فيما تعد أسوأ أزمة يتعرض لها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في تاريخه السياسي، تراكمت غيوم داكنة حول قصر الإليزيه، من جراء الأقاويل التي أشارت إلي تورطه في تلقي مبالغ نقدية لتمويل حملته الانتخابية، الأمر الذي ينتظر أن تتناوله سلطات التحقيق الفرنسية، مما قد يؤدي في حالة ثبوته إلي خروج الرئيس من السلطة، لمساءلته، علي غرار ما كان مع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، بشأن ما أطلق عليه " الوظائف الوهمية " التي كانت في حقبته، حينما كان عمدة مدينة باريس. ولم يخفف من أزمة الرئيس ساركوزي نفيه الأقاويل المنسوبة إليه، وإعلانه تشكيل لجنة خاصة من جميع الأحزاب لتقصي الأمر، وتجنب تعارض المصالح في المناصب العليا . وفي ظل حالة سياسية متأزمة، أعلن مسؤلون فرنسيون من الحزب الحاكم ( الاتحاد من أجل حركة شعبية) أن تحقيقا آخر سيتم اجراؤه بشأن ما أثير حول غض النظر في حالات تهرب ضريبي شائنة، تورط فيها وزراء بالحكومة الفرنسية (الوزير ايريك فيرت عندما كان وزيرا للمالية مابين 2007 2010). وفيما تحاول السلطات اخماد حرائق الفضائح التي تفجرت سياسيا وماليا، فقد وجدتها المعارضة السياسية، الممثلة أساسا في الحزب الاشتراكي الفرنسي فرصة لتوجيه سهام انتقاداتها إلي الحكومة، مطالبة بتعيين قاضي تحقيق مستقل لضمان كشف الحقائق، بدلا من أن تتولي التحقيقات سلطة، هي أصلا تابعة للسلطة التنفيذية، موضع الاتهامات . وكما قالت النائبة ايفا جولي وهي نائبة في البرلمان الأوروبي عن حزب الخضر، وكانت قاضية تحقيق سابقة ، إنه إذا كانت هناك ديمقراطية حقيقية في فرنسا، فإن الحكومة يجب ان تعين مدعيا عاما مستقلا لمباشرة التحقيقات، والإدلاء بالحقيقة للشعب الفرنسي . وفي ضوء تطورات تنبئ بأزمة سياسية عميقة في فرنسا، طالب جون مارك ايروه، رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي بضرورة فتح كل الملفات للتحقيق بالجمعية الوطنية (البرلمان) وكذلك بمجلس الشيوخ، حتي تتجدد ثقة الشعب الفرنسي المفقودة بالحكومة، وربما بالطبقة السياسية . فساد بالجملة منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع، تتداول وسائل الإعلام الفرنسية ما أصبح يطلق عليه " فضيحة بيتونكور فيرت " في إشارة إلي المليارديرة الفرنسية ليليان بيتونكور وريثة شركة " لوريال " لمستحضرات التجميل، حيث أدلت محاسبتها المالية السابقة باعترافات تضمنت وجود تضارب مصالح بين تهرب الملياردية من الضرائب في فرنسا، وبين زوجة وزير العمل اريك فيرت، التي كانت لأيام خلت، تدير جزءا من ثروة صاحبة شركة التجميل الفرنسية، وضمن الاعترافات جاء أن اريك فيرت تلقي في عام 2007 مبلغ 150 ألف يورو نقدا، من عائلة بيتو نكور لتمويل الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي، وأن الأخير تلقي مبالغ مالية، من بيتو نكور، قبل ان يصبح رئيسا للجمهورية . كما تم الكشف عن أن بيتونكور تملك حسابا مصرفيا في سويسرا وآخر في جزر سيشل في المحيط الهندي، ولم تصرح بهما إلي الخزينة الفرنسية، وهو ما يعد تهربا ضريبيا، في بلد ديمقراطي يعني تماما بالمسألة الضريبية . هذا فضلا عن استفادة بيتو نكور في عام 2008 من الرزمة الضريبية حيث ردت لها مصلحة الضرائب مبلغ 30 مليون يورو . وفي سياق بدت فيه " الصحافة " بطلا للموقف، من خلال ممارسة دورها كسلطة رابعة، كاشفة للفساد، وعمل زوجة الوزير في إدارة ثروة بيتونكور، وكون الوزير نفسه وزيرا للموازنة، والمسؤل عن المالية في حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، حزب الرئيس ساركوزي، وهو الذي تلقي التبرعات لحزبه من دافعي الضرائب، وهو ما يجسد نموذجا آخر لتضارب المصالح، الذي لا يبرأ من شبهة الفساد المالي، فالرجل متهم باستغلال نفوذه حين كان وزيرا