في مصر وحدها تجد عجائب الدنيا داخل مدارسها، اعتدنا قبل أكثر من ثلاثة عقود على مشهد عودة أطفالنا من اليوم الأول للدراسة، مضروبين ومهددين بالرسوب إذا لم يحصلوا على دروس خصوصية لدى مدرس لم يتح لهم وأولياء أمورهم الاطلاع على مستواه، وغالبًا ما تكون ردود أفعال الأغلبية من الأهالي الاستجابة والرضوخ للمدرس المبتز والابتعاد بأبنائهم عن المشاكل، ليفرحوا بالمجموع الكبير في شهادات نهاية العام، التي يعلقونها على حوائط منازلهم تتويجًا لجهود الأب في دفع "المعلوم"، ودور المدرس المبتز في تسهيل "غش" ابنه داخل اللجنة. مرت السنون وأصبحت المدارس المصرية أكثر تقدمًا، فالمدرس لم يعد بحاجة إلى ابتزاز التلاميذ والطلاب كثيرًا، مع دور مراكز الدروس الخصوصية التي تعلو دور العبادة وتباشر بإعلاناتها في الشوارع حربًا نفسية ضد الطالب وأسرته، فهذا "هيرودوت" التاريخ، وذاك "أرسطو" الفلسفة، والثالث "عملاق" الأحياء، ورابعهم "وحش" الألمانية، وأغلبهم من معلمي نفس فصول المدارس التي بدأت تشهد اكتفاءهم بكتابة أسماء وعناوين المراكز المتواجدين بها وأرقام الاتصال بهم للتعاقد على "الخصوصي". المدرسة ذاتها تغيرت ملامحها، فلا زهور تملأ جوانبها لأن حصة "الزراعة" خالية من المزارعين، أو بالأصح الطلاب، واختفى الملعب بفعل تزايد الخرسانات والأبنية لتغطية احتياجات المناطق السكنية وأبنائها المتزايدين من الفصول، والمعمل "إن وجد"، بات يضم أجهزة كمبيوتر يتعامل معها مدرس "صخر" على أنها "سايبر" أكثر منها وسيلة تعليمية لغير القادرين على شراء أجهزة ومحو أميتهم التكنولوجية داخل منازلهم. أما أسوار المدارس فلم يعد أحد بحاجة إلى تسلقها للهرب، فحضور الحصص للطلاب أصبح اختياريًا، مع تنازل مدرسين عن هيبة المهنة وتراجعهم عن إيقاظ ضمائرهم في شرح المناهج، وإصرارهم على علاج أزمات ضعف أجورهم بالقضاء على مجانية التعليم، هنا تحولت الأسوار والأبواب إلى "روبابيكيا" ثقيلة، متهالكة بمرور الوقت، يشتد غيظها من تجاهل التلاميذ لها، فأقسمت على عقابهم بالسقوط فوق رءوسهم، لتقتل البعض وتصيب الآخر، دون أن يفهم الوزير أو تعي هيئة الأبنية التعليمية، أن للحجر والحديد ضمائر تبكى على حال العملية التعليمية. قبل 10 سنوات كانت ابنة خالتي، طالبة الجامعة الآن، تلميذة بإحدى مدارس إدارة المطرية التعليمية، فاجأت أسرتها بزيارة في الصباح، فردت التلميذة التي قال والدها أنها في المدرسة، فمفاجأة أكبر، عادت بعد ساعتين إلى البيت..!! إيه الحكاية؟ اليوم الدراسي خلص..!! إزاى؟! الميس اللى بتدى العيال دروس علينا من الحصة الثالثة حتى نهاية اليوم. طيب وخرجتى بدري ليه؟ علشان هي بتطرد من أول السنة اللى مش بياخد درس معاها. طيب وبتعمل إيه بعد طردكم؟ بتدى العيال بتوع الدرس الخصوصي الدرس بتاعهم في وقت الحصص علشان جالها درس تاني لعيال تانية. طيب المدير عارف؟ آه طبعًا. وأنت يا عمى مش هاتعمل بلاغ فيهم؟ لأ طبعًا مش ناقص مشاكل علشان مايسقطوش البنت آخر السنة. وبعد 10 سنوات كانت مثل هذه المدارس أكثر تطورًا وتقدمًا، دعك من الكوارث والأزمات التي أصبحت تنهي حياة التلاميذ داخلها وخارجها وفى أتوبيساتها المتهالكة، لدرجة أن أولياء الأمور باتوا مطالبين بشراء كفن لأطفالهم مع "المريلة" بداية كل عام، لكن مثل هذه المدارس توسعت الوزارة في إعادة تسميتها وخصخصتها بطريقة عاطف عبيد وكمال الجنزوري، حتى أصبح مديروها يحتكرون سلعة التعليم ويضعون اشتراطات لحصول ابنك عليه. وداخل مدرسة ببولاق الدكرور بالجيزة كان الموقف معي شخصيًا: مدرستنا بقت تجريبي ولغات ومميزة وغيرنا اسمها علشان الناس كارهة بولاق دي.. ومصاريفها 700 جنيه لكي جي وان. بنفس المدرسين؟ آه. بنفس المديرة اللى قاعدة تضرب عيش بالكشري وتزعق لأولياء الأمور على مكتبها؟ إن كان عاجبك. بنفس بنات الإعدادي اللى مع كي جي والبنت واقفة تشتم مدرستها واللبانة في بقها وإيديها في وسطها ؟ طبعًا. طيب فين الكتب؟ مفيش. طيب فين العيادة علشان طوارئ الشتاء؟ مستشفى تبارك في أول العشرين في شارع فيصل. طيب غرفة مجلس الآباء؟ أنتم مش حليتوا مجلس الشعب المنتخب.. عاوزين مجلس ليكم ليه؟. طيب فين الفصل؟ هاندبره بعد أسبوعين علشان قبلنا في تنسيق كي جي تجريبي 150 في المرحلة الأولى و127 في الثانية ومش عارفين هانوديهم فين. طيب الفصل ده فيه أطفال من المرحلة الأولى مش كده؟ أيوه. طيب فين الديسكات والتابلز بتاعتهم؟ هأاااو.. يا بابا إحنا النظام عندنا الأب يختار الديسك والتابل بالألوان اللى تعجبه لأبنه. بجد ؟ آه والله. طيب أنا عاوز لأولادى المقعد روز والترابيزة أخضر. زى الفل.. تشرفنا بالعيال ومعاك الدكة بتاعتهم بعد أسبوعين.. بتتباع في التوحيد والنور رخيصة.. عاوز أغلي اشتريها من سمير وعلى. معقول ده.. هاجيب الدكة معايا؟ آه.. لو عاوز عيالك تتعلم. طيب ممكن رقم تليفون المدرسة علشان أتابع معاكم؟ مفيش. طيب إيميل؟ احترم نفسك يا أستاذ أنا مسلمة. تقبل اللهم منا ومنكم.. التعليم في مصر.. هات الدكة والكفن معاك