بعد أن انفردت الولاياتالمتحدةالأمريكية على مدى عقد من الزمان أو يزيد بأنها القوة الأوحد في العالم، وأنها قد انتصرت على الكتلة الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي الذي تفكك بعد أن أنهكه الصراع مع القوى الرأسمالية التي تتزعمها الولاياتالمتحدة، وألفت الكتب عن نهاية التاريخ وصراع الحضارات، إلا أنه منذ وصول الرئيس بوتين إلى الحكم في بلاد القياصرة وهو يحاول أن يعيد الثنائية العالمية حتى لا تنفرد أمريكا بقيادة العالم، لأن القيادة الأمريكية للعالم الثالث هي قيادة كارثية، وقد يطول سرد ما فعلته أمريكا بالإكوادور ونيكاراجوا وشيلي وغيرها، حيث اغتالت الزعماء الوطنية ودعمت الديكتاتورية ونهبت ثروات البلاد وأغرقتها في ديون لا حصر لها، وسوف ننقل ما كتبه –جون بركنز– وهو أمريكي يعمل مديرًا لشركة شارس تي مين في كتابه "اعترافات قاتل اقتصادي" ترجمة د. باسم أبو غزالة، يقول نحن القتلة الاقتصاديون مسئولون عن خلق هذه الإمبراطورية العالمية عن طريق البحث عن دول لها مواد تسيل لعاب شركتنا كالنفط، فتقوم بترتيب قروض ضخمة نغرق بها هذه الدول عن طريق المنظمات الخاضعة لنا كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لكن هذه القروض لا يستفيد منها الشعب لأنها تعود إلينا في صورة مجالات البحث وبناء البنية التحتية من مواني ومطارات وطرق ومجمعات صناعية تقوم شركتنا... إلخ. فهذه القيادة الانتهازية جعلت كثيرا من الشعوب والحكومات الوطنية يتمنى عودة القطب الروسي الذي غاب أكثر من عقد من الزمان، لأنه على الأقل كان يحفظ التوازنات. لعبت أمريكا في أوكرانيا عن طريق حركة "بورا" المشابهة لحركة "أتبور" في صربيا التي نجحت في الإطاحة بباقيتش وحركة "6 أبريل" في مصر التي اعترف عدد من قادتهم بأنهم عملاء تلقوا أموالًا وتدريبات على أيدي رجال من المخابرات الأمريكية والإسرائيلية منهم نجاة عبد الرحمن وغيرها، وحاولت أمريكا بأسلوبها الجديد في الحرب تصوير مظاهرات لا يتخطى عددها ال20 ألف على أنها ثورة عارمة ضد الرئيس المنتخب بطريقة ديمقراطية، لكنه موال لروسيا، وتمت الإطاحة به وهرب إلى روسيا، لأن روسيا بوتين تدرك تمامًا خطورة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، قامت بسرعة باحتلال شبه جزيرة القرم التي هي غالب سكانها من الروس المنحدرين من أصل روسي ويتحدثون اللغة الروسية، كما أن الموقع الجغرافي لشبه جزيرة القرم ذو أهمية كبيرة للأساطيل الروسية والسيطرة على الجزيرة يضمن حرية الملاحة للبحرية الروسية، وتقع شبه جزيرة القرم شمال البحر الأسود، ويحيط بها البحر الأسود من الجنوب والغرب، ويحدها شرقًا بحر أزروف ويربطها بالبر القاري سولا شريطا ضيقًا يكاد يتصل بالأراضي الروسية، كما تطل على خليج كرشينكي الذي بصل بحر أزروف بالبحر الأسود. وتبلغ مساحة شبه جزيرة القرم قرابة 26 ألف كم2 وأرضها سهلة منبسطة في أغلبها والحرفة الغالبة للسكان الزراعة وتربية الماشية وأهم الصناعات صناعة المواد الغذائية والنفط، وهي غنية بالمعادن وبها مياه معدنية بها خاصية للشفاء، ما يجعلها من أهم المشافي في العالم، ويبلغ عدد سكان القرم قرابة ال2 مليون نسمة ما يزيد على 60% من أصل روسي وقرابة 24% من التتار والباقي جنسيات أخرى عاصمة القرم هي مدينة سيمفروبول وأهم موانيها سيفستوبول، وهو مقر الأسطول الروسي منذ عهد القياصرة، وعقد بها مؤتمر يعد من أهم المؤتمرات بعد الحرب العالمية الثانية ضم كلًا من الزعيم السوفييتي ستالين والأمريكي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بعد الحرب العالمية الثانية، وقد عرف هذا المؤتمر بمؤتمر "يالطا"، وتم فيه إعادة تقسيم أوروبا بين الحلفاء، وتكمن أهمية القرم لروسيا في الميناء، حيث إنه المنفذ الوحيد للأسطول الروسي على المياه الدافئة، وبدأ الخطورة عندما أعلن الرئيس الأوكراني الموالي للغرب (فكتوريو شنكو) أن على روسيا إخلاء ميناء سيفتوبول من القاعدة الروسية مع حلول عام 2017م ومع هزيمة فكتور يوشنكو وتولى فكتور بيانكوفتش، وتعهده بتمديد العقد مع روسيا حتى 2024م، ومنها تربصت أمريكا بهذا الرئيس، وعملت على الإطاحة به عن طريق حركة (بورا) التي طالبت بدخول أوكرنيا الاتحاد الأوروبي وإلغاء اتفقياته مع روسيا وقامت