في هذا الجزء من يومياته عن حرب فلسطين. واصل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل. الاعتماد على تحليل وثيقة خطيرة تكشف أسرار دخول مصر هذه الحرب فجأة بلا استعدادات كافية. الوثيقة كانت عبارة من مضبطة جلسة سرية لمجلس النواب المصري، هذه الجلسة التي غير فيها رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي فجأة موقفه من الحرب من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، وبعد أن كان ضد دخول مصر حربا رسمية في فلسطين بحجة عدم تعريض الجيش المصري لأي خطر. إلى مدافع عن هذه الحرب وأخذ في خطابه للنواب المصريين يحاول إقناعهم بهما ! في هذا الخطاب قال محمود فهمي النقراشي للنواب: لقد شدد الصهيونيون الضغط على العرب. وفي ذلك الوقت كانت الجمعية العمومية للأمم المتحدة وكذلك مجلس الأمن مجتمعين. وليس من قبيل المصادفة أن الصهيونيين شددوا الضغط على العرب ظنا منهم أن ذلك يرجح كفتهم. ودعيت اللجنة السياسية بالجامعة العربية للاجتماع.. وأثناء اجتماع اللجنة السياسية طلبني خشبة باشا وزير الخارجية لكي أحضر الاجتماع. ودخلت فوجدت الوجوم يخيم عليهم. وقالوا أن جيش التحرير غزا مستعمرة "مشمار هيمك". ولكن الهجانة أرسلت قوات كبيرة. أحاطت بالمجاهدين العرب. وأن الملك عبد الله أرسل برقية الى القاهرة. يقول فيها إنه قد جاءته أنباء بطلب النجدة. ولم يتردد أمين الجامعة العربية فورا يبلغه رجاء أعضاء الجامعة بأن يبادر الى نجدة هؤلاء المحاصرين. ولما اجتمعنا أصدرنا قرارا بهذا المعنى. وقد تمكن المجاهدون العرب من أن يوقعوا باليهود وينتصروا عليهم. وقد رويت كل هذا لأثبت أن الرغبة بين الدول العربية في التعاون كاملة. لا خلاف على العمل.. لا على ما يعقب العمل.. *** لكن هيكل يستمر في كشف حقيقة ما وراء خطاب النقراشي. ويقارن بين الكلمات والواقع.. فيعقب على هذا الجزء من خطاب النقراشي قائلا: " لقد عشت كل ظروف معركة "مشمار هيميك".. وكان للكارثة سبب واحد. هو حماقة قواد التحرير العرب. الذين أشرفوا على إدارة المعركة. ولقد كان من قبيل الخطب الإنشائية أيضا أن يبعث أمين الجامعة العربية إليه يرجوه باسم أعضاء الجامعة أن يغيث وينجد "! فقد كان الإنجليز بقوة الانتداب وقتها. يمنعون دخول أية جيوش غريبة الى أرض فلسطين. والذي حدث في هذه المعركة لم يكن إيقاعا باليهود ونصرا عليهم. بعد النجدة الموهومة. وانما كانت النتيجة كارثة! ولقد أفلتت بقايا من جيوش التحرير العربية من هذه المعركة. ولقد رأيت هذه البقايا. وقد رأيت ذلك بعيني. هذه البقايا أفلت تحت حماية الجيش البريطاني. الذي كان قد اتخذ له سياسة أن يمنع دخول قوات غربية الى أرض فلسطين. وأن يتدخل إذا طلب منه أحد الفريقين. يهود فلسطين أو عرب فلسطين. النجدة بصفته القوة المكلفة بصيانة الأمن حتى انتهاء الانتداب! أما الرغبة في التعاون بين الدول العربية. فلم تكن حقيقتها سرا خافيا على أحد! وأنا أذكر أن الملك عبد الله أطلعني. على مجموعة من البرقيات تلقاها في هذه الفترة بالذات. من شكري القوتلي رئيس جمهورية سوريا في ذلك الوقت. وكانت البرقيات بين الملك العربي ورئيس الجمهورية العربي. تكاد تصل الى درجة الشتم وتبادل السباب! وأذكر أنني سمعت في ذلك الوقت من الملك عبد الله الآراء التالية في عدد من رؤساء الدول العرب: كلب ! خائن ! لص ! ولن أقول من هو الكلب. ولا من هو الخائن. ولا من هو اللص! والذي أستطيع أن أقسم عليه أن الثلاثة كانوا من رؤساء الدول والوزارات على الأقل! أما أنه لا خلاف على العمل كما قال النقراشي ولا على