يمكن القول إن المرحلة الانتقالية قد انتهت بنزول المصريين للتصويت في الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة، وبغض النظر عن فوز من فاز أو خسارة من خسر فيها فإنه قد آن الوقت للشعب المصري ونخبه المجهدة من الصراع على مدار ثمانية عشر شهراً أن تدخل في استراحة المحارب، لكنها استراحة للتأمل وإعادة تقييم الموقف، خاصة وأن الجميع قد أصابته الجروح، وفقد الكثير من أنصاره وإيمان الشارع به، وأن النتائج لم تكن كما كان يحلم بها، فالإخوان وهم الفصيل الأكبر على الساحة منى بضربة قاصمة بحل مجلسي الشعب والشورى، وخروجهم من فكرة التحكم في اللجنة التأسيسية، وهو ما يعني عودتهم إلى ما قبل عام من الآن، أما بقية القوى الثورية فهي لم تحصل على شيء، لا في مجلسي الشعب ولا الشورى ولا حتى في التأسيسية، وربما كان الشيء الوحيد الذي حصلوا عليه هو دخول حمدين صباحي في المشهد كمرشح للثورة، بينما حصل النظام القديم على أعلى أسهم له بعد الثورة بعام ونصف، ويكفيه وصول شفيق إلى المرحلة الأخيرة من التصويت، في حين بدا المجلس العسكري كما لو أنه اللاعب الأمهر بين جميع المتنافسين، لا لشيء سوى أنه كان الأكثر هدوءاً، والأطول نفساً، والمالك لشئون البلاد، لكن الحقيقة تقول إنه أيضاً لم يحصل على ما كان يتمناه، وهو وضع خاص في الدستور حسبما أوضحت وثيقة على السلمي في مادتيها العاشرة والحادية عشرة، التي مازالت محور الصراع بين الجميع حتى الآن. بداية يمكن وضع عدة ملاحظات على الثورة المصرية، أولها أنها لم تنتهِ ولم تكتمل، حتى بفوز شفيق أو مرسي، وأن كل نتائج المرحلة الانتقالية تتمثل في أن أعلى تجليات الصراع بها دارت بين ممثلي النظام السابق، سواء من خلال رجاله أو من خلال معارضيه، فممثلي النظام السابق الذين درج المصريون على تسميتهم بالفلول كانوا جنباً إلى جنب مع أقوى تمثيل للمعارضة في ظل النظام السابق في جولة الإعادة، وهم الإخوان، ويمكن القول أنهم قادوا بمهارة ما يمكن تسميته بالثورة المضادة، بل إنهم استغلوا وجودهم في مفاصل الدولة المصرية لجعل الأمور محلك سر في أسوأ الأحوال، كما هو الوضع مع محاكمة مبارك والعادلي وعودة الأموال المهربة، وتطهير أجهزة الدولة منهم ومن ممثليهم، في حين نجحوا في الحصول على براءات رجال الشرطة وكأن الثوار ماتوا في الميادين قضاءً وقدرًا، أما الإخوان المتواجدين في الشارع المصري منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وكانوا شركاء في ثورة يوليو، ولعبوا دور الإله الضد على مدار ستين عاماً، جاءت التصفية معهم، لكنهم خسروا الكثير، بداية من فكرة الشهادة التي لعبوا عليها طيلة الوقت، مروراً بفكرة احترام الشارع لهم وتقديسهم لكل من يتحدث باسم الله، مروراً بأنهم كانوا وجهاً مماثلاً لعملة النظام وفلوله، وصولاً بفشل التيارات الدينية في تجربة الحكم في أهم وأكبر المعاقل الدينية في العالم وهي مصر التي تأسست فيها جماعة الإخوان في الأربعينيات، والتي خرجت منها جماعات التكفير والهجرة والجماعة السلفية والجهاد والفنية