يُدرك الكبار في جماعة الإخوان المسلمين أنهم أهدروا “,”فرصة تاريخية“,” لأسباب يعرفها الكافة، ولعل أخطرها هي ازدواجية القرار في مؤسسة الرئاسة، فقد سُربت معلومات عن صراعات مكتومة داخل معمل صناعة القرار، مكتب الإرشاد لجماعة “,”الإخوان المسلمين“,”، وفسرت مراكز الدراسات التي تهتم بشئون الإسلام السياسي تخبط قرارات مرسي وسلوكه السياسي المرتبك، بأنه حدث بفعل فاعل، هو الرجل القوي داخل التنظيم، خيرت الشاطر، مهندس المخططات، واللاعب الخفي الذي كان في نفسه “,”أمر ما“,”؛ فنحن بشر، وكيف يُخطط وينفق ويحشد ويتكبد كل هذه المشاق والأموال الضخمة، ليأتي آخر يحصد كل هذا، مع أنه لم يكن يومًا من “,”صقور الجماعة“,”، بل كانت كل مؤهلاته تنحصر في السمع والطاعة، والامتثال لكل قرارات قيادة الجميع، وتنقصه “,”الكاريزما“,”، ويفتقر للخيال السياسي، فهو حالة نموذجية للريفي التقليدي رغم تعليمه وإقامته بعض الوقت بأمريكا. قُضي الأمر.. جفت الأقلام وطُويت الصحف، لن تعود عقارب الساعة في مصر للخلف، هذا ما يدركه من يعرفون المؤسسة العسكرية المصرية، التي كانت أبوابها موصدة أمام عناصر جماعات الإسلام السياسي، خاصة بعد اغتيال السادات؛ إذ إنها تدقق في أسرة الطالب أو الجندي لتتحقق من عدم انتماء أي من أقاربه، خاصة من الدرجتين الأولى والثانية لهذه التنظيمات السّرية، وبالتالي لم يعرف هذا الفصيل “,”كود الجيش المصري“,”، فالمؤسسة العسكرية المصرية، منذ عهد محمد علي باشا حتى اليوم، تسير بالتوازي مع الدولة العميقة والعريقة، وأقصد بها المؤسسات السيادية، كأجهزة الأمن على تعددها، والدبلوماسية والقضائية. إذن لماذا يواصلون اعتصاماتهم بإصرار ويسعون للتصعيد في أكثر من مكان؟ والجواب بوضوح هو استنزاف قدرات القوات المسلحة والشرطة من جهة، كما يريد قادة الجماعة لهذه الفعاليات أن تستمر أطول فترة ممكنة لتبدأ مسارات تفاوض مع السلطة؛ بهدف الحصول على قدر أكبر من المكاسب القانونية والسياسية، وتقليص محاسبتهم على وقائع تشكل جرائم، فضلاً عن توجيه رسالة للمجتمع الدولي للتأكيد على وجود انقسام في المجتمع المصري؛ مما قد يؤدي إلى تأثير ما في المعادلة. لكن الأخطر من كل ذلك لدى قادة الجماعة هو أن يتمكنوا من ترسيخ “,”صورة الضحية“,”، التي تؤثر في نفوس قواعد الجماعة الشعبية؛ حتى تبقى فكرة الجماعة قائمة في مواجهة انهيارها المحتمل، بعد فشل القادة في الحفاظ على أفضل ما حققته خلال السنوات الثمانين الماضية. فشل مرسي ومن كانوا ينصحونه أو يوجهونه -لا فرق- في التناغم مع مؤسسات “,”الدولة العميقة“,”، بل ناصبوها العداء صراحة، متصورين أنهم باستقطاب وزير أو رئيس أو مدير لهذه المؤسسة أو تلك فإنه سيقدم فروض الولاء والطاعة لمن عينوه، وفاتهم أن تلك المؤسسات أكبر من قادتها؛ إذ تترسخ فيها تقاليد وأعراف تُجبر قادتها على الاستماع لرجال الصفين الأول والثاني، فضلاً عن القاعدة العريضة، وإلا سيجد نفسه يسير عكس المنظومة، التي يمكنها أن تُهمشه أو حتى تلفظه. يتخيل بعض قادة الإخوان أنه بوسعهم الضغط الشعبي، والتلويح بالعنف، وصولاً إلى الاحتراب