور السنوات بالتورط في مغامرات جنسية مع رجال يبلغون نصف عمرها. وتزعم المسرحية أن استعراضية الأم المريضة عديمة الحياء مسئولة بشكل ما عن اعتياد الابن إدمان المخدرات. أما صديقته فتقول له إنه لا يزال هناك وقت للإقلاع عن المخدر فهو لم يذهب بعيدأ ويستطيع التوقف. ويقول لها ألا تفزع فهو لا يتعاطي إلا القليل جدًا. وتقول له إن حدث له أي سوء فسيتعاطي الكثير، فيؤكد لها ما من سوء سيحدث. ثم يتواجهان هو وأمه في منظر في حجرة نوم حيث يحاول كل منهما أن يكون صادقًا مع الآخر وتقذف أمه بعلبة المخدر من النافذة. ولكن ذلك قد لا يكون النهاية لأن الشاب يدعي أن إدمانه هو خطأ الظروف والمدنية لأنها تجعل التعفن أسهل كثيرًا وأمثالهم متعفنون للغاية ويدورون في دوامة البهيمية. وقد لا يفهم النظارة في ذلك الوقت أن الأمر متعلق بالمدنية بل إن هذه المدنية ليست إلا رمزًا لجوانب من مجتمع ما بعد الحرب يمكن تسميتها بالمنحطة. وقد يربطون مسألة المخدرات بفضائح مخدرات كانت مانشيتات الصحف تبرزها في السنوات بين 1918 و1923 حينما كتبت الدوامة. وليس من الصعب إدراك التشابه بين الأمس واليوم في ازدهار مسرحيات نويل كوارد. مابعد الدوامة ولم تكن الدوامة أولي مسرحياته بل مسرحية "الفكرة الشابة" التي يري بعض المعلقين أنها أفضل من الدوامة التي يرونها أكثر افتعالاً. وكانت "الفكرة الشابة" أولي سلسلة من كوميديات دارجة تضم بعد ذلك "تخطيط للعيش"، "روح مرحة"، "ضحكة في الحاضر"، "حلو ومر". وله مسرحيات وطنية "موكب فرسان" و"هذه السلالة السعيدة" و"السلام في زماننا". وكل مسرحياته عبر عنها منذ 1931 بأن الهدف الأول الأساسي للمسرح هو أن يرفه عن الناس وليس أن يصلح مجتمعهم أو يهذبهم أو يثقفهم. وبعض مسرحياته تعتبر مسلاة (فودفيل) ساخرة في أغان ورقصات ومشاهد تمثيلية قصيرة ونكات وحركات تمثيلية خفيفة مرحة تتخللها أغنيات ضاحكة. ومن أفضل أعماله الأخيرة "خلي بالك من لولو" 1959 وهي إعداد لمسلاة للمسرحي الفرنسي فييدو "خلي بالك من آميلي" التي عرضها الريحاني في مصر. وفي مسرحية "الموكب" تتبع مصائر وآراء عائلة في 21 منظرًا تغطي مسارح وبارات ومحطات سكة حديد وحتي سطح تيتانيك وتنتهي بمنظرين متضادين، في الأول تظهر الشخصية الرئيسية التي صارت مسنة تشرب نخب المستقبل آملة أن تحقق انجلترا التي تحبها كثيرًا العظمة والكرامة والسلام مرة ثانية، وفي المنظر الثاني الذي يسمي "كآبة القرن العشرين" ويقع في ناد ليلي يخلط أغنية عن الفوضي وتكدس الاختلاط مع رقص شعبي وجنود حرب مصابين، وأصوات نشاز لمكبرات صوت وفرق جاز ومحركات طائرات. وتطرح أعمال نويل كوارد الكثيرة المنوعة التي عرفت الرواج الجماهيري الساحق منذ عرضها أول مرة السؤال: هل هناك علاقة عكسية بين الجودة الفنية والرواج الشعبي؟ فهناك قدر من التوتر بينهما، ولكن جمهور المتفرجين لا يفضلون بالضرورة الفن الرديء علي الفن الجيد غير أنهم يقيسون النجاح بمعايير مغايرة للمعايير الجمالية، فهم في أغلب الأحوال لا يستجيبون في المحل الأول لما يعتبر جيدًا أو رديئًا من الناحية الشكلية الجمالية، بل لما يؤثر علي مجري حياتهم بتأثيرات مطمئنة أو مقلقة، فهم علي أهبة الاستعداد لتقبل كل ما يتميز بقيمة فنية علي شريطة أن يوفر لهم مطلبًا حيويا من مطالب حياتهم بتصويره لرغباتهم وأوهامهم وأحلام يقظتهم وأن يهديء من روعهم ويعزز إحساسهم بالثقة في أنفسهم أو بأمنهم.