مع تسارع التطورات الإقليمية والدولية تتقلص القدرة على التنبؤ بمآلات الأمور، بينما تزيد وتستمر حالة عدم اليقين المهيمنة على كافة الأصعدة، السياسية والأمنية والاقتصادية، وبعد أن «تخارج» الرئيس الأمريكى دونالد ترامب - باتفاق مع إيران - ببلاده من أتون حرب مشتعلة فى الشرق الأوسط بين إيران وإسرئيل، سبّب كل منهما آلاما للآخر، دون وجود معيار محدد وواضح للانتصار، بدا وكأنه صاحب اليد العليا فى تطور الأحداث، دخل ترامب الحرب إنقاذا لإسرائيل وإذعانا لضغوطها بالتدخل لحسم هذه الجولة من المواجهة لصالح دولة الاحتلال، بينما كانت له مآربه من الخطوة، فقد أراد كسر شوكة الإيرانيين لإجبارهم على التفاوض، لكن لم تسر الأحداث كما أراد، بل إنه أثار سخرية من قطاعات واسعة فى بلاده كيف له أن يتحدث عن تدمير البرنامج النووى الإيرانى بينما ينتظر الإيرانيون على طاولة المفاوضات فى آن واحد؟! ■ ترامب ونتنياهو لم يكن اتساع الحرب فى مصلحة أىٍ من الأطراف، وإن صب فى المصلحة الشخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلى، بإطالة زمن الحرب والانصياع لرغبات حلفائه اليمينيين، لكنه لا يصب فى المصلحة العامة لإسرائيل، ومن ثم فكان لهذه الحرب سبب قوى فى أن تتوقف بأقرب فرصة. عادت مرة أخرى الأضواء الى جبهة غزة المشتعلة، وبدا ترامب متحمسا هذه المرة لإبرام اتفاق لوقف الحرب بشكل دائم دون هدنة مؤقتة، فالرجل فى نشوة الإحساس بالقوة والتحكم فى وقف الصراعات والحروب، فبعد أن وضع حدا لحرب إيران وإسرائيل، بأن ردع طهران عن الرد القوى على دخوله الحرب ضدها، وأجبر نتنياهو على الموافقة على وقف إطلاق نار بعد أن كان مستمرا فى غاراته هناك، استضاف مؤخرا وزيرى خارجية رواندا والكونغو الديمقراطية، حيث اتفق البلدان على إنهاء 30 عاما من الصراعات، كما أشار فى وقت سابق لقدرته على التوسط بين باكستان والهند، كما ألمح فى منشور على موقع تروث سوشيال إلى أنه كان بمقدوره أيضا منع حرب من الاندلاع بسبب أزمة مياه نهر النيل، وتبلورت رغبته الشخصية الملحة فى الحصول على جائزة نوبل للسلام، لدرجة أن المتظاهرين فى إسرائيل كتبوا على لافتاتهم الموجهة لترامب «أنقذ المخطوفين فى غزة، وانهِ الحرب، نوبل فى انتظارك»، ومع سعيه لترسيخ صورته ك»موحد» عالمى يهدف إلى «إنهاء كل الحروب»، لا يمكن للرغبة الشخصية وحدها تفسير كل السياسات، فالرجل ذو رؤية للشرق الأوسط، يحيّد فيها الخطر النووى الإيرانى عبر التفاوض، وتحيّد أذرع إيران الإقليمية، وتتعزز التجارة والتعاون الاقتصادى بين دول المنطقة وتتظلل بتوسع الاتفاقيات الإبراهيمية، هذا ما يريده الرجل ويعمل من أجله، وقد كشف ذلك مبعوثه الشخصى للمنطقة ستيف ويتكوف فى مقابلة تليفزيونية سابقة له. ◄ اقرأ أيضًا | البث الإسرائيلية: نتنياهو وكاتس يعتقدان أنه يجب العمل على طرد حماس من حكم غزة ◄ مساعٍ جادة وقال تقرير نشرته مجلة نيوزويك إن الرئيس الأمريكى طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلى الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار مع حركة حماس، وذلك بعد التهدئة الأخيرة التى أنهت الحرب التى استمرت 12 يومًا بين إسرائيل وإيران، ووفقًا لمصدر مطّلع على المفاوضات، فإن الاتفاق «ممكن جدًا»، مشيرًا إلى أن ترامب «يعمل بجهد لإقناع الإسرائيليين أن الوقت مناسب الآن، بعد أن تم حل الملف الإيرانى مؤقتًا»، وأضاف أن ترامب لا يريد مجرد هدنة مؤقتة، بل يسعى إلى إنهاء