للموازنة، وتعمل زوجته لدي بيتونكور، مما ساعد علي التهرب من الضرائب، مما ساهم في سخونة الحياة السياسية في فرنسا. وبالرغم من الأنباء التي ترددت عن تبرئة اريك فيرت من قضية بيتونكور، فقد اصرت الصحافة الفرنسية علي ممارسة دورها البطولي مجتمعيا، حيث كشفت صحيفتا " لوكانار انشينيه " و " مجلة ماريان " عن قضية فساد اخري بطلها فيرت عندما كان وزيرا للخزانة في مارس الماضي، وقيامه شخصيا بمباشرة موضوع بيع مطار الهيبودروم في بلدة كامييني، لبعض معارفه، بسعر يقل عشر مرات عن سعر السوق، في ظل حالة مثيرة للجدل، قبل ستة أيام من تركه وزارة الخزانة . وكما هو معروف في دولة ديمقراطية مثل فرنسا، فغالبا ما يطالب الرأي العام بأعلي درجة من الشفافية، وكشف الحقائق، الأمر الذي أحرج الحكومة حتي وصل الأمر إلي ما أسماه حزب الخضر " أزمة الدولة " في فرنسا . ومما وسع من دوائر الأزمة، ما كشفته وسائل الإعلام حول وزير الصناعة الذي يمتلك شقة تملكها الدولة، ووزير الاقتصاد الذي يمتلك هو الآخر شقة من شقق الدولة، ووزيرة الدولة المكلفة بالرياضة، لإقامتها في فندق فخم أثناء مهمة لها في جنوب افريقيا، ومطالبات أخري لعدد من الأثرياء بشبهة التهرب الضريبي . أزمة النظام إذا كان صحيحا أن أزمة مركبة اندلعت شرارتها في أروقة السلطة في فرنسا، ففي الجانب الظاهر من المشكلة، جاءت جرائم اهدار المال العام، والتي أدت إلي استقالة وزيرين في حكومة فيون هما: الوزير المنتدب لشئون التعاون والفرانكفونية، والوزير المنتدب المكلف بتنمية منطقة باريس الكبري، فيما طالبت المعارضة أيضا بإقالة وزير العمل اريك فورت . غير أن تطورات الأزمة الفرنسية تنطوي علي أبعاد أكثر خطورة علي الدولة والنظام الفرنسي، علي الوجه التالي : 1 الأزمة الدستورية التي يمكن أن تعصف باستقرار النظام السياسي الفرنسي، إذا ما ثبت سحب أموال من حسابات المليارديرة في سويسرا، وهو ما يمكن أن تتأكد منه السلطة القضائية الفرنسية بسهولة بطلب مباشر من سلطات سويسرا، ، وفي حالة ثبوت ذلك، يقضي القانون الفرنسي المنظم لتمويل الأحزاب السياسية بإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية، في حال تبين وجود تلاعب في حسابات تمويل الحملة الانتخابية . ومن المعروف أنه لايحق للأحزاب السياسية الفرنسية الحصول علي اكثر من 7500 يورو سنويا، من شخص واحد، وكل هيئة تتجاوز 152 الف يورو يجب أن تتم بموجب شيك مصرفي، ويظل مصدر التمويل الخاص الرئيسي بالنسبة للأحزاب السياسية هو اشتراكات الأعضاء، والتي شكلت 35 % عام 2008، من ميزانيات القوي السياسية الفرنسية . وبالنسبة لمرشحي الرئاسة، يحق لهم الاستفادة من هبات فردية شرط الا تتجاوز 4600 يورو، في العام من شخص واحد . 2 أزمة الثقة في القضاء، بعد أن سربت وسائل الإعلام معلومات حول تلقي مدعي عام مدينة نانتير تعليمات من رئاسة الجمهورية حول قضية بيتونكور ،بالإضافة إلي اتهامات اخري تعرض لها مدعي عام العاصمة باريس . 3 أزمة الثقة بين الشعب والحكومة، حينما تتضمن الحكومة وزيرا يدخن السيجار بقيمة 12 ألف يورو، علي نفقة دافعي الضرائب، ووزيرا آخر يستأجر طائرة خاصة لزيارة منطقة الدومونيك الفرنسية، فيما وراء البحار، ودفع المواطنون ايجارها مبلغ 116 ألف يورو، فيما تطالب الحكومة الشعب الفرنسي بالتقشف، بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية، ويطالب الرئيس ساركوزي مواطنيه بالمساهمة في تحمل عبء هذه الأزمة . وفيما تتفاعل هذه الأزمات، فقد كشفت استطلاعات الرأي التي أعلنتها لوجورنال ديمانش الفرنسية ان 71 % من الفرنسيين يعتبرون بلادهم في انحدار مستمر، وذلك بزيادة 5 % عن استطلاع سابق في 2005، وأن 30 % من المشاركين قالوا إن فرنسا لم تعد قادرة علي الإصلاح، وأن 62 % قالوا إن فرنسا تنقصها الثقة بالنفس، وحول القدرة علي الإصلاح، جاء أن 70 % من الفرنسيين يرون أن فرنسا يمكن أن يكون لديها فرصة للإصلاح، والعودة إلي الماضي . أزمة اليمين وساركوزي من التساؤلات المطروحة اليوم علي أجندة المجتمع الفرنسي ما إذا كانت " الديمقراطية " يجري تطبيق قواعدها، كما تعارفت عليها المجتمعات الغربية الديمقراطية، وكما ارتضاها الشعب الفرنسي لحياته السياسية .