تعيش جنوب السودان هذه الفترة أوضاعا مأسوية من جراء استمرار القتال بين قوات حكومة جنوب السودان بقيادة الرئيس سلفاكير ميارديت والمتمردين بزعامة نائبه السابق رياك مشار. ورغم أنه من المقرر أن يتم استئناف محادثات السلام بين الحكومة والمتمردين في الثامن والعشرين من الشهر الجاري تحت رعاية منظمة الإيغاد غير أن غالبية المراقبين لا يعولون كثيرا على هذه المفاوضات في إحراز تقدم ملموس على أرض الواقع لاسيما عقب انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعه الطرفان في يناير الماضي ولم يتم الالتزام به. وتزايدت حدة الصراع بعد استيلاء قوات المتمردين على مدينة بنيتو النفطية منتصف الشهر الجاري وسقوط مئات القتلي بعد تصاعد أعمال العنف التي أدت إلى ارتكاب جرائم وحشية ضد المدنيين وتشريد الآلاف منهم. وأفاد تقرير للأمم المتحدة أنه بعد انتزاع المتمردين المدينة النفطية بنتيو من سيطرة قوات الحكومة في معارك عنيفة ارتكب المسلحون أبشع الجرائم في كل من يظنون أنه ضدهم، وحتى بعد فرار الجيش الجنوبي من المدينة تواصلت أعمال القتل مما أدى إلى سقوط مئات الضحايا. وأشارت وكالة المساعدات التابعة للأمم المتحدة أن لديها تقارير عن عمليات قتل محددة الهدف على أسس عرقية، وهو ما نفته قوات المتمردين مؤكدة أن القوات الحكومية وحلفائها هم الذين ارتكبوا هذه الجرائم البشعة أثناء انسحابهم. وتعد هذه من أكبر المجازر التي استهدفت مدنيين في جنوب السودان منذ بدء المعارك الدائرة هناك منذ أكثر من أربعة أشهر. وتأتي هذه الواقعة عقب قيام نحو 350 شابا مسلحا يرتدون ملابس مدنية بالهجوم على قاعدة الأممالمتحدة في بلدة بور، التي تبعد مائتي كلم عن جوبا، والتي لجأ إليها نحو خمسة آلاف مدني معظمهم من قبيلة النوير وقتلوا نحو خمسين من هؤلاء. ويتكدس أكثر من 30 ألف آخرين في ظروف مأساوية في قاعدتين للأمم المتحدةبجوبا خوفا من أن يتم استهدافهم بسبب انتمائهم القبلي أو العرقي. وتعيش دولة الجنوب الوليدة هذه الحرب الطاحنة منذ منتصف ديسمبر من العام الماضي عقب إحباط سيلفا كير لمحاولة انقلاب على السلطة حاول القيام بها مشار وهو ما نفاه الأخير مؤكدًا أن هذا الاتهام ذريعة ليتخلص سيلفا كير من خصومه في السلطة قبل الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2015. ومنذ ذلك الحين وقعت العديد من عمليات القتل الوحشية، التي اتخذت طابعا قبليا في أحيان كثيرة، بين قبيلتي الدينكا التي ينتمي إليها الرئيس سلفاكير والنوير التي ينتمي إليها نائبه السابق رياك مشار. وأسفرت تلك المعارك عن مقتل آلاف الأشخاص ونزوح مئات الآلاف. وتسببت هذه الحرب في تدهور أوضاع البلاد مما يهدد بأوضاع كارثية للدولة الوليدة قد تجعلها على شفا الانهيار. فمن ناحية أصبحت جنوب السودان مهددة بخطر انتشار المجاعة حيث حذرت الأممالمتحدة من أن القتال بين جيش الحكومة وقوات مشار قد تسبب في نقص حاد في المواد الغذائية مما يهدد بانتشار مجاعة في دولة الجنوب قد تقضي على أكثر من مليون شخص. كما حذرت منظمة الأممالمتحدة للطفولة (يونيسيف) من أن نحو 250 ألف شخص معرضون لسوء تغذية حاد بحلول نهاية السنة مشيرة إلى أن خمسين ألفا منهم معرضون للموت. وأفادت بيانات أممية بأن أكثر من مليون شخص شردوا منذ بداية اندلاع الحرب في ديسمبر الماضي بينهم نحو ثمانمائة ألف شخص يعيشون في ملاجئ مؤقتة داخل قواعد قوات الأممالمتحدة داخل جنوب السودان، في حين فر 254 ألفا آخرون إلى دول مجاورة. ومع تصاعد العنف واستمرار وتيرة المعارك تدهورت الأوضاع الإنسانية في الجنوب بصورة متردية، وأصبح هناك ملايين من الأشخاص محرومون من أبسط متطلبات الحياة كالغذاء والمياه. كما هجر المزارعون حقولهم وارتفعت أعداد المحتاجين إلى معونات غذائية إلى نحو سبعة ملايين شخص. ويتوقع المراقبون أنه في حال استمرار المعارك على هذا النحو فإنها قد تؤدي لانهيار دولة جنوب السودان التي لم تكمل بعد عامها الثالث على الاستقلال، خاصة أن الدولة الوليدة لم تعد تنعم بالدعم الدولي الذي اعتادت الحصول عليه حتى قبل استقلالها عن دولة السودان، وبدا ذلك جليا في تهديد الولاياتالمتحدة الأميركية بفرض عقوبات على من يحاول تصعيد الصراع في الدولة الأفريقية الوليدة بينما أعربت العديد من دول الاتحاد الأوربي عن قلقها واستيائها من تردي أوضاع حقوق الإنسان في الجنوب. ويتفق فريق كبير من المراقبين على أن حل اللأزمة لن يتم من خلال انتصار حاسم لأحد أطراف النزاع على الآخر، فالطرفان لن يصمدا طويلا نتيجة قلة الأموال اللازمة للتسليح وانخفاض أعداد الجنود. وبالتالي فلا سبيل إلا التوصل إلى اتفاق سياسي يضم جميع الأطراف المتنازعة ويكون مصحوبا بإرادة سياسية حقيقية تغلب المصلحة الوطنية على أي اعتبارات شخصية أو قبلية، وأن يكون هذا الاتفاق مرتبط بآلية للتنفيذ والمراقبة حتى لا يكون كغيره من الاتفاقات التي ظلت وعودا ولم تتعد كونها حبرا على ورق. ويؤكد المراقبون أن دولة جنوب السودان قد وُلِدت بموارد بشرية وطبيعية لا يُستهان بها ولم تحظَ بها أي دولة أفريقية أخرى عند الاستقلال ولكن ما ينقصها هو القيادة الواعية صاحبة الرؤى والمقدرة على التطوير والتي تستطيع وضع برنامج تسير على نهجه الدولة الجديدة وتنفذه لتتمكن من النهوض باقتصادها وتحسين أوضاعها، وكل ذلك يتطلب منها مشاركة جميع قطاعات الشعب المختلفة وعدم إقصاء أي منها مهما صغر حجمه، فضلا عن عدم الاعتماد على القوى الخارجية لضمان تحقيق الاستقلال التام وعدم حدوث أي تبعية سياسية والتركيز على المصالح الوطنية في المقام الأول.