العسكرية، والدعوة والتبليغ وغيرها من الجماعات التي خرجت من رحم الأخوان وانشقت عليهم، وكأن دخولهم تجربة الحكم في مصر لم يكن لها هدف غير الإعلان العالمي بفشل تنظيم الإخوان المسلمون العالمي في التوافق فكرياً وعملياً مع متطلبات الواقع الراهن. الملاحظة الثانية أن دخول حمدين وأبو الفتوح ليس سوى تمثيل غير شرعي للثورة المصرية، مثلهم مثل الإخوان، لأن أي منهم ينتمي إلى فكر النظام القديم بشكل أو آخر، ومن ثم فالإجماع عليهما لم يكن مكتملاً، لكنه كان الأقرب إلى الواقع في ظل غياب ممثلي الثورة الحقيقيين، وقد سقط أبو الفتوح بترشيح السلفيين له، وانتهت ورقته بإعلانه بعد هزيمته ترشيحه لمرسي، أما حمدين فقد خسر الكثير من أنصاره برفضه لنتيجة المرحلة الأولى بعد خسارته، خاصة وأنه قبل الدخول على الأسس الانتخابية التي وضعها العسكر، لكنه رفضها بعدما انتهت بخروجه منها، أما عمرو موسى الموشك على الثمانين من عمره والممثل للدولة القديمة في شيخوختها وبيروقراطيتها الفجة فإنه بخسارته أقر بخروجه نهائياً من اللعبة السياسية للأبد، في حين عادت إلى الحياة ورقة محمد البرادعي بعدما ثبت صدق مقولاتها، وثبات صاحبها على موقفه الرافض لشروط اللعبة، ليبقى بمثابة المرشد العام للثورة، أو رمز الحكمة في الثورة المصرية، خاصة وأنه الليبرالي الوحيد الذي لم ينس أن هذه ثورة الشباب، وأنه لا يجب تنميط ثورتهم حسب أي كتالوج سابق، فضلاً عن أنه رفض الدخول في فتنة الديمقراطية المشبوهة تحت غطاء الوقوف على مسافة واحدة من كل الأطراف، رغم أنها ديمقراطية ظهرت للوجود بفضل ثورة شعبية شبابية كبرى، وأنها تحتكم إلى أهداف الثورة وليس الأجواء المعادية لها. الملاحظة الثالثة أن الذين ذهبوا للتصويت في جولة الإعادة لم يذهبوا إيماناً بمشروع معين، فقد سقطت مشروعية الفلول والنظام القديم، مثلما سقطت مشروعية الإخوان في اختبارات مجلسي الشعب والتأسيسية وأحداث محمد محمود ومجلس الوزراء، ومن ثم فقد ذهب الجميع بحثاً عن هدنة يمكن فيها تقديم مساعدات لوجستية للفقراء والبرجوازية الصغيرة الباحثة عن الاستقرار وتسيير الأحوال، ومن ثم فالدولة المصرية ككل بلا مشروع حتى الآن، وليس لدى أبنائها هدف غير الوصول إلى ما كانت عليه الأحوال الاقتصادية قبل الثورة، لكن مخيلاتهم أصبحت محملة بالعديد من الآمال والطموحات، سواء التي أفرط الثوار في المطالبة بها، أو التي أطلقها المرشحون عبر مغازلة الناخبين، وليس أمام الجميع الآن سوى أن يحلم بالأمن وعودة مصادر الرزق في انتظار رفاهية الثراء السريع. أما رابع الملاحظات فهي أن المربع صفر لم ينته بعد، فثمة معركة تكسير عظام أخيرة بين العسكر والإخوان، معركة يحشد لها الجميع أعوانه وأنصاره، وهي معركة الوجود، فالعسكر يبحثون عمن يمكنهم من وضع خاص في الدستور، ويدرسون كيفية اختيار اللجنة التأسيسية بما يضمن البندين العاشر والحادي عشر في وثيقة السلمي، في حين يتخوف الإخوان من النظر في قضية مدى قانونية حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين، وهي الضربة