فى ظل التحولات المتسارعة التى أعقبت الحرب الأخيرة فى غزة، يجد الاتحاد الأوروبى نفسه أمام واحدة من أكثر المراحل حساسية فى تاريخه الحديث على صعيد السياسة الخارجية، فبينما تتجه الأنظار نحو تشكيل هيئة دولية مؤقتة لإدارة القطاع، يسعى الاتحاد إلى استعادة مكانته كفاعل رئيسى فى الشرق الأوسط بعد سنوات من التراجع والتردد، إلا أن طريقه إلى هذا الدور محفوف بالتحديات، خاصة مع تصاعد الانتقادات لسياساته المتذبذبة حيال إسرائيل وتناقض مواقفه بين الخطاب الإنسانى والممارسة السياسية. ويبدو أن بروكسل تحاول الموازنة بين طموحها لاستعادة نفوذها فى الإقليم وضغوط واشنطن التى ما زالت تتحكم فى مفاتيح الصراع والسلام. فمن جهة، يقدّم الاتحاد الأوروبى نفسه كقوة تسعى لترسيخ السلام عبر دعم السلطة الفلسطينية والمشاركة فى إعادة إعمار غزة، مؤكدًا أن الحل السياسى هو السبيل الوحيد لتجنب تكرار دوامات العنف. ومن جهة أخرى، تواجه مؤسساته أزمة ثقة داخلية وخارجية بعد قرار تعليق العقوبات على إسرائيل استجابة لضغوط أمريكية ودولية مرتبطة بخطة دونالد ترامب لإعادة ترتيب المشهد فى غزة. هذا القرار، الذى وُصف من قبل دبلوماسيين وخبراء أوروبيين سابقين بأنه "تراجع أخلاقي"، فتح الباب أمام تساؤلات حول مدى استقلالية القرار الأوروبى وقدرته على اتخاذ مواقف تتسق مع التزاماته المعلنة بالقانون الدولى وحقوق الإنسان. وتحت ضغط الانقسامات الداخلية بين دول الاتحاد حيث تميل إسبانيا وأيرلندا نحو دعم الحقوق الفلسطينية، بينما تقف المجر وجمهورية التشيك إلى جانب إسرائيل يجد الاتحاد نفسه عاجزًا عن صياغة موقف موحّد يعبّر عن وزنه الحقيقى فى إدارة مرحلة ما بعد الحرب. وبين الرغبة فى الظهور كقوة سلام وبين الخشية من فقدان النفوذ فى ظل هيمنة واشنطن، تبدو أوروبا فى مفترق طرق حاسم: إما أن تتحرك بثقة لتثبيت دورها فى الهيئة الدولية لإدارة غزة بما يضمن توازنًا جديدًا للقوى، أو تظل أسيرة دور الممول الذى يملك المال دون التأثير إن ما يجرى اليوم لا يتعلق فقط بمستقبل غزة، بل بموقع أوروبا فى النظام الدولى الجديد الذى يتشكل على أنقاض الحروب والأزمات. فهل سينجح الاتحاد الأوروبى فى إثبات أنه قوة سياسية مستقلة قادرة على صناعة السلام، أم سيكتفى كالعادة بلعب دور المانح الإنسانى الذى يراقب من بعيد؟.. هذا هو السؤال الذى سيحدد ملامح المرحلة المقبلة، ليس فقط فى الشرق الأوسط، بل فى صورة الاتحاد ذاته كقوة عالمية تبحث عن هويتها بين المبادئ والمصالح. فبعد انتهاء الحرب فى غزة، يسعى الاتحاد الأوروبى لتثبيت حضوره كأحد أبرز الفاعلين فى صياغة مستقبل القطاع، خاصة فى ظل التحركات الدولية لتشكيل هيئة دولية مؤقتة لإدارة غزة. وقد أبدى الاتحاد استعداده للانخراط فى هذه الهيئة، معتبرًا أن وجوده سيضمن الشفافية فى إدارة الموارد، وتنسيق الجهود الإنسانية والإغاثية بعيدًا عن الصراعات السياسية. كما يرى أن مشاركته ضرورة لمنع تكرار دوامة العنف وتثبيت وقف إطلاق النار بشكل دائم. وعلى الصعيد الإنساني، تحرك الاتحاد الأوروبى بسرعة لتخصيص حزم مساعدات عاجلة لمتضررى الحرب، شملت الغذاء والمياه والدواء والمأوى، مع دعواته المتكررة لفتح ممرات إنسانية آمنة تحت إشراف الأممالمتحدة. كما يسعى الاتحاد إلى