رحم الله الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري.. فكأنه بقصيدته العبقرية تنويمة الجياع قد وصف بدقة ما آل إليه حال الأحياء والمحليات في مصر.. فهي بالفعل اختارت النوم العميق هربا من الكرب الجسام.. تلك الكرب التي تراكمت بفعل التراخي والرشوة والمحسوبية حتي تحولت المحروسة بفعل أصحاب هذه الأيادي الأثمة إلي كائن عشوائي مشوه وورشة كبيرة لا تصلح للسكني أو الحياة. وتكمن الكارثة الحقيقية في أن هؤلاء المنوط بهم تنفيذ القانون هم أنفسهم أول من تحايل عليه لهثا وراء مكاسب فاسدة أو بفعل تراخ متعمد عملا بمقولة ياعم وأنا مالي.. قول يا باسط.. هو أنا اللي هصلح الكون.. دون أن يدري هؤلاء أن السكوت علي الفساد هو قمة الفساد.. وأن المتستر علي الجرم كفاعله.. والنتيجة أن القوانين أصبحت مجرد ديكور وحبرًا على ورق.. تنفذ علي الهوى حتي استفحل الأمر وأصبحت قاهرة المعز بكل أحيائها الراقية أشبه بمنطقة صناعية كبرى.. عباره عن ورش تجاورها ورش تجاورها ورش.. بينما رؤساء الأحياء من ذوي الياقات البيضاء يجلسون تحت المكيفات على كراسيهم الوثيرة.. يستمتعون بعذاب المواطنين واستغاثاتهم التي لا تجد صدى.. للأسف بات هذا بالفعل هو حالنا.. وفي مقالي لن أتحدث عن محافظة الجيزة التي تئن كما ذكرت من قبل تحت وطأة مشاكلها بداية من الصرف الصحي ومياه الشرب والورش المزعجة التي تدمر الأعصاب وتستنزف القوى وتدفعك للجنون.. هذه المرة سأتحدث عن محافظة القاهرة.. ليس عن الأحياء الشعبية بها حتى لا اتهم بالاصطياد في الماء العكر ولكن عن حي مدينة نصر الراقي وبالتحديد عن مساكن صقر قريش- خلف الحي السويسري "ب" التابعة لحي شرق مدينة نصر.. هذا الحي المنكوب بالورش بمعني الكلمة الذي بات جحيما مقيما لمن قادهم حظهم العثر للسكني فيه.. وأذكر أنني قبل سنوات قليلة زرت صديقا لي بالحي وحسدته على ما يستمتع به هو والسكان من هدوء.. نعم كانت توجد محال تجارية.. لكنها عبارة عن بقالة واكسسوار سيارات أو قطع غيار أو محلات مأكولات إلخ.. وحتي المقاهي كانت نادرة.. أذكر أنني لم أر سوى مقهى واحد.. لكن حين عاودت زيارته مؤخرا كانت الصاعقة والطامة.. فقد تحولت مساكن صقر قريش إلي منطقة حرفيين كبيرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى حيث انتشر سرطان الورش ليلتهم الأخصر واليابس وحتي الأرصفة ويهدم منها ما أراد دون خوف من عقاب أو اعتبار لشيء وتفنن أصحاب هذه الورش في الضرب بكل القوانين وعلي رأسها قانون البناء الموحد لسنة2008 الذي يحظر منح ترخيص لأي ورشة داخل المناطق السكنية.. عرض الحائط مستغلين نوم المحليات والأحياء في العسل.. وتراخي يد المحافظة عن إزالة هذه المخالفات والرد الجاهز دائما.. هو عدم وجود قوات من شرطة المرافق تكفي للتصدي لهذا الكم الهائل من المخالفين.. وتكون النتيجة في أغلب الأحيان بعد أن يجف حلق السكان المعذبين هو مجرد تسجيل شكوى إدارية للورشة ويتم وضعها في ملف مهمل يبقى إلى يوم القيامة ينتظر من ينظر إليه دون مجيب!! والسؤال الآن من الذي سمح لهذا السرطان أن ينتشر بهذه السرعة ومن منح هؤلاء تراخيص فتح ورش في الأحياء السكنية بالمخالفة للقانون.. وإذا كان الرد الجاهز دائما.. أن هذه الورش غير مرخصة.. فلماذا السكوت عليها.. وتركها تعذب السكان بضجيجها كل يوم حتي مطلع الفجر؟؟.. وهل السيد رئيس حي شرق يستطيع أن يسكن في هذا الحي المنكوب وينام الليل هانئا ويقوم نشيطا ليؤدي عمله علي أكمل وجه.. أم أنه سيصاب بالصرع كسكان هذا الحي المنكوب الذين يرون أصحاب هذه الورش وجيوبهم تنتفخ بالمكاسب بينما هم محرومون من أبسط حقوقهم الآدمية في العيش بمسكن هاديء يمنحهم أمانا نفسيا يعينهم علي العمل من أجل رفعة الوطن ويساعد أبناءهم علي استذكار دروسهم والحلم بمستقبل أفضل.. فهل هذا مستحيل ؟؟.. وللحديث بقية !!