التي تنهي على وجودهم بشكل قانوني في الشارع المصري، أو تبقي على آمالهم في اللعب كقوة منظمة، وبتعادل احتياج كلا الطرفين سواء العسكر أو الإخوان فإن المربع صفر مازالت به نقاط قابلة للتقاطع بين كلا الفريقين، الإخوان والعسكر. قد يحدث بين العسكر والإخوان اتفاق يحفظ للأول وضعاً دستورياً لائقاً، وللجماعة حضوراً شرعياً بشكل قانوني لائق، وهو اتفاق ما نسميه لعبة المساكة أو (سيب وأنا أسيب)، وفي هذا الحال يصبح سيناريو الوضع الباكستاني هو المرشح للتطبيق في مصر، وهو ما نعتقد أن العالم أجمع لن يسمح به، وهو ما يتناقض مع تصريحات العسكر الدائمة ( الدولة المدنية خط أحمر). أو أن يحدث اتفاق بين العسكر والقوى المدنية للإطاحة بالإخوان نهائياً من اللعبة عبر آليات القانون التي اعتدنا استعمالها في مصر، وذلك عبر صدور قرار المحكمة الإدارية العليا بعدم قانونية حزب الحرية والعدالة لأنه قائم على مرجعية دينية، وهو الاتفاق الذي يضمن إقامة دولة مدنية على نحو تركي، يحتفظ فيه العسكر لأنفسهم بوضع فوق دستوري، لكن هذا الاتفاق تواجهه العديد من المخاوف، إذ أن الإخوان بعد فقدانهم للبرلمان والتأسيسية لم يبق لهم غير الحزب، بما يعني أنهم سيتحولون إلى مليشيات غاضبة في الشارع، فضلاً عن العسكر يؤمنون بالحكمة العسكرية القائلة " لا تضيقوا على الجبناء". أما الاتفاق الثالث فقد يحدث بين الإخوان وبقية القوى الوطنية، وهو ما يعيد الجميع إلى المربع صفر، فالعسكر والفلول في خندق وباقي القوى في خندق آخر، وهو اتفاق يعني العودة إلى الثورة من جديد، لكن هذا الاتفاق أصبح مهدداً بدخول شفيق إلى السلطة، لأنه ظاهرياً سيكون مسئولاً عن السلطة، ولدى الإخوان الأمل في تنظيم صفوفهم والفوز بباقي الكعكة المصرية كما يحلمون من ستين عاماً، ومن ثم فلن تسمح لهم أنفسهم بأن يكونوا كباراً ويحققوا تآلفاً لم يستطيعوا تحقيقه على مدار أيام وشهور الثورة مع إخوانهم الأقل عدة وعتاداً، وفي ظل استمرارهم على هذا الانفراد بالوجاهة والحكم فإنهم سيتم حرقهم ثقافياً، إذ أنه لا القوى المدنية ولا العسكرية ولا بقايا النظام القديم ولا حتى المجتمع الدولى ستسمح لهم بالنجاح، مما سيخلق أزمات إثر أزمات في الشارع المصري، ويضعهم في صعاب من فوق صعاب، وهو المصير الأسوأ سواءً لهم أو لمن حلموا بالاستقرار وعودة الأمور إلى مجاريها والثراء السريع في ظل الدولة الجديدة. المحصلة أن الجميع يحتاج إلى هدنة لمراجعة النفس وحساب الخسائر والمكاسب، وهو ما يرجح سماح العسكر بنجاح مرسي، وربما تأجيل النظر في قانونية الجماعة وحزب الحرية والعدالة، لكن هذه الهدنة مرهونة بمدى التوافق الممكن بين العسكر القابضين على مقاليد اللعبة السياسية والقانونية والتشريعية في البلاد مع القوى المدنية، أو التيارات الدينية، أو مدى ما يمكن أن تكون عليه حكمة الأطراف المهزومة في ظل إعلان دستوري ينزع من الرئاسة المصرية لذة الوصول إليها، ويجهز البلاد للانقلاب عسكري على كل شيء، فلا يكون اتفاقاً بين أي من القوى السياسية ولا حتى وجود لأحد سواهم.