يُعد كتاب «النظام السياسى فى المجتمعات المتغيرة» الصادر عام 1968 للمفكر الأمريكى صامويل هنتنجنون، من أهم الكتب التى تطرَّقت إلى مسألة الجماهير، لأن هذا الكتاب كان ينظر إلى السلوك السياسى للسلطة فى سياق علم الاجتماع السياسى وحالة الجماهير، وبالتالى هو مرجع مهم فى أدبيات التنمية السياسية، حيث أكد هنتنجنون أن الحركة الاجتماعية وحالة الجماهير تتطلب تغيرات فى طموحات الأفراد والجماعات وهذا يختلف عن التغيرات فى القدرات التى تؤدِّى إلى عملية تحديث المجتمعات، لأن النظام السياسى الحديث لا يحتاج إلى مشاركة سياسية تعبّر عن حالة جماهيرية، بل تعبير السلطة عن علاقات الأفراد والجماعات. وفى واقع الأمر أن فكرة الجماهير هى فكرة غير ديمقراطية، لأن المجتمع الجماهيرى تسوده قيم شعبوية وتحكمه المشاعر الأيديولوجية سواء الدينية أو القومية، ولعل الحالة المعبرة عن ذلك التوصيف هى الحالة المصرية، فنحن الآن فى مصر نعيش حالة المجتمع الجماهيرى الذى لا تسوده إلا القيم الشعبوية التى تقوم على مفاهيم المعنى المباشر للرمز السياسى دون إدراك الرسائل السياسية للنظام، والمجتمع الجماهيرى هو المجتمع الذى تختفى فيه الفروق الفردية للأفراد تدريجيًّا لدرجة تنميط أفراده فى شتى المجالات ويتلاشى فيه التنوع الناتج عن التمايز بين الأفراد، اعتبارًا للكفاءة فى صالح التميز الناتج عن الحشد الأيديولوجى وحالة التعبئة المفرغة من أى مضامين حقيقية ليس لها أى مؤشرات أو وقائع ملموسة. والمجتمع الجماهيرى كحالة مصر هو المجتمع الذى يكون الاتصال فيه بينه وبين السلطة عن طريق أدوات إعلامية بمعنى أنه اتصال رمزى لا يعبّر إلا عن حالة تعبئة سواء بتأييد أو بتشويه دون طرح نقدى للقضايا والمشكلات، والمجتمع الجماهيرى هو ذلك المجتمع الذى يقوم فيه الشخص المرسل «الإعلامى» بمخاطبة الرأى العام فى شتى القضايا دون فهم وإدراك لأىٍّ من القضايا، ويعبِّر عن حالة الحوار بالمواجهة. والمجتمع الجماهيرى هو المجتمع الذى تعمل فيه السلطة فى إطار سعيها لممارسة الحكم، سواء بشكل ديمقراطى أو بشكل تسلّطى على خلق إطار مثالى فكرى يساعدها فى تمرير السياسات، واستمرار هذا الإطار المثالى للأفكار الذى قد يكون غير موجود أصلًا يعمل على توحيد خطاب للسلطة وعدم طرحها لأى رؤى مستقبلية جديدة قد تكون بمثابة طوق النجاة والحل، لأن هذا الطرح قد يضع السلطة فى حرج لأنها خلقت ضد هذا الطرح قناعات لدى الجماهير مبنية على شيطنة الفكرة فى السابق فى إطار فهم الجماهير بأن هذا الأفضل وهذا الأجدر ولا يوجد سواه، وبالتالى فى المجتمع الجماهيرى بدلًا من أن تكون الدولة هى المنظم الأعلى والأول للتفاعل بين الجماعات الفردية من أجل هدف الصالح العام الذى يحقّق الحد الأدنى من التوافق العام ويحمى حقوق وحريات الأفراد ويجعلهم مرتبطين بفكرة القوانين التى تحدّد السلوك بين كل الأفراد من جهة والمؤسسات من جهة أخرى، وبالتالى يؤمن هؤلاء الأفراد بأن السلطة لها قدرة على التأثير من حيث القدرة على الإقناع لفعل شىء أو الإجبار لفعل الشىء ذاته. وبالتالى الأزمة هنا أنه لا بد أن خطاب السلطة يعبّر عن حركة مطالب قد تكون متناقضة لجماعات فردية مختلفة، ولكن فى إطار يعبّر عن علاقات الكفاءة مما يسهم فى عملية تحديث المجتمع، لأن المجتمع السياسى لأى دولة هو تعبير عن أنماط مختلفة من الأفراد والجماعات لوجود السلطة. والمجتمع الجماهيرى كحالة مصر هو المجتمع الذى تكون النخبة فيه دائمًا تقدم صياغات مطلقة واسعة النطاق لشتى المجالات ثم يقيسون الإنجاز فى الواقع منسوب إلى هذا الإطلاق، بمعنى البدء من زاوية أن الأزمة فى الواقع لا فى الأفكار، وبالتالى غالبية النخبة فى المجتمع الجماهيرى تتحرَّك فى إطار محدود من الأفكار قد لا يعبر عن الواقع ولا يمت له بصلة ولكن فى الوقت ذاته لا يقبلون أى طرح آخر، والمجتمع الجماهيرى هو المجتمع الذى يعرف الفرد فيه نفسه بالتضاد مع الآخر لا بالتمايز عنه أو حتى بالاختلاف معه أو الحوار من أجل فهم لماذا نحن مختلفون؟ والمجتمع الجماهيرى هو مجتمع الحاجات الأساسية يقود الطلب فيه العرض لا العكس، لأنه مجتمع تنصب مطالبه الأولى على إشباع الحاجات الأساسية وبالتالى يسبق الاحتياج لديه القدرة على الإشباع، لأنه ليس واردًا فى إدراكه فكرة الموارد. والمجتمع الجماهيرى هو مجتمع الأزمة لأن الجماهير دائمًا تعبِّر عن وعى غير نقدى، بل تعبِّر عن وعى ساذج قائم على تسطيح التفكير فى الوقائع الحياتية اليومية والاتجاه نحو التجمهر والتأييد غير المتعقل والتصديق بخطاب السلطة دون التفكير فيه بمؤشرات واقعية، وهو مجتمع ينظر إلى القضايا السياسية على أنها مسألة حدية قائمة على فرضية أو لا يدرك أن كل شىء قد يكون صوابًا بنسب وخطأ بنسب، الأمر الذى يسهم فى تشويه إدراك غالبية أفراد المجتمع وتكوين وعى مشوه وخلق حالة من الصراع بين مواطنيه قائمة على المواجهة لا الحوار.