الأهلي والفوضى، ولا يدركون أن هناك عدة خطط لكافة الاحتمالات، وأن ثمن التورط في العنف سيكلفهم وجودهم في المجتمع، فبعد أن خسروا السلطة، عليهم أن يفكروا بكل حكمة، وأن يضعوا نصب عيونهم مخاطر وجود جماعتهم، وبالطبع لا أتحدث هنا عن مصالح مصر الإستراتيجية، التي يراها الإخوان على نحوٍ عقائدي ومن منظور أممي، يعتبر الوطن مجرد “,”سكن“,”، والوطنية “,”وثنية“,”، وهو ما تحدث عنه سيدهم وقطبهم في معالمه. السؤال الأكثر إلحاحًا الآن ألا ننظر للخلف، فقد طويت تلك الصفحات، ويكفينا منها استلهام العبرة فحسب، لكن المعضلة هي التوافق بعدما بلغ الانقسام والاستقطاب مداه، فلم تكن مصر بحاجة إلى مصالحة وطنية كما هي الآن، فهناك ضرورة مُلحّة لتوافق الأطراف السياسية، ولو على الحد الأدنى، وهذا بحد ذاته أمر بالغ الصعوبة، فعقب انهيار نظام حكم الإخوان وهي ترفع سقف مطالبها السياسية، وتتعمد التصعيد على شتى المسارات وفي مختلف الاتجاهات، على النحو التالي: - إشاعة الفوضى والمواجهات الدامية مع الأمن أو خصومهم السياسيين. - شنّ حرب نفسية ضد الجيش واستنزافه في عمليات إرهابية، خاصة في سيناء. - شق الصف الوطني وتعميق الاستقطاب السياسي. - التحرك دوليًا عبر عدة قنوات لتشويه النظام الجديد. حاليًّا أرى ضرورة استلهام حملة “,”تمرد“,”، فقد نجحت بحشد الناس بفضل وحدة الصف؛ لأن عناصرها من شتى المشارب، إلا أنه بسقوط مرسي أمسى الحفاظ على التوافق شبه مستحيل، لكن منذ ثورة 25 يناير اكتسبت القوى الثورية المدنية خبرات سياسية وتنظيمية، وأتقنوا الحشد وإجادة تقدير المواقف والتوازنات، وأعتقد أنه ينبغي على كافة القوى المدنية أن تتكاتف، وتُنحي خلافاتها ويتخلى البعض عن “,”تورم الذات“,”؛ حتى يتسنى للمصريين بناء دولة تتسع للجميع، وتتجاوز الأزمة . أما عن الإخوان فأمرهم بأياديهم، وأمامهم طريقان لا ثالث لهما: إما الانخراط في العملية السياسية من خلال حزب لا يختطف المسجد ويحتكر الدين، بل يمارس السياسة بقواعدها المعتبرة، التي لا تزيف وعي البسطاء ولا تشتري ذمتهم، ولا تصور خصومها باعتبارهم “,”كفارًا وملحدين“,”، ويفصلون بشكل قاطع بين “,”الجماعة“,” و“,”الحزب“,”، فهناك تداخل كان سببًا لفشل تجربة حكمهم، ولا يكفي إنكار ذلك لنصدق عدم وجوده، وفي هذه الحالة يدخل الإخوان السياق السياسي كفصيل في المشهد السياسي، ولا تنقصها الخبرات ولا التمويل ولا الحشد، فهذا هو الخيار الأفضل لهم بتقديري. المسار الآخر هو الانتكاس للداخل والعودة لما بعد 1954؛ بالعمل السّري، واستخدام الجماعات والتنظيمات الإرهابية لضرب الاستقرار السياسي والاجتماعي، على أمل القفز مرة أخرى على مقاليد السلطة عبر سيناريوهات عتيقة، لا ترى المتغيرات التي طالت المجتمع المصري كله، بمن فيهم أبناء الإخوان أنفسهم، خاصة الجيل الشاب الذي طالما كان يجهر بالشكوى من شيخوخة الجماعة وقادتها، ويبقى القرار بيد هؤلاء “,”الشائخين“,” في الجماعة، الذين لا أعول عليهم، بقدر ما أتمنى أن يخرج شباب الجماعة على أساليب مكتب الإرشاد التي عفى عليها الدهر. والله المستعان. [email protected]