و في خضم هذا السؤال الكبير، يجري تبادل الاتهامات، فاليمين الفرنسي الحاكم يتهم اليسار بعدم احترام قواعد الديمقراطية، لذلك يعتبر ان ما يجري هو من قبيل المناورات السياسية التي تستهدفه بالتشهير وسوء السمعة السياسية . بينما المعارضة واليسار يطرحون بقوة نقاشات عن ما إذا كانت فرنسا في ظل اليمين الحاكم هي دولة تقوم علي احترام "القانون " ،ومن المعروف أن تركيبة السلطة هي كالتالي : رئاسة الجمهورية سياسية يمينية رأسمالية ليبرالية، المجلس الوطني النيابي أغلبية ساركوزية، ووسط يميني، مع شخصيات يسارية، وينتهي في 2012، ومجالس دوائر المناطق يمين ويسار متساوي، ومجلس الشوري بأغلبية يمينية مع وسط، بلا نفوذ يساري، ومجالس المناطق والبلديات من اليسار والوسط والخضر . أما عن أزمة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي فهي لا تقل تعقيدا . فبداية، يتهم البعض الخطاب السياسي للرئيس بأنه منتج للأزمات كونه يقوم علي اختراع قضايا تشغل اهتمام المواطن الفرنسي عن همومه اليومية ( البطالة، الشيخوخة .. ) كما يعتبر البعض أن تمسك ساركوزي بوزير العمل اريك فيرت سببها اصرار الرئيس علي تمرير قانون المعاشات الذي يتولي ملفه اريك، بالرغم من الرفض الشعبي للقانون، وفي حالة الإخفاق في تمرير القانون، يمكن التضحية باريك باعتباره كبش فداء، في اطار التعديلات المنتظرة في اكتوبر القادم . ومن ناحية اخري، هناك الفكرة القائلة إن مرحلة ساركوزي رسخت ما يطلق عليه حماية النظام السياسي وتحيزه للطبقة الثرية ومصالحها علي حساب الشعب الفرنسي . ومن المعروف أنه في شهر مارس الماضي تفاقمت أزمات اليمين الفرنسي بعد هزيمته في الانتخابات الإقليمية، والتي اعتبرت في حد ذاتها نقطة تحول في المستقبل السياسي للرئيس ساركوزي، قبيل الاختبار الآخر المتمثل في انتخابات الرئاسة في 2012 . وفضلا عن قضايا الفساد المالي، وتعارض المصلحة، والتهرب الضريبي، واهدار المال العام، فهناك مشكلات البطالة ( 10 % )، وقضايا الأمن، والهجرة، والغموض حول المستقبل الاقتصادي بعد أن ذكرت الهيئة العمومية الفرنسية للإحصاءات والدراسات الاقتصادية أن دين فرنسا العام بات يمثل اكثر من 75% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد تفاقمه بنحو 4.29 مليار يورو خلال الفصل الثالث من 2009، وتشمل الديون العمومية ديون مؤسسات الدولة، وديون إدارة الضمان الاجتماعي، والتغطية الصحية، والإدارة المحلية العمومية، وهيئات عمومية اخري . وعلي الرغم من محاولة الرئيس ساركوزي استعادة ثقة الفرنسيين، وإقالة الوزيرين في محاولة لامتصاص حالة الاستياء العامة، ونفيه شخصيا تقاضي أموال من بيتونكور، وإعلانه تشكيل لجنة خاصة من الأحزاب لتجنب تعارض المصالح، والوعد بإجراء تعديلات وزارية في أكتوبر القادم، برغم ذلك، فقد أظهرت استطلاعات الرأي التي نشرتها ليبراسيون المحلية أن شعبية الرئيس وصلت إلي أدني مستوياتها ( 26 % )، كما أن 64 % من الفرنسيين يعتبرون قادتهم السياسيين " فاسدين "، وأن هذه النسبة ترتفع في الأوساط الشعبية إلي 75 %، بل يعتقد الفرنسيون في المرحلة الراهنة أن السياسة والسياسيين عاجزون عن حل مشكلات فرنسا، وتحسين احوالها . ثم قالت ليبراسيون اليسارية " إن استشراء الفساد في النخبة الحاكمة يتنافي مع " الجمهورية الفاضلة " التي بشر بها الرئيس ساركوزي في حملته الانتخابية في عام 2007".