كانت مصر أكرم على الله من أن يرد ابتهاجها إلى ابتئاس، وسرورها إلى حزن، ومن أن يحيل أعيادها البيض إلى أيام حداد سود، ومن أن يجزى الخير بالشر والإحسان بالإساءة والمعروف بالمنكر، ومن أن يكافئ الوفاء بالغدر، والإخلاص بالخيانة كما ينظر إليها الآن، فهي على بعد عهدها بالتاريخ وارتفاع قدرها فيه، وضخامة حظها من المجد في العصور البعيدة حين كانت الإنسانية في أول الشباب، وفى القرون الوسطى حين كانت البلاد الإسلامية تتعرض للمحن والخطوب. هي على هذا كله دولة ناشئة في هذه الحياة الجديدة التي تحياها الإنسانية . تجرب الاستقلال للمرة الأولى بعد أن خضعت لسلطان الأجنبى الخارجي دهرا طويلا، وبعد أن حكمها غير أبنائها دهرا أطول وأثقل. والعالم يرقبها ليرى كيف تنهض بأعبائها الجديدة وكيف تلائم بين ماض خطير ومستقبل تصوره لها الأمانى والآمال رائعا مجيدا. والعالم يرقبها ليرى هل نسبت ما ألفت النهوض، والأعباء الثقال، والقيام بجلائل الاعمال، ومحاولة الأمور العظام فى غير ضعف ولا وهن؛ فى غير تردد ولا تلكؤ، أم هى لا تزال كما عرفها التاريخ محتفظة بقوتها كلها، وجهدها كله، وقدرتها على التمرس، وبما يمرض لها عظائم الأحداث خيرها وشرها، والعالم يراقبها ليرى أقادرة هي حقا على أن تنتفع بما يتاح لها من الحرية، والاستقلال، وتنفع بهما الناس، وعلى أن تشارك في تنمية الحضارة، وتذكية جذوة الثقافة، والانتقال بالإنسانية إلى طور خير من هذا الطور الذى نعيش فيه، وإلى حياة خير من هذه الحياة التى تحياها، أم هى جاهلية غافلة قاصرة مقصورة تتلقى الاستقلال على أنه لعبة تلهو بها، وعلى أن حديث لا يغير من رأيها فى نفسها ولا من رأي الناس فيها قليلا ولا كثيرا. وتتلقاه لنظل بعده كما كانت قبله عيالا على غيرها من الأمم التى تعرف الحق وتنهض بأثقاله تأخذ ولا تعطى، تسمع ولا تقول، وتذعن كما يراد بها من الامر دون أن يكون لها فى الأمر شئ ، والعالم لا يراقبها وحده وإنما يراقبها معه الراشدون من أبنائها، وهم على قلتهم قد امتلأت قلوبهم رضي عن الماضي البعيد، وسخطا على الحاضر القريب، وأملا في المستقبل الذي ستكشف عنه الأيام، وهم معلقون بين الخوف والرجاء، يتمنون من أعماق نفوسهم أن يكون وطنهم كريما على نفسه، ليكون كريما على الناس معتدا بقديمه ليعتز بحديثه؛ قادرا على أن يتلقى فى قوة، وحزم، وعزم، ومضاء؛ ما أوتى من الاستقلال، ليتدارك به ما أضاع عليه الاستعمار، وليصلح به ما أفسدت عليه الأيام، وليجدد نفسه حق تجديدها ويستقبل الحياة الحديثة عزيزا كريما أبيا للضيم، منتفعا بالتجارب مشاركا فيما يعرض للإنسانية من الخطوب والأحداث. يتمنون هذا كله من أعماق نفوسهم، ويشفقون أشد الإشفاق أن تحول أثقال الماضى الملئ بالظلم، والذل، وبالخوف، والحرمان، وبالشقا،ء والبؤس؛ بين هذا الوطن وبين ما ينبغى له من النهوض بتكاليف الحياة الحديثة، وأن يشغل نفسه بصغائر الأمور عن عظامها، وبسخف الحياة عن جدها، وبهذا العبث الذى اضطر اليه دهرا طويلا عن الجد الذى يدعى إليه ويدفع إليه دفعا. الراشدون من أبناء مصر يراقبون وطنهم معلقين بين الخوف، والرجاء، والعالم الخارجى الحديث يراقب مصر من قرب منه من يشجعها ويتمنى لها النجاح، ومنه من يضيق بها، ويتمنى لها الإخفاق، ويتربص بها الدوائر، ويبث في سبيلها المصاعب والعقبات، وفريق من أبنائها المحمقين لا يحفلون بشئ من هذا كله، ولا يراقبون وطنهم، ولا أنفسهم، ولا أبنائهم، ولا أحفادهم، إلا ولا ذمة، ولا يقدرون حقا ولا واجب، ولا يراعون ما أمر الله أن يراعى، ولا يَصِلون ما أمر الله أن يوصل؛ وإنما يركبون رؤوسهم، ويمضون على وجوههم هائمين، لا يعرفون ما يتأتون، ولا ما يدعون، ولا يفكرون فيما يقدمون عليه من الأمر ولا فيما قد يورطون فيه وطنهم من الأهوال الجسام. والحمد لله عفى أن هذا الكيد الذي كيد قد رد في نحر كائديه، فلم تلق مصر منه شرا، وإنما كان امتحانا مرا ثقيلا ممضا، خرجت منه ظافرة مطمئنة إلى أن الله يرعاها وأن مصر بعض ابنائها فى رعايتها. لم يفكر اولئك المحمقون فى عاقبة ما حاولوا من الأمر (حادثة المنشية) لو تم لهم ما دبروا، أو ما اتيح لهم ما ارادوا، ولم يقدروا انه الهول كل الهول من الكارثة التي يعرفون أولها ولا يعرف أحد لها أخرا. كان رئيس الوزراء (جمال عبد الناصر) مؤمنا بوطنه حين ثبت لهذا الكيد، وحين قال ما قال بعد أن صرف الله عنه الشر بتلك اللحظات القصار، فرد الأمل إلى الذين كانوا من حوله، وأشاع الثقة في الذين كانوا بعيدين عنه، وأشعر مصر بأنها أقوى من عبث الجهال وحمق المحمقين. وإني لا أفكر فى الأعقاب التي كان يمكن أن تلم بهذا الوطن لو تم المجرمين ما دبروا، فلا أكاد اثبت للتفكير فيها، فقد كان أيسر هذه الأعقاب أن يثار الكرام من المصريين لفتى مصر، وأن يصبح بأس المصريين بينهم شديدا، وأن يسفك بعضهم دماء بعض، وأن ينتهك بعضهم حرمات بعض، وأن يعلق النظام، والقانون، والأمن فترة لم يكن أحد يرى أكانت جديرة أن تقتصر أم كانت جديرة أن تطول وأن يضيع هذا الاستقلال الذى ذاقت مصر فى سبيله مرارة الجهاد الشاق الثقيل الطويل، وأن يفرض الأجنبى النظام والأمن على الوطن فرضا، وأن ترجع مصر أدراجها، وتعود كما كانت منذ حين؛ وطنا ذليلا يدبر أمره غير أبنائه من الأجانب، لأنه لم يحسن أن يحتمل الاستقلال والحرية أياما معدودات، لأن بعض أبنائه ساق الموت إلى من ساق اليهم الحياة. أهذا هو الذى كان يريده أولئك المجرمون أم أنهم لم يريدوا شيئا، ولم يفكروا فى شئ، وانما أهمتهم أنفسهم، وملكتهم شهواتهم، ودفعتهم شياطينهم؛ إلى الشر فى غير تدبير ولا تقدير. رائع من رئيس الوزراء أن يُظهر ما أظهره من القوة، والجلد، وحسن الثبات للهول، وحسن الظن بالمواطنين، والثقة بهم، وحسن الرأي فيهم، وأن يرى كل واحد من المواطنين خليق ان يحمل العبء بعده، كما حمله، وأن ينهض بالواجب كما نهض به، وأن يحرص على الكرامة كما حرص عليها. كل هذا رائع، واشد من هذا كله روعة أن يصدر عن رجل فى اللحظة التى سيق فيها الى الموت، وكان جديرا أن يبلغه لولا أن صرفه الله الذى يمسك بيده الآجال فيطيلها ان أراد، ويقصرها ان أراد، ورائع أن يسمع المواطنين من رئيس الوزراء هذا القول فيقبلوه، ويرددوه، ويملأوا به أفواههم وقلوبهم، ولكن المواطنين يخطئون أشد الخطأ وأثقله واشده نكرا إن رضوا بذلك، واطمأنت اليه قلوبهم، وقنعت به ضمائرهم، وظنوا أنهم قد نهضوا بحق وطنهم عليهم؛ لأنهم قبلوا ما قاله لهم رئيس الوزراء، وملأوا به الهواء صياحا وهتافا، وانما الحق الأول عليهم، الحق الذى لا ينبغى أن يقتصروا فيه لحظة، ولا أن تشغلهم عنه الشواغل مهما تكن هو أن يشعروا قلوبهم وضمائهم بأنهم قد مروا بلحظة من لحظات تاريخهم، أو مرت بهم لحظة كانوا فيها عبيدا أذلاء قبل ان يستمرئوا طعم الحرية التى تساق اليهم، وأن عليهم أن يحتاطوا خيرا مما دبروا إلى الآن. عليهم أن يطهروا قلوبهم من الحقد والضغينة والموجدة، وأن ينسوا منافعهم القريبة الصغيرة، ويذكروا منافع وطنهم الخطيرة البعيدة، وأن ينظروا إلى الحياة على أنها جد لا لعب، وإلى الواجب الوطنى على أنه عمل لا قول؛ وأن يستقبلوا الاستقلال على انه مولد جديد لوطنهم، يخرجوا به من ذلة إلى عزة، ومن هوان إلى كرامة، ومن ظلمة إلى نور. عليهم أن يحيوا منذ الآن حياة صحيحة خيرا من حياتهم تلك، التى كانوا يحيونها، وإن كانت أشد الأشياء شبها بالموت، لأن أمورهم فيها لم تكن إليهم، وإنما كانت إلى غيرهم، يدبرونها لهم كما يدبرون هم حياة ما يملكون من الأدوات والأنعام. وهذا كله يفرض عليهم أن يتعاونوا على الخير والبر والمعروف، وأن ينغوا الخبث عن وطنهم، وأن ينزهوا أسماعهم عما يلقى اليها من مقالات السوء، وأن يطهروا قلوبهم مما يلقى فيها من كيد الشياطين، وأن يصفوا نفوسهم من كدر الذلة والخضوع والنفاق. لقد تمثل وزير الأوقاف ببيت كان يتمثل بها علي رحمه الله حين أنبئ بأن بين قومه من كان يريد به المكروه، ويكيد له الكيد/ ويهيئ له الموت: أريد حياته ويريد قتلى*****عذيرك من خليلك من مرادي كان علي رحمه الله يريد لقومه الحياة، وكان بعضهم يريد قتله، كما أراد جمال لقومه الحياة الكريمة، فأراد بعض هؤلاء القوم أن يسوق إليه الموت لولا أن الموت بيد الله يسوقه حين يريد هو لا حين يريد الناس. وهناك بيتان آخران كان علي رحمه الله يرددهما، فيكثر ترديدهما، ومن الحق على المواطنين جميعا ان يتدبروهما أحسن التدبير، وأن يتخذهما درسا يملأ قلوبهم عظة وحذرا واحتياطا، فقد كان على رحمه الله يعرف أن خصومه من قريش كانوا يدبرون له الموت فكان يقول: تلكم قريش تمنانى لتقتلنى**** فلا وربك ما بروا ولا ظفروا فان هلكت فرهن ذمتى لهم**** بذات ودقين لا يعنو لها أثر وذات الودقين التى لا يعنو لها أثر هى الداهية، التى لا يعرف الناس متى تنقضى عواقبها. ولم يصدق شعر عربى قط كما صدق هذان البيتان، فقد قتل علي رحمه الله، وجر قتله على المسلمين شرا لم يخلصوا منه إلى الآن، فهم تفرقوا فرقا وأحزابا منذ ذلك اليوم، ولم يجتمع لهم شمل بعد. فليحذر المصريين أن يتعرضوا لمثل هذا الشر، وليذكر المصريين أن الله يحرم عليهم دمائهم وأنفسهم إلا بالحق، وأن الله يأمرهم ان يجازوا الإحسان بالإحسان، وينهاهم عن العقوق والجحود والغدر، وينذرهم بأن المر السئ لا يحيق الا بأهله. أنا بعد فإنى أجدد التهنئة خلصا لرئيس الوزراء، ولمصر العزيزة، بالنجاة من هذا الشر العظيم، وأتمنى على الله ان يلقى المحبة فى قلوب المصريين، وأن ينتزع ما فى صدورهم من غل، ويتيح لهم أن يعيشوا إخوانا يتعاونون على البر والتقوى، ولا يتعاونون على الإثم والعدوان.