الاحتجاجات ضده أواخر 2013م، ورغم ضعف الاحتجاجات في مدينة كييف العاصمة الأوكرانية، إلا أن تضخمها إعلاميا كان هدفًا للولايات المتحدةالأمريكية وتعمدت أمريكا أن يسقط قتلى في هذه الاحتجاجات من أجل ازدياد عدد المتظاهرين ورفع سقف المطالب الثورية حتى وصلت للمطالبة بإسقاط بيانوكوفتش، والمطالبة بمحاكمته والمطالبة بتعيين رئيس مجلس النواب كرئيس مؤقت للبلاد لحين إجراء انتخابات رئاسية جديدة، وكان قانون اللغات في أوكرنيا يعترف باللغات الأخرى، فجاء القانون الجديد ليشعل الثورة والذى ألغى الاعتراف باللغات الأخرى والاعتراف باللغة الأوكرانية كلغة وحيدة وبالتالي أثار حفيظة السكان الذين هم من أصل روسي ويتكلمون اللغة الروسية أدرك بوتين أن حصار حلف الناتو له في أوكرنيا قادم لا محال. مع خلق المشكلات الدائمة لروسيا عن طريق تصليح الأقليات وتشجيعها على الخروج المسلح على غرار أحداث الشيشان، وكان بوتين يدرك تمامًا أدوار المنظمات الأمريكية التي لعبت دورًا مهمًا فيما يسمى الربيع العربي، وأن الأمور لا محالة قادمة على أبواب روسيا، وكان بوتين يخوض معارك هادئة تحسبًا لهذا اليوم، فقد قام بشراء الغاز الطبيعي من جمهوريتي كازخستان وأذربيجان بعقود طويلة المدى حتى يكون هذا المحتكر الوحيد لتصدير الغاز إلى أوروبا عن طريق البحر الأسود عوضًا عن الخط الأوكراني، كما أنه أوقف البحث عن الغاز في بحر قزوين لحين الانتهاء من قضية التحكيم التي رفعتها روسيا على أساس أن بحر قزوين بحيرة مغلقة وليس بحرًا، وبذلك ضمن عدم دخول إيران كبديل له في السوق الأوروبية، وأصبحت أوروبا رهن الغاز الروسي، ما يضعف موقفها المؤيد لأمريكا على طول الخط أو الاحتفاظ بالصراع في حدوده السياسية فقط، وهو الأمر الذي تستطيع أن تتغلب عليه روسيا بسهولة، وذلك لقوة روسيا في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية.. إلخ. وقد طلب بوتين من البرلمان الروسي إعطاءه تفويضًا باستخدام القوة، وقد حصل على مراده وقد ظهر الجيش الروسي بقوة واحتل الأماكن الحيوية وسيطر على الجزيرة ثم استخدم القانون الدولي الذي يعرف باسم (حق تقرير المصير) لسكان الجزيرة وأعلن موعد الاستفتاء يوم 16/3/2014م وجاءت نتيجة الاستفتاء بأغلبية تزيد على 90% يطالبون بالانضمام إلى روسيا، وأنه مهما اعترضت الولاياتالمتحدة فإن التصعيد تجاه روسيا لم يصل أبدًا إلى إعلان الحرب، كما أن سلاح الغاز الروسي السحر تجاه الاتحاد الأوروبي الذي يعتمد بشكل كبير على واردات الغاز الروسي وبنسب تصل في بعض البلدان إلى 100%. كما أن أداء الرئيس الروسي بوتين تميز بالذكاء والدبلوماسية، ويتجلى ذكاء بوتين وتفوقه على نظيره الأمريكي أوباما في كثير من القضايا، ومنها قضية الضربة الأمريكية التي كانت سوف توجه للنظام السوري وكيف تمكنت الدبلوماسية الروسية من إحراج الأمريكان وإجبارهم على التراجع عن هذه الضربة لتغير الأمور على الأرض بعدها لصالح النظام السوري، وحاول بوتين كسب ود سكان القرم وتشجيعهم على البقاء الدائم مع روسيا إعلان مدينة سيمفوبول عاصمة الثقافة الروسية وإنشاء مقعد للإقليم بحكومة الدولة وإدراج الإقليم كفيدرالية جديدة تنضم إلى روسيا وإصدار الجوازات الروسية لسكان الإقليم باعتبارهم مواطنين روسا، كما أن بوتين تعهد بإعادة الاعتبار إلى سكان الإقليم من التتار والذين أجبروا على الرحيل وإعطائهم كل الحقوق مثلهم مثل أي مواطن روسي، وخاطب رئيس الوزراء الروسى (ميدفيدف) بأنهم شعب ينتمي إلى أمة عظيمة وإعلان دعم مالي للإقليم بقيمة 7 مليارات دولار، وكان المواطنون الروس يحصلون على مرتباتهم لأول مرة منذ شهور بسبب الخزائن الخاوية، ما جعل السكان يتمسكون بالانضمام إلى روسيا، وقد تمكن بوتين من أن يجعل روسيا تستطيع أن تستغنى عن الجميع إذا فرضت عليها عقوبات من أي نوع في الوقت الذي جعل الجميع لا يستطيعون أن يستغنوا عن روسيا، فهي مصدر رئيسي للطاقة بجميع أنواعها وهي مصدر أساسي ومهم لتصدير السلاح الروسي الذي أصبح مطلوبًا في جميع الأسواق، وهي مصدر أساسي لبناء التجمعات الصناعية الكبرى التي تحتاجها الدول لبناء عملية التنمية، وهي مصدر هام لعلوم التكنولوجيا وأبحاث الفضاء وبناء الأقمار الصناعية، فروسيا بوتين أصبحت عملاقًا يصعب تجاهله فضلًا عن حذفه.