ما يعقب العمل. فإن الحوادث السياحية. التي سفك فيها دم فلسطين ووجودها تقول: كان هناك مليون خلاف وخلاف على ما يعقب العمل! *** وفى خطابه في الجلسة السرية قال النقراشي أيضا: اشتد ضغط الصهيونيين. وكانت الحكومة البريطانية تعلن بصراحة للدول المختلفة. أنها المسئولة عن فلسطين حتى 15 مايو. وأنها لن تسمح لأية جيوش بالتدخل في فلسطين. ولقد قابلني سفير أمريكا. وقال لي أن الوضع في فلسطين يتدهور من سيئ الى أسوأ. بل أن الأمر يكاد يكون حربا سافرة. وأن أمريكا التي طالما وعدت بتقديم مساعدات للحكومة المصرية. تصرح لك بأنه لا يمكن أن تقوم بتقديم مثل هذه المعونة. إلا إذا تحت الموافقة على مشروع الوصاية. أو قدم مشروع آخر بديلا للوصاية. ولقد أنصت للسفير الأمريكي إنصاتا كبيرا.. وقلت له: إنك تحمل رسالة في غاية الخطورة. وأعدت عليه الكلام الذي قاله.. وقلت له: إنى اتفق معك في أن الموقف يتحول من سيئ الى أسوأ. ولكن هذا ليس بسببنا. فطالما حذرناكم ونبهناكم. ولا أظن أنكم تريدون إفساح الطريق للهجانة.. وعلى أي حال لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي. بينما العرب يذبحون. - قال لي السفير الأمريكي: لا تأخذ الذي قلته لك على أنه تهديد.. إنه ليس كذلك ! وهنا يعلق هيكل في يومياته على هذا الكلام قائلا: "أن هذه الرسالة التي قام بإبلاغها السفير الأمريكي لرئيس وزراء مصر. كانت تكفي وحدها لتدل على الاتجاه الذي كان يسود واشنطن. عما يجب أن يكون عليه المستقبل في فلسطين "! *** وقال محمود فهمي النقراشي في خطاب: "وكنت حريصا في معالجة هذا الموقف. على أن لا نتصرف تصرفا يعاب علينا من الناحية الدولية. وكانت تصرفات البلاد العربية كلها سليمة. وكنت أنا بصفة خاصة. حريصا على أن تتعارض تصرفاتنا مع المركز الدولي لمصر". ولكن المذابح كانت تنتشر ! وجاءتني رسالة البارحة من المتطوعين المصريين بأن الصهيونيين دخلوا في بلدة "دير دراز". وفتكوا بأهلها كما فتكوا بأهل دير ياسين. وأعطينا أكثر من الأسلحة وأكثر من المال. ومصر فيها دائما شباب يتقدم لأداء الواجب. وفي معسكر هايكستيب الآن بعيدا عن ضوضاء المدن. طائفة من الشباب المثقف. يتدربون نظاميا. وكذلك بعض الضباط المصريين استقالوا وتطوعوا. الوقت يقترب الى 15 مايو.. وبناء عليه كان واجبنا أن أنبه حضراتكم الى خطورة الموقف. فطلبت اعتماد 4 ملايين جنيه. مصاريف استعداد الجيش على الحدود لمراقبة الحالة. وهذه دفعة عاجلة لتمكين الجيش من أداء واجبه. إذا طلب إليه ذلك. وقامت مشكلة اللاجئين.. وأقصى ما يصب به الناس. هو إخراجهم من ديارهم. وهذا هو الحاصل الآن في فلسطين. وفتحت اعتمادا بعشرة آلاف جنيه. فوجدت أن هذا قطرة في بحر. ودبرنا سيارات وبواخر للذين يريدون العودة. وجاءتني برقية من القنصل المصري في القدس. ينبه فيها الى خطورة الحالة في فلسطين. والى أن الهجرة تحمل خطرين. خطرا على الصحة العامة. وخطرا على الأمن من ناحية التجسس. وبلغ عدد اللاجئين 14 ألفا.. وكان هناك 16 ألفا آخرين في الطريق ! ومصلحة مصر أن يبقى هؤلاء جميعا في ديارهم. ولما اشتد الحال. وقامت الشعوب العربية تطالب حكوماتها بالعمل. حضر الوصي العراقي وتحدث مع المسئولين في لجان الجامعة العربية. وكان رد مصر: أنها لا يمكن أن تتأخر عما تقوم به البلاد العربية. وما ستقوم به هذه البلاد ستقوم به مصر أيضا. ولم يبق إلا يومان.. وتكون عصابات الهجانة وشترن وأرجون مطلقة السراح في فلسطين. فهل يمكن أن نقف متوانين أو مترددين أو متفرجين ؟ لذلك بادرت بعرض الأمر على حضراتكم. لتعلموا أن الحكومة المصرية. تراقب الحالة. وهي لا تتردد في إصدار الأوامر الى الجيوش المصرية في الدخول لإعادة السلام الى أرض السلام ! وهنا تهب في قاعة مجلس النواب المصري، رغم أن الجلسة كانت سرية، عاصفة من التصفيق الحاد، وتلتهب حماسة النواب المصريين لكلمات رئيس الوزراء النقراشي وتتغلب المشاعر.. على العقول! *** وبنفس اللهجة الحماسية ينهر محمود فهمي النقراشي خطابه الخطير الذي كان بوابة دخول مصر حربا رسميا في فلسطين فيقول: " وإذا دخلت الجيوش للسلام والنظام. وأوقفت المذابح. فلن تكون هناك حرب. وليس هناك مخالفة لهيئة الأمم. وإنما نعمل على قتل رأس الحربة. التي تمتد من هذه العصابة الصهيونية. لنشر الاضطراب والشيوعية في البلاد العربية. يجب علينا ألا نقف مكتوفي الأيدي نتفرج ! ليست هناك دولة يهودية. فإن المجلس الأمن لم يقرر هذه الدولة. وأمريكا تخلت عن التقسيم. تسألوني عن قوى البلاد العربية. وعن الجيش المصري. وعن قوى الهجانة ؟ لا نزاع في أن قوة العصابات الصهيونية لا بأس بها. عندهم سلاح. ومعهم عدد كبير من الذين حاربوا. ومواردهم متوافرة. ولديهم المال الكثير. ولهم أنصار في البلاد الأخرى.. ولكن قوى الدول العربية المجتمعة الآن كفيلة بحسم الموقف ! وهنا أيضا تغلب الانفعالات الحماسية النواب المصريين.. وينتهى خطاب محمود فهمي النقراشي بعاصفة من تصفيقهم الحاد الملتهب ! ويعود النقراشي في النهاية ليقول: " هناك الجيش العربي.. وهو جيش شرق الأردن.. وهو جيش على درجة عالية من الكفاءة العسكرية. وتسليحه ومعداته وذخيرته وافية.. ما عدا الطيران "! وهنا يرتفع صوت أحد النواب متسائلا: - وكم عدد أفراد الجيش العربي؟ يرد عليه النقراشي قائلا: اسمحوا لي أن أكون متحفظا في أسرار الجيوش! ويقف نائب آخر يتساءل عما قرأه في الصحف من تصريحات للملك عبد الله ضد الهيئة العربية العليا؟ فيجيب النقراشي عليه قائلا: أنا تأسفت له.. وفي جرائد المساء تصريحات لفارس الخوري.. وأظن أنه مدسوس أو مزيف أو محترف... المهم أنه يلي جيش شرق الأردن جيش العراق الباسلة. ولأن شر البلية ما يضحك كما يقولون.. فقد وقف نائب ثالث ليقول: الباسل.. مذكر لا مؤنث ! لكن النقراشي لا يهتم بالملاحظة اللغوية.. - ويستمر قائلا: وجيش العراق عنده كل المعدات وكذلك الطائرات. أما سوريا ولبنان. فقد جعلا كل الموارد وقفا على القضية الفلسطينية. وإنقاذ فلسطين. والملك ابن سعود أرسل أسلحة ودفع نصيبه بالدولارات.. واليمن كانت معتزمة أن ترسل فريقا من رجالها على سبيل الرمز. ولكن حوادثها الأخيرة منعتها.. أما الجيش المصري فان كفايته كاملة. وأسلحته وافية. وذخيرته متوافرة.. والذي يقدم على مثل هذا الأمر يتخذ له عدته ! وينتهى النقراشي من خطابه.. وسط موجة ثالثة من تصنيف النواب المصريين. .. وهكذا تقرر أن تدخل مصر بصورة رسمية.. حرب فلسطين ! *** في نهاية هذا الجزء من يومياته.. يقول هيكل " أن الفارق الهائل بين هذه الصورة. التي رسمها النقراشي في الجلسة السرية لمجلس النواب. وبين الصورة الحقيقية للموقف كما رسمتها الأحداث. وكما برهنت عليها التجارب العملية.. لا يحتاج الى رد ! ثم يتساءل هيكل: كيف رسمت هذه الصورة للموقف في خيال رئيس وزراء مصر؟ ومن هم الأشخاص الذين رسموا له هذه الصورة ؟ وما هي العقول التي تضافرت على أن تضع هذه التفاصيل في رأسه؟ وترغمه على أن يتناقض مع نفسه؟ يجيب هيكل على هذه الأسئلة التي طرحها قائلا: أن الطريقة التي رسمت ها الصورة.. والأشخاص الذين رسموها.. والقوى التي تضافرت على صنعها.. كلها جميعا.. السر الكبير.. وراء حرب فلسطين !