سلطت مجلة "لوبوان" الأسبوعية الفرنسية في افتتاحيتها الضوء على ما تضمنته استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي نشرت امس على موقع البيت الأبيض من هجوم غير مسبوق على أوروبا. وتشير الوثيقة (استراتيجية الأمن القومي الأمريكية إلى أن أوروبا لا تعاني فقط من مشاكل نمو اقتصادي، إذ انخفضت حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 25% عام 1990 إلى 14% حاليا - بل تعاني أيضا من تآكل حضاري، وفقا لواشنطن. وتحمل الولاياتالمتحدة المسؤولية للنظام السياسي والإداري الأوروبي بأكمله، متهمة الاتحاد الأوروبي والمنظمات العابرة للحدود بتقويض السيادة الوطنية والحريات السياسية. وتنتقد الوثيقة سياسات الهجرة الأوروبية، معتبرة أنها تحدث تحولات في القارة وتؤجج الصراعات، كما تشير إلى تفشي الرقابة على حرية التعبير وقمع المعارضة السياسية، وتراجع معدلات المواليد، وتلاشي الهويات الوطنية والثقة الجماعية. وتزعم إدارة ترامب أن الغالبية العظمى من الأوروبيين ترغب أن يحل السلام في أوكرانيا، لكن هذه الرغبة لا تترجم إلى سياسات بسبب حكومات الأقلية غير المستقرة التي تخرق المبادئ الديمقراطية الأساسية من اجل قمع المعارضة. وبذلك تكون واشنطن تصور نفسها كمدافع عن إرادة الشعوب الأوروبية ضد النخب الفاسدة والمنفصلة عن الواقع. ويستهدف التقرير مباشرة التحالفات الحكومية الهشة في ألمانيا وفرنسا وهولندا، متهمة إياها باستخدام إجراءات العزل والإجراءات القانونية والقيود على حرية التعبير للحفاظ على سلطتها في مواجهة أحزاب المعارضة الصاعدة. وترى واشنطن أن "الديمقراطية الحقيقية" تتعارض مع «الديمقراطية المزيفة» التي يقودها تكنوقراط غير منتخبين في بروكسل وحكومات أقلية في العواصم الأوروبية. وعلاوة على ذلك، ترحب إدارة ترامب صراحة ب النفوذ المتزايد للأحزاب الوطنية الأوروبية، باعتباره سببا للتفاؤل الكبير، في إشارة واضحة إلى دعم ترامب للحركات القومية والسيادية التي تحاول النخب الأوروبية احتوائها. لا تكتفي الوثيقة بتشخيص الوضع، بل تقدم توصيات مثل إنهاء الحرب في أوكرانيا، وتمكين أوروبا من الوقوف على قدميها، كمجموعة من الدول ذات السيادة المتحالفة، وفتح الأسواق الأوروبية أمام المنتجات الأمريكية مع ضمان معاملة عادلة للشركات والعمال الأمريكيين، وهو ما يعني استثناء الولاياتالمتحدة من قانون الخدمات الرقمية «DSA) وقانون الأسواق الرقمية «DMA)، وتشجيع أوروبا على الاصطفاف مع واشنطن في مواجهة الصين. وتشير «لوبوان» إلى أن ما تضمنته الوثيقة ليس بالأمر الجديد بالنسبة لمن يتابع باهتمام تصريحات دونالد ترامب منذ انتخابه. كما تشير الوثيقة إلى احتمال أن يصبح غالبية أعضاء الناتو «غير أوروبيين» خلال العقود القادمة، في إشارة إلى أن أوروبا لا يمكن أن تعتمد على الدعم الأمريكي إذا استمرت في سياستها للهجرة التي من شأنها تغيير مجتمعاتها. وتعكس رؤية ترامب لأوروبا - متدهورة لكنها قابلة للإصلاح، مريضة لكنها غير محكوم عليها بالزوال- ضمنيا مستقبل العلاقات عبر الأطلسي، والأمر يشبه صفقة كبرى تقرن فيها الولاياتالمتحدة استمرار دعمها العسكري بإعادة هيكلة كاملة للنموذج الأوروبي، بما في ذلك وضع حد لتوسع الناتو، وتفكيك نفوذ بروكسل، وإنشاء تحالف تجاري وتكنولوجي مع الولاياتالمتحدة، وفرض قيود صارمة على الهجرة.