لا يأمر الإسلام بالقتل، ولا يقر الاغتيال والاعتداء على الآمنين. تعاليم الإسلام السامية الراسخة تقدس النفس البشرية، وتحقن دماء المسلمين وغير المسلمين، إلا بالحق، ووفق قواعد لا مجال فيها للاجتهاد والتأويل. ليس من حق الإخوان المسلمين أن يتمسحوا بالإسلام لتبرير جرائمهم وفظائعهم، وليس من حقهم أن يدّعوا احتكار فهم الدين الحنيف والتحدث باسمه دون غيرهم من الملايين، الذين لا يؤمنون بدعوتهم: “,”لم يأت هذا الشر الذي تشقى به مصر الآن من طبيعة المصريين؛ لأنها في نفسها خيرة، ولا من طبيعة الإسلام؛ لأنه أسمح وأطهر من ذلك، والخير كل الخير هو أن نطب لهذا الوباء كما نطب لغيره من الأوبئة التي تجتاح الشعوب بين حين وحين، وقد تعلم الناس كيف يطبون الأوبئة التي تجتاح الأجسام وتدفعها إلى الموت دفعًا. فمتى يتعلمون الطب لهذا الوباء الذي يجتاح النفوس والقلوب والعقول فيغريها بالشر ويدفعها إلى نشره وإذاعته ويملأ الأرض بها فسادًا وجورا؟ “,” داء وبيل يحتاج إلى دواء ناجع، وعلة خطيرة تحتاج إلى طبيب بارع يقي الناس من شر الفتنة. لغة العنف مستهجنة مرفوضة، والبديل المنطقي الوحيد هو الحوار وإعمال العقل والاحتكام إلى المنطق. إن حياة الإنسان ليست رخيصة تباع بالثمن البخس، والسعي إلى اغتيال جمال عبدالناصر لن يحقق تقدمًا يسعد به الشعب ويرقى، لكنه يفضى إلى النقيض من ذلك تمامًا . الفاسدون والمفسدون المقال الثاني للدكتور طه حسين يحمل عنوان “,”فتنة“,”، ويبدأ بإطلالة تحليلية لتأمل ما جرى في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952، والتركيز كله على التطلع إلى الاستقلال والجلاء، ومراودة أحلام التنمية والصعود الحضاري، والسعي إلى حياة أفضل يسودها العدل والسلام، وينعم فيها الإنسان المصري، الذي طال حرمانه، بثمرات السلام والاستقرار . الراشدون من أبناء مصر يتطلعون إلى المستقبل، والفاسدون المفسدون وحدهم يأبون ذلك ويقاومونه، وليت أنهم يفعلون بالحوار والحسنى، وبالحجة والمنطق، لكنهم يشهرون السلاح: “,”الراشدون من أبناء مصر يرقبون وطنهم معلقين بين الخوف والرجاء، والعالم الخارجي الحديث يرقب مصر من قرب، منه من يشجعها ويتمنى لها النجاح، ومنه من يضيق بها ويتمنى لها الإخفاق ويتربص بها الدوائر ويبث في سبيلها المصاعب والعقبات. وفريق من أبنائها المحمقين لا يحفلون بشيء من هذا كله ولا يرقبون في وطنهم ولا في أنفسهم ولا في أبنائهم وأحفادهم إلاًّ ولا ذمة، ولا يقدرون حقًّا ولا واجبًا، ولا يرعون ما أمر به الله أن يُرعى ولا يصلون ما أمر الله أن يوصل، وإنما يركبون رءوسهم ويكبون على وجوههم هائمين لا يعرفون ما يأتون ولا يدعون ولا يفكرون فيما يقدمون عليه من الأمر ولا فيما قد يورطون فيه وطنهم من الأهوال الجسام. والحمد لله على أن هذا الكيد الذي كيد قد رد في نحور كائديه فلم تلق مصر منه شرًّا، وإنما كان امتحانًا مرًّا ثقيلاً محضًا خرجت منه ظافرة مطمئنة إلى أن الله يرعاها“,” . ويحمل الدكتور طه حسين على قصر نظر الإخوان المسلمين واستهانتهم الفادحة الفاضحة بما قد يترتب على فعلتهم من نتائج وخيمة: “,”لم يفكر أولئك المجتمعون في عاقبة ما حاولوا من الأمر لو تم لهم ما دبروا أو أتيح لهم ما أرادوا. ولم يقدروا أنه الهول كل الهول والكارثة التي يعرفون أولها ولا يعرف أحد لها آخر “,”. الحرب الأهلية ويشير عميد الأدب العربي إلى بعض النتائج المترتبة على محاولة اغتيال عبدالناصر، فهو يدرك أن موته لن يكون نهاية بقدر ما هو بداية لتدهور مريع، يهدد الأمن القومى في الصميم، ويفتت الوحدة الوطنية، وينذر باشتعال حرب أهلية طاحنة: “,”وإني لأفكر في الأعقاب التي كان يمكن أن تلم بهذا الوطن لو تم للمجرمين ما دبروا فلا أكاد أثبت للتفكير فيها، فقد كان أيسر هذه الأعقاب الحرب الداخلية بين المواطنين، كان أيسر هذه الأعقاب أن يثأر الكرام من المصريين لفتى مصر، وأن يصبح بأس المصريين بينهم شديدًا، وأن يسفك بعضهم دماء بعض، وأن ينتهك بعضهم حرمات بعض، وأن يعلق النظام والقانون والأمن فترة لم يكن أحد يدرى أكانت جديرة أن تقصر أم كانت جديرة أن تطول، وأن يضيع هذا الذي ذاقت مصر في سبيله مرارة الجهاد الشاق الثقيل الطويل، وأن يفرض الأجنبي النظام والأمن على الوطن فرضًا، وأن ترجع مصر أدراجها، وتعود كما كانت منذ حين، وطنًا ذليلاً يدبر أمره غير أبنائه من الأجانب؛ لأنه لم يحسن أن يحتمل الاستقلال والحرية أيامًا معدودات، ولأن بعض أبنائه ساق الموت إلى من ساق إليهم الحياة . أهذا هو الذي كان يريده أولئك المجرمون أم هم لا يريدون شيئا، ولم يفكروا في شيء، وإنما أهمتهم أنفسهم وملكتهم شهواتهم ودفعتهم شياطينهم إلى الشر في غير تدبير ولا تقدير؟ “,” الحرب الداخلية هي الاحتمال الأرجح عند نجاح المؤامرة الإخوانية، فهل تحتاج مصر إلى مثل هذه الحرب وهل تحتمل نتائجها؟! ينقسم الشارع بين مؤيد ومعارض، وتتراجع لغة الحوار لتسود آلية الإرهاب والعنف والفوضى، وتتهيأ الظروف الموضوعية لتدخل الأجنبي وتحكمه من جديد. بعد أن كان البناء والتشييد والتقدم هو الهدف، ترد مصر من جديد إلى حلقة مفرغة لا يسهل الخروج منها، ويُقال –كما قيل من قبل– إننا غير قادرين على تحمل تبعات الاستقلال، وإن الشعب المصري بعيد عن التحضر، ولا يستحق نعمة الحرية والحكم الوطني ! أهذا ما يريده الإخوان المسلمون؟ أم أن تفكيرهم لم يتجاوز شهوة استعراض القوة والانتقام الثأري غير المحسوب؟ لا تدبير عندهم ولا تقدير، فهم قصيرو النظر، يتلهفون إلى السلطة ولو جاءت عروشهم الزائفة الوهمية فوق الخرائب والأطلال ! هل ينتصحون؟ ماذا عن المستقبل؟ ! يقول طه حسين: “,”عليهم أن يطهروا قلوبهم من الحقد والضغينة، وأن ينسوا منافعهم القريبة الصغيرة ويذكروا منافع وطنهم الخطيرة البعيدة، وأن ينظروا إلى الحياة على أنها جد لا لعب، وإلى الواجب الوطني على أنه عمل لا قول، وأن يستقبلوا الاستقلال على أنه مولد جديد لوطنهم يخرجهم من ذلة إلى عزة ومن هوان إلى كرامة ومن ظلمة إلى نور. عليهم أن يحيوا منذ الآن حياة صحيحة خيرًا من حياتهم تلك التي كانوا يحيونها، وإن كانت أشد الأشياء شبهًا بالموت؛ لأن أمورهم فيها لم تكن إليهم وإنما كانت إلى غيرهم يدبرونها لهم كما يدبرون هم حياة ما يملكون من الأدوات والأنعام. وهذا كله يفرض عليهم أن يتعاونوا على الخير والبر والمعروف، وأن ينفوا الخبث عن وطنهم وينزهوا أسماعهم عما يُلقى إليها من مقالات السوء، وأن يطهروا قلوبهم مما يُلقى فيها من كيد الشياطين، وأن يصفوا نفوسهم من كدر الذلة والخضوع والنفاق “,”. النصيحة الثمينة الغالية للشعب المصري كله، وليست للإخوان وحدهم. هيهات أن يسمع الإخوان أو يفكروا في الاستماع، فالمصلحة السياسية هدفهم الوحيد، والسلطة حلمهم، والرؤية الموضوعية غائبة عن قادتهم، والتعصب عقيدتهم، وتوهم احتكار الفهم الوحيد الصحيح للإسلام هو علتهم التي لا شفاء منها . ينهي طه حسين مقاله الممتع العميق بقوله: “,”فليحذر المصريون أن يتعرضوا لمثل هذا الشر، وليذكر المصريون أن الله يحرم عليهم دماءهم وأنفسهم إلا بالحق، وأن الله يأمرهم بالعدل والإحسان وينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأن الله يأمرهم أن يجزوا الإحسان بالإحسان وينهاهم عن العقوق والجحود والغدر، وينذرهم بأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله “,”. يهرول المصريون بعيدًا عن الشر، لكن الإخوان المسلمين لا تكتمل متعتهم إلا بتكرار الأخطاء والخطايا! .