تعزيز دور مؤسساته الإغاثية فى الميدان، والتنسيق مع وكالة "الأونروا" والمنظمات المحلية لضمان وصول المساعدات إلى المدنيين مباشرة، فى ظل تحذيراته من كارثة إنسانية طويلة الأمد إذا لم تُتخذ إجراءات سريعة ومستدامة. أما سياسيًا، فيعتبر الاتحاد أن مشاركته فى الهيئة الدولية فرصة لإحياء حل الدولتين بوصفه الإطار الوحيد القابل للتطبيق لإنهاء الصراع. ويدفع الاتحاد باتجاه إعادة تمكين السلطة الفلسطينية فى غزة، بحيث تتولى إدارة الشؤون المدنية والأمنية تدريجيًا بدعم دولي. وفى هذا السياق، يجرى الأوروبيون مشاورات مع مصر والأردن والولايات المتحدة لتنسيق الجهود وتحديد مهام الهيئة الدولية، بما يضمن توازن المصالح الإقليمية والدولية. وفى ملف إعادة الإعمار، يتجه الاتحاد الأوروبى لتولى دور محورى فى إدارة التمويل الدولى المخصص لإعادة بناء ما دمرته الحرب. وتعمل بروكسل على إنشاء آلية رقابة مالية شفافة بإشراف البنك الأوروبى للاستثمار، لضمان وصول الأموال إلى مستحقيها وعدم استغلالها لأغراض سياسية أو عسكرية. كما يسعى الاتحاد لتوظيف خبراته فى مجالات الطاقة المتجددة، وإعادة تأهيل شبكات المياه والكهرباء والبنية التحتية الأساسية فى القطاع. ويرى الاتحاد الأوروبى أن مشاركته فى إدارة غزة ليست مجرد مهمة إنسانية، بل خطوة استراتيجية لإعادة التوازن إلى دوره فى الشرق الأوسط بعد سنوات من التراجع. فهو يسعى إلى أن يكون جزءًا من الحل لا المراقب، عبر الجمع بين المساعدات الاقتصادية والدبلوماسية النشطة. ويأمل الأوروبيون أن يؤدى هذا الدور إلى استقرار دائم فى غزة، وإلى فتح مسار سياسى جديد يعيد الثقة بالحلول متعددة الأطراف تحت مظلة القانون الدولى والأممالمتحدة. وتعرض الاتحاد الأوروبى لانتقادات بسبب تعليق العقوبات على الحكومة الإسرائيلية ردا على جهود دونالد ترامب لصنع السلام فى الشرق الأوسط، وذلك فى ظل تعرض وقف إطلاق النار الهش للتهديد. بعد اجتماعها مع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، أعلنت مسؤولة السياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى كايا كالاس عن توقف مؤقت للجهود الرامية إلى تعليق التجارة التفضيلية مع إسرائيل والعقوبات ضد الأشخاص المسؤولين عن تأجيج الصراع على الجانبين. وقالت كالاس إن السياق قد تغير منذ اقتراح التدابير الشهر الماضى، وأشارت إلى "تباين وجهات النظر"، وقالت إن الوزراء اتفقوا على: "نحن لا نؤيد التدابير الآن، لكننا لن نستبعدها أيضًا لأن الوضع هش". وانتقد شخصان عملا فى مناصب عليا لدى الاتحاد الأوروبي، بشكل منفصل، القرار بعدم المضى قدما فى فرض العقوبات. وصرح سفين كون فون بورغسدورف، الممثل السابق للاتحاد الأوروبى فى الأراضى الفلسطينية، لصحيفة الغارديان بأن كالاس أخطأ فى فهم جوهر المساءلة القانونية. وأضاف: "العقوبات ليست مجرد إجراء لحثّ طرف ثالث أو إكراهه على تغيير سلوكه أو تعديله. فالتدابير التقييدية جزء من الأدوات التى وفّرها الاتحاد الأوروبى لنفسه للرد على انتهاكات القانونين الأوروبى والدولي". خلص الاتحاد الأوروبى فى يونيو/حزيران إلى أن إسرائيل انتهكت التزاماتها المتعلقة بحقوق الإنسان بموجب اتفاقية الشراكة بينهما، التى تنظم التجارة والتعاون بين الجانبين. ويقول المحامون إن الاتحاد الأوروبى ملزم أيضًا بضمان امتثال السياسة لرأى غير ملزم صادر عن محكمة العدل الدولية عام 2024، والذى يُلزم إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضى الفلسطينية فى أقرب وقت ممكن. وكان بورغسدورف قد شارك فى تنظيم بيان وقعه 414 من كبار الدبلوماسيين والمسؤولين السابقين الأسبوع الماضي، يدعو إلى اتخاذ إجراءات قوية من جانب الاتحاد الأوروبى "ضد المفسدين والمتطرفين على الجانبين" الذين عرضت أفعالهم "إقامة دولة فلسطينية مستقبلية" للخطر. ورحب البيان بخطة ترامب، لكنه أشار إلى أن مسألة تقرير المصير الفلسطينى "لم يتم تناولها إلا بشكل غامض". ومن جانبها قالت ناتالى توتشى، المستشارة السابقة لممثلين رفيعى المستوى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، إن إلغاء العقوبات سيكون أسوأ نتيجة ممكنة للاتحاد. هذا آخر ما ينبغى علينا فعله، لأن هذه هى اللحظة المناسبة لمواصلة الضغط. فنحن جميعًا نعلم أن تنفيذ هذه الخطة ليس حتميًا،" هذا ما صرحت به توتشى لصحيفة الغارديان، فى إشارة إلى المرحلة الأولى من خطة ترامب، التى شابها العنف، مما دفع إلى تدافع دبلوماسى لدعم الاتفاق. وأضافت "أخشى أن تعود الحكومات والمؤسسات الأوروبية إلى الأنماط القديمة المألوفة". ومن المقرر أن يناقش القادة الأوروبيون الصراع بين إسرائيل وغزة فى قمة تُعقد يوم الخميس، ولطالما انقسموا بشدة بشأن الشرق الأوسط. فهم منقسمون بين مناصرين صريحين لفلسطين، مثل إسبانيا وأيرلندا، وحلفاء مخلصين لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو القومية، مثل المجر وجمهورية التشيك. ولكن الاحتجاجات الحاشدة داخل العديد من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى ضد عدد القتلى والمعاناة فى غزة، أثارت مقترحات من المفوضية الأوروبية الشهر الماضى بتعليق التجارة التفضيلية وفرض عقوبات على الأفراد المسؤولين عن تأجيج الصراع على الجانبين. رفضت مصادر رفيعة المستوى فى الاتحاد الأوروبى انتقادًا متكررًا بأن الاتحاد "مُمول، لا فاعل" فى الشرق الأوسط. يشير هذا النقد إلى دور الاتحاد الأوروبى كأكبر مانح للفلسطينيين - 1.5 مليار يورو (1.3 مليار جنيه إسترليني) كمساعدات إنسانية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول - لكنه يزعم أن الاتحاد منقسم للغاية بحيث لا يملك نفوذًا فى صنع السلام. يعتقد مسئولو الاتحاد الأوروبى أن الاتحاد يجب أن يكون ممثلًا فى "مجلس السلام" الذى أنشأه ترامب، مما يعكس مساهمته المحتملة فى إعادة إعمار غزة. كما يطالب المسؤولون بمشاركة دول الخليج فى تمويل تكاليف إعادة الإعمار المقدرة ب 70 مليار دولار (52 مليار جنيه إسترليني) للحرب التى استمرت عامين. لاعب دبلوماسى رحّب الاتحاد الأوروبى بخطة ترامب، لكن وثيقةً مسربةً اطلعت عليها صحيفة الغارديان تُشير إلى إمكانية "تفصيل دور السلطة الفلسطينية وحل الدولتين". وتشير وثيقة الاتحاد الأوروبى إلى أن خطة ترامب "لا تتناول الوضع فى الضفة الغربية". وقال بورغسدورف إنه من المهم أن يكون الاتحاد الأوروبى لاعبا دبلوماسيا نشطا لضمان سد "الروابط المفقودة" فى خطة ترامب، ومعالجة المستوطنات فى الضفة الغربية و"العمل نحو مسار موثوق به لحل الدولتين.