دائم للصراع، يتضمن إطلاق سراح جميع الرهائن والتوصل إلى وقف إطلاق نار دائم يمهد لمفاوضات سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. تحول تركيز ترامب إلى الصراع فى غزة، وأكدت مصادر أمريكية للمجلة أن ترامب يرغب فى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار لمدة 60 يومًا بين إسرائيل وحماس، يتضمن إطلاق سراح الأسرى تدريجيًا، وإعادة انتشار القوات الإسرائيلية، واستئناف المساعدات الإنسانية، ووقف مؤقت للطيران الإسرائيلى فوق غزة. وتهدف هذه الهدنة المؤقتة لأن تكون مقدمة لمفاوضات حول وقف دائم للحرب، ويأمل ترامب أن تتيح الوقت للوصول إلى حل نهائى ينهى الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، إلا أن حماس، رغم إبداء استعداد مبدئى، لا تزال تطالب بضمانات بأن إسرائيل لن تستأنف الحرب بعد انتهاء الهدنة المؤقتة. في الوقت ذاته، تتزايد الضغوط الدولية على إسرائيل، حيث دعت قمة الاتحاد الأوروبى إلى وقف فورى لإطلاق النار فى غزة والإفراج عن جميع الأسرى، وأعربت عن قلقها من الوضع الإنسانى الكارثى، كما ازدادت التوترات داخل إسرائيل، إذ خرجت مظاهرات فى تل أبيب تطالب الحكومة ببذل المزيد من الجهود لإعادة الأسرى، وبالتزامن، يواجه نتنياهو محاكمات بتهم فساد، وقد طالب ترامب بوقف هذه المحاكمات، واصفًا إياها ب»مطاردة الساحرات»، فى إشارة إلى أنه يستخدمها كورقة ضغط فى مساعيه لدفع نتنياهو نحو وقف إطلاق النار. وسبق أن توسطت إدارة ترامب فى هدنة قصيرة فى يناير 2025 تم بموجبها إطلاق 33 رهينة مقابل 1900 أسير فلسطينى، لكن الاتفاق انهار لاحقًا، ورغم ذلك، استمرت المفاوضات فى الدوحة، وطرح مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ويتكوف، اقتراحًا جديدًا يشمل وقفًا لمدة 60 يومًا وبدء مفاوضات سلام لاحقة، ويشمل المقترح ضمانًا أمريكيًا لعدم استئناف إسرائيل الأعمال القتالية خلال الهدنة، ونقل جثامين ومعلومات عن الأسرى، وإعادة انتشار القوات فى غزة، واستئناف تدفق المساعدات عبر قنوات متفق عليها. ◄ الدور الأوروبي وفي حين تبدو الأزمة كاشفة لمواقف كل الأطراف، فلا يزال دور الاتحاد الأوروبى فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى ثانويًا، رغم حضوره الواسع فى المنطقة، خلال العقدين الماضيين، فقدت الحكومات الأوروبية الأمل فى حل الدولتين، وفضّلت الحفاظ على الوضع الراهن مع إسرائيل، رغم الاعتراضات الشكلية على بعض ممارساتها، لكن تجاهل الصراع كلّف أوروبا والعالم ثمنًا باهظًا. وقال تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز إن أوروبا تتحمل مسئولية تاريخية تجاه ما يحدث، فقد أسهمت القوى الاستعمارية الأوروبية فى تفكيك المنطقة، وساهمت فى ظهور الصهيونية كحركة قومية، وأخلّت بوعودها لحماية حقوق الفلسطينيين، وبعد نكبة 1948 وحرب 1967، لم تتحرك أوروبا لوقف الاحتلال الإسرائيلى أو حماية حقوق الفلسطينيين، بدلًا من ذلك، اتبعت سياسة الحياد وسمحت للولايات المتحدة بقيادة العملية السياسية، بينما قدمت دعما محدودًا للسلطة الفلسطينية، لكن أوروبا لا تستطيع الاستمرار فى هذا الحياد، عليها أن تتحمل مسئوليتها التاريخية والأخلاقية تجاه ضحايا الصراع من الجانبين، وأن تدرك أن استقرار المنطقة يخدم مصالحها الأمنية والسياسية، لذلك، على الاتحاد الأوروبى أن يضع خطة واضحة تعزز دوره فى إحلال السلام، ودعا التقرير أوروبا لأن تكون أكثر جرأة وصدