أقل ما يقال عن آخر رسائل “,”سيد جماعة الإخوان المسلمين“,” أو “,”مرشدهم“,” -كما يسمونه-، أنها رسالة فتنة.. هي رسالة متناقضة وتحريضية، ليس فقط للتنكيل بالمعارضة، بل وقتلهم إذا لزم الأمر، تحت ذريعة الاستشهاد لمواجهة “,”المتربصين الذين لا يريدون خيرًا لمصر ولشعبها.. ويريدون إدخالنا فى مرحلة فراغ سياسي ومتاهة فكرية لإطالة أمد المرحلة الانتقالية ولإفشال عملية التحول الديمقراطى“,”. وقد برر المرشد مسألة استشهاد بعض إخوانه، الذين يريد فى الوقت ذاته أن يفديهم، بأن الواجب يحتم اتخاذ قرارات حاسمة مبنية على معلومات أكيدة فى مواجهة خطر يهدد البلاد، ويضيف “,”إننى على ثقة بأنكم تدركون ذلك ومستعدون للفداء والتضحية..“,”!! وبغض النظر، عن المعلومات (الأكيدة) لدى المرشد، فإنه لم يوضح لأتباعه ما هى هذه المعلومات؟ ومن يريد إفشال تجربة الإسلاميين؟ ومن أين أتى بالمعلومات؟ هل من الأجهزة الرسمية للدولة؟ أم أن لدى جماعة الإخوان أجهزة خاصة تمدها بالمعلومات (الأكيدة)، وما هي شرعية هذه الأجهزة، ولماذا تعمل فى الخفاء، بعد أن أصبحت الجماعة تملك كل شئ فى مصر، السلطة والثروة، الحكومة والمعارضة، الأحزاب والنقابات؟ وهل أصبحت المعارضة المصرية –الآن- تريد إفشال النظام؟ ألم يكونوا شركاء الميدان؟ المؤكد فى كل هذه التساؤلات أنه لا يمكن اعتبارها “,”زلة لسان“,” من فضيلته. بالرجوع إلى الخطاب الأول للمرشد فى 16 يناير 2010، حينما أعلنت الجماعة عن اختيار الدكتور محمد بديع (67 عاما) مرشدًا عامًا للجماعة خلفًا لمحمد مهدي عاكف المرشد العام السابع للجماعة، أوضح المرشد موقف الجماعة من الأنظمة الحاكمة، وبعض القضايا المثارة على الساحة كموقف الإخوان من المسيحيين والمرأة، مؤكدًا على تمسك الإخوان بمنهج الإصلاح التدريجي بالتعاون مع كل قوى الأمة المخلصة. وأكد أيضًا أنهم “,”جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين، كما يروج الذين لا يعرفون دعوة الإخوان، فالإسلام أكبر من أن تحتكره جماعة... إننا نؤمن بالتدرج في الإصلاح، وأن ذلك لا يتم إلا بأسلوب سلمي ونضال دستوري قائم على الإقناع والحوار وعدم الإكراه؛ ولذلك نرفض العنف وندينه بكل أشكاله؛ سواءً من جانب الحكومات أو من جانب الأفراد، أو الجماعات أو المؤسسات“,”. وعن موقف الجماعة من نظام مبارك أكد على أن “,”الإخوان لم يكونوا في يوم من الأيام خصومًا له.. ولا يتأخرون في توجيه النصائح وتقديم المقترحات للخروج من الأزمات المتلاحقة التي تتعرَّض لها بلادنا.. ويرى الإخوان أن المواطنة أساسها المشاركة الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات، مع بقاء المسائل الخاصة (كالأحوال الشخصية) لكل حسب شرعته ومنهاجه“,”. هذه المقتطفات من الخطاب الأول للمرشد تذكر بالمضمون والمواقف “,”وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ“,”، خاصة وأن ما جاء فى الرسالة الأخيرة، والتى نشرت فى آخر ساعات عام 2012 المنصرم، جاءت في ميعاد مختلف عن الرسائل الأسبوعية المعتادة التي تصدر يوم الخميس، واستهلها المرشد بتذكير جماعته بأن “,”مصر تمر الآن بلحظة فارقة، بعد إقرار أول دستور يكتبه المصريون بأيديهم ويقرونه بأغلبية طيبة“,” حسب تعبيره، ورغم أن المرشد انطلق في رسالته من ظرف سياسي، إلا أنه استخدم طوال رسالته تعبيرات دينية توحي بمعركة بين الحق والباطل، وليست معركة سياسية بين فرقاء وطنيين. على هذه الرسالة لدينا عدة ملاحظات: أولا: اللغة المستخدمة تحمل فى طياتها تأويلات كثيرة، ورغم أن هذه عادة الإخوان، إلا أن هذه الرسالة هى الأكثر عمومية، وكما يقول المثل الشهير “,”المعنى فى بطن الشاعر“,”، فعلى امتداد كلمات الرسالة داعب ودغدغ المرشد مشاعر جماعته باعتبارهم يملكون الحقيقة المطلقة، وهو ما كان واضحًا في قوله “,”حياة أصحاب الدعوات ليست كحياة عموم الناس الذين يسعون لحياة ناعمة هانئة مُتْرفة، فأصحاب الدعوات يُضحُّون من أجل دينهم وأوطانهم وأهليهم“,”.. وبالطبع كل هذه العبارات والإيحاءات ليس لها علاقة بالسياسة ولا بالممارسة السياسية. ثانيُا: الموقف العدائي من المعارضة، وفي تناقض واضح، تحدث المرشد عن الاختلاف السياسي وطالب “,”إخوانه“,” باحترام المختلفين معهم سياسيًا و“,”لا مكان في مصر الثورة للتخوين أو الإقصاء“,”، إلا أنه شكك في ذات الوقت في هدف وغاية المعارضين “,”غايتهم العظمى في إفشال المشروع الإسلامي وحامليه ومؤيديه، وهو ما نسعى جاهدين لمواجهته وكشفه أمام الجميع“,”، ورأى أن من يعارض جهود الجماعة يفعل ذلك “,”إما عن جهل منه بحقيقة ما تعملون أو عن حقد ورغبة في إفشال الانتقال والتحول الديمقراطي“,”. ثالثًا: استخدام الشهادة لمواجهة أمور سياسية، وهى لغة لا تستخدم إلا فى دول ثيوقراطية فقط، فحين يقول مرشدهم أن “,”إرادة الله نافذة باختيار شهداء، وإصابة مصابين فى ابتلاء رباني لمواجهة تهديدات ثورتنا.. إننى على ثقة بأنكم.. مستعدون للفداء والتضحية من أجل نهضة بلادنا“,”، يعد هذا من قبيل التلاعب بمشاعر “,”المواطنين“,” المنتمين إلى جماعة الإخوان وإقحام الدين فى السياسة، بل والتدليس وتغييب الحقيقة عنهم. رابعًا: فرض الوصاية على الشعب المصري، فحينما يتحدث المرشد عن أن ثقة الشعب أمانة ويجب على من ينالها أن يأخذها بحقها، فنحن لا نعرف ما الذي يقصده المرشد بالحديث عن ثقة الشعب، وهل منح الشعب، ونحن منهم، الثقة للمرشد، وبأى صفة، وعن أى شعب يتحدث. فلا يوجد أحد في الشعب - باستثناء جماعته بالطبع – منحه أو حمله المسئولية، ولكن يبدو أن المرشد اعتبر نفسه مرشدًا لمصر كلها، وأنه فوق الرئيس، وإن كان هذا صحيحًا من وجهة نظر الإخوان، فإنه ليس صحيحًا من وجهة نظر عموم المصريين الذين لم يختاروا المرشد أو الرئيس ذاته، وهو ما ظهر بشكل أوضح في حديث المرشد عن أن “,”الواجب يُحتِّم علينا اتخاذ قرارات حاسمة مبنيَّة على معلومات أكيدة ومتواترة نشعر معها أن خطرًا حقيقيًّا يتهدد بلادنا وأهلنا“,”، والسؤال هنا كيف وصلت هذه المعلومات إلى مرشد جماعة الإخوان المسلمين؟، ولماذا تكون متاحة له فقط هو وجماعته دون غيرهم؟، ومن هم هؤلاء الذين يتخذون هذه القرارات ويتحدث عنهم المرشد بصيغة الجمع؟، ويستطرد المرشد بعد ذلك قائلًا “,”ندعو (الله) أن يُلْهِمنا الصواب في اتخاذ كل الإجراءات بعد تطبيق الشورى بيننا.. والتيقُّن والاستيثاق من المعلومات ودراسة الواقع والأخذ بكل الأسباب المعينة عليه“,”. خامسًا: صنع القرار، يتأكد للجميع، يومًا تلو الآخر، بأن صنع القرار فى مصر لا يتم فى مؤسسة الرئاسة أو وزرات الدولة المعينة، ولكنه يتم فى مكتب الإرشاد، حيث اهتم المرشد في رسالته بوحدة الصف قائلاً أنه “,”لا مجال في هذه الأوقات الحاسمة لما من شأنه تعكير صَفْو علاقتنا وحبنا ووحدتنا، فلِينُوا في يدِ إخوانكم وأديروا شئونكم بالحبِّ فيما بينكم، وعظِّموا من وحدة صفكم“,”، وتبدو هذه العبارات محاولة لإسكات أى صوت معارض داخل الجماعة عن طريق التهديد بالخطر المحيق بالتنظيم والجماعة، وهو ما وصفه المرشد في عبارة تالية قائلًا “,”واقبلوا الأعذار وكونوا أعوانًا لإخوانكم على شياطين الإنس والجن. فغايتنا عظيمة وطريقنا طويل وشاق والتحديات كثيرة والأعداء متربصون من كل حَدَب وصوب بأمتنا وبنهضتها“,”، ومن الممكن تخيل أن يكون المرشد يقصد بأعداء الوطن أو المتربصين به شياطين الإنس، ولكن لا نعلم من هم شياطين الجن هؤلاء الذين يتحدث عنهم، وما دخلهم بالدستور وبصناعة القرار في مصر؟!