"آمنت منذ بدأت بمقولة: اكتب عن ما تعرف، فقد جعلت مصادري تجاربي في الحياة بالمعنى الواسع لا الشخصي فقط، الأمر الذي يجعلني وأنا أحلق أستعيد حياتي، كأني استنقذتها من النسيان كما يقول الكاتب المصري القديم: ما يكتب يخلد، وهذا التحليق والتأمل يجعلني أصير غيري، فلابد من قشر طبقات هذا اللحاء والبدء من جديد، إذا كان لنا أن نكتب مرة أخرى!". هكذا يقول الشاعر الكبير محمد فريد أبو سعدة الذي فاز مؤخرًا بجائزة "التفوق" فرع الآداب، "أبو سعدة" المولود في عام 1946 أصدر اثني عشر ديوانًا وخمس مسرحيات شعرية وكتبًا للأطفال، وقد شهدت تجربته تراوحات بين التفعيلة وقصيدة النثر، ومن دواوينه: "السفر إلى منابت الأنهار وردة القيظ الغزالة تقفز في النهر جليس لمحتضر مكاشفتي لشيخ الوقت ذاكرة الوعل" ومن مسرحياته: "مساء ثقيل روليت عائلي حيوانات الليل ليلة السهروردي الأخيرة". حصل على عديد من الجوائز، منها جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1993، وجائزة اتحاد الكتاب عام 2003 تُرجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية. وهو أيضًا فنان تشكيلي. وعن بداياته يقول أبو سعدة: بدأت بشكل جدي بقصيدة التفعيلة باعتبار أن محاولاتي في الصبا الباكر في القصيدة العمودية أكثر هشاشة، ولا يعول عليها، بل يمكن القول إنها لم تكن سوى تدريبات في استيعاب اللغة الشعرية، وتمرينات في القبض على الموسيقى، وقنص الإيقاع بالمعنى العروضي هنا إذ سرعان ما تماهيت مع حساسية الشعر الحر، قبل أن يستقر على اسمه الحالي "شعر التفعيلة" وبدأت تجربتي وتوالت دواويني الأربعة الأولى في إطار جمالياته ورؤاه". هكذا بدأت تجربتي لكنها لم تنته بقصيدة النثر! فالديوان الأخير "أنا صرتُ غيري" الصادر في يناير 2013 كله من قصائد التفعيلة. وحتى عندما تعددت دواويني في جماليات ورؤى قصيدة النثر، يرى القارئ أن ديواني "ذاكرة الوعل" و"مكاشفتي لشيخ الوقت" كانا على مستوى الموسيقى والتشكيل حوارًا بين جماليات السرد الشعري وأيقونية قصيدة التفعيلة. اعتبر صدور أعماله عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في عدة مجلدات ليست "الأعمال الكاملة" له بالمعنى الكلاسيكي الشائع، إنما هي فقط "أعماله الشعرية المشتملة على كل دواوينه". وقال أبو سعدة: "أعمالي الشعرية الصادرة، تتضمن دواويني ال 12التي صدرت حتى الآن، وهي: السفرُ إلى منابتِ الأنهار، وردة للطواسين، الغزالةُ تقفزُ في النار، وردةُ القيظ، ذاكرةُ الوعل، طائرُ الكحول، معلّقة بشص، جليسٌ لمحتضر، سماءٌ على طاولة، سيرةٌ ذاتيةٌ لملاك، مكاشفتي لشيخ الوقت، أنا صرتُ غيري". ولذا، يقول أبو سعدة، كان اسم السلسلة "الأعمال الشعرية الكاملة"، مما يعنى أنها لا تتضمن الأعمال المسرحية، ولا كتب قصص الأطفال، ولا المقالات والمقاربات النقدية. يقول:"القليلون من جيلي من حظي بفرصة إعادة طبع ديوان من دواوينه! بالنسبة لي مثلا، لم تتم إعادة طبع سوى "جليسٌ لمحتضر" في مكتبة الأسرة، وبالتالي فإن كثيرين من القراء لم يطالعوا بالقطع دواويني الخمسة الأولى، على سبيل المثال من هم في سن العشرين الآن. "وأشعر ببعض السرور لعدة أسباب، منها إتاحة أعمالي كاملة لهم، وإتاحتها أيضا أمام النقاد كتجربة كاملة ابتداء من "السفر إلى منابت الأنهار" 1985، حتى "أنا صرت غيري" 2012، أي خلال 28 عاما تقريبًا". الشاعر والأطفال عن كتابته للأطفال يقول الشاعر، في كتابتي للأطفال أمارس طفولتي، ألعب، وأعتمد على مخيلتي، أنقب فيها، وأستعيد من خلالها قدرتي على الدهشة، أستعيد قدرتي على الوقوع على بكارة العالم، وأمارس التمرد والانفلات من التقنين والتعليب والتصورات السابقة، أنا أتحرر بالكتابة، وأوعز للطفل القارئ أن يتحرر أيضا، وأن يكوّن تصوّره الخاص عن الواقع في حياته اليومية، عن المكان والآخر، عن علاقات البشر من حوله، وما يراه جديرًا بالتغيير. هو شاعر متعدد المواهب، تجلى الفن لديه ليس في لوحات مرسومة بالفرشاة والألوان فقط بل في مجموعة من "البورتريهات" التي كتبها عن شخصيات اقترب منها. سافر إلى السعودية، في فترة السادات وعن تلك الفترة يقول: بعد "هياج " السادات ضد معارضيه، وإغلاقه المجلات والمنابر الثقافية، ومطاردة أجهزة الأمن للتيارات الفاعلة، خاصة بعد انتفاضة يناير 1977، وتوقيع كامب ديفيد خرج المثقفون إلى المنافي الاختيارية، خرجوا إلى العراق وفرنسا وأوربا ودول الخليج. بعد معاهدة "كامب ديفيد" فقدت القدرة على الكتابة، ولم أدر ماذا أقول لمدة ثلاث سنوات، وكان الحل هو ترك مصر التي كانت الأحداث فيها غير محتملة. ولذلك وفي يونيو عام 1982أي بعد 8 شهور من اغتيال السادات سافرت إلى السعودية، التي سبقني إليها صديقي الشاعر محمد صالح، والشاعر بدر توفيق، والقاص سعيد الكفراوي، والإعلامي كمال ممدوح حمدي، وآخرون، ذهبت إلى "جدة" للعمل مخرجًا فنيًا في جريدة "المدينة". الثورة والشعر عن رأيه في الثورة يؤكد: الثورة لم تشتعل في 25يناير كما نظن، الثورة بدأت من عام 1972، كانت مثل الجمر المتقد تحت الرماد. الثورة كانت مستمرة منذ السبعينيات، منذ الحركة الطلابية، وكذلك الاحتجاجات والتظاهرات التي شهدناها. وإنما في الفترة الأخيرة أصبح الضغط الذي تمارسه السلطة أشد مما يحتمله أحد، إضافة إلى دخول الشباب باعتبارهم عنصرًا جديدًا، وكان ذلك هو المفاجئ، فهذا الشباب ضحّى بنفسه من أجل قضيته العادلة، وتلك كانت المفاجأة الحقيقية، فالمجد لهذا الجيل، لشهدائه ولمصابيه. ولابد أن نتذكّر أنه قبل الثورة وفي عام 2008 تحديدًا قيل لأول مرة "يسقط حسني مبارك" في مدينة المحلة الكبرى أثناء احتجاجات 6 إبرايل، وأصبح الرهان بالدم والروح من أجل تحقيق المطالب وهذا ما حاولت قوله في ديواني الأخير" أنا صرت غيري". الشاعر والشعراء عن لجوئه إلى قصيدة النثر يقول: ربما كان اللجوء إلى قصيدة النثر محاولة لاستعادة هذه الموسيقى التي هي قرينة باللغة العربية، كما قال العقاد بحق، إلا أني عند الكتابة لا أقرر ماذا سأكتب أو كيف سأكتب، قصيدة نثر أو تفعيلة، بل أقتنص الصوت الذي يرافق المعنى الذي يفور داخلى، وأمضي مع الموسيقى التي تولدها الأصوات المبهمة وهى تحاول أن تتكلم!!. ولذلك ربما تضمّنت بعض دواويني عددًا من قصائد النثر ولم يلحظ أحد في ديوان "وردة القيظ" به ثلاث قصائد نثر. وأستخدم في قصائدي البنية الحكائية البسيطة، مستخدمًا الكناية والتورية جاعلًا للنص ظاهرًا وباطنًا، فيؤدى النص معنى للعامة ويؤدي معنى للخاصة في نفس الوقت، يدعو إلى التأمل.. لقد علّمتني السينما تكوين المشهد، وعلّمني المسرح الإيقاع، وعلمتني الرواية الحكي، وعلّمني الشطح الدهشة، وعلّمتني الطبيعة الصامتة (في الفن التشكيلي) الاقتصاد فتكون القصيدة جزءًا من المشهد المسرحي، والمقطع كادر سينمائي، واكتفت اللغة بتصوير الحدث البصري بالعين المندهشة، في محاولة للوصول إلى الحدس البصري. وحين أكتب قصيدة – يواصل الشاعر – أتخيل الشعر امرأة تقودني كضرير فأرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون. لقد قادتني خلال تجربتي كلها حاستا السمع والبصر وكنت أعتقد أن الشعر تشكيل جمالي للزمن عبر تقطيعه بالصوت، وتشكيل جمالي للمكان عبر الصورة، أي ما يسمي الآن بالسينوغرافيا مضافًا اليها إيقاع الصوت. كنت أرى أن اكتشاف صورة شعرية تزاوج بين الألفة والدهشة والبصر والبصيرة هي مهمة شعرية بامتياز وهي كذلك بالطبع، ولكنها لم تعد كل شيء. فنون الشعر كان مولعًا بالسينما، ولا ينكر حبه لها، فيعبر عن ذلك قائلًا: كنت مولعًا بالسينما بل وحلمت أن أكون مخرجًا فقد سحرتني منذ صباي الباكر بهذه اللغة التي كأنها الخيال دون ترجمة، سحرني الإيقاع الذي تمضي به المشاهد: السرعة والبطء، القطع والمزج، القرب والبعد، الصمت والايماءة، الموسيقى والكلام وكان السؤال الذي أرقني منذ بدأت الشعر: هل يمكن للشعر أن يغتني ويتسع عبر هذه الجماليات؟. يتابع: كنت رسامًا ( تخرجت من كلية الفنون) أحلم بالقصيدة التي تقول نفسها كما تفعل الأيقونة أو كما تفعل لوحة الطبيعة الصامتة دون تعليق يضطر اليه الشاعر فيبدو كلامًا فائضًا عن الحاجة! هذه بعض المؤثرات التي شكلت تجربتي. هاجم كذلك أبو سعدة لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة، قائلًا: كنا محاصرين بشيوخ لم يكتبوا أو يقرأوا منذ أكثر من عشرين عامًا. آخر ما يتذكرونه هو أمل دنقل الذي قفل على أصابعهم الباب ومضى. بذلنا جهدًا كبيرًا بالفعل لكن الأسوأ ظل مع هذا قائمًا. كسبنا معركة التصويت على القرارات لكننا خسرنا معركة عمل مضبطة للجلسات لمعرفة تحفظات أو اعتراضات الأعضاء على هذا الأمر أو ذاك مما جعلنا نبدو في عيون الآخرين وكأننا شلة واحدة من البيض الفاسد. هناك مشاريع كثيرة توقفت لأنها مع التصويت تخسر أمام أغلبية محافظة، مثلًا ترجمة نصوص من الشعر المصري المعاصر بالاتفاق مع دار نشر أوربية أو إقامة مؤتمر لقصيدة النثر أو إصدار مجلة فصلية عن اللجنة أو ترشيح شعراء من خارج اللجنة لتمثيل الشعر المصري في المهرجانات الدولية. لقد كان آخر ما اقترحناه هو ألا يستمر شاعر في اللجنة أكثر من دورة أو دورتين لضمان تجديد التمثيل الشعري، أعتقد أن تمثيلًا عدديًا متساويًا لتيارات الشعر الثلاثة والمواءمة في كل تيار بين الأجيال الفاعلة فيه يمكن أن تكون نقطة البداية في إصلاح جذري للجنة الشعر. وفي فريد أبو سعده الذي مر بوعكة صحية مؤخرا دفعت العديد من الفنانون التشكيليون ليرسموا فيه وله اللواحات والشعراء لينظموا فيه العديد من القصائد منها ما كتبه الشاعر مفرح كريم وقال في قصيدة لأبو سعدة: رأيتك تختبئ خلف فروع الشعر وتعرج للبهاء بكل التفاعيل وأنا أهتف في المرايا: رأيتك فانتصر للشمس الآتية من ضحتك الرنانة وخبرنى عن سمات الفرح فهل أبصرت - في السماء الشعرية - قلبى يرسم لك برتقالا وتفاحا، فهل قضمت التفاحة الأولى ؟! فالليل ينتظر الإجابة لعله يتغطى بالقبلات ويرش على جسد الحبيبة بصمات شفاهك، فلا تمعن في الغياب وهات لنا مهرجان الحياة فأنت فريد في ثنايا العشق، ونحن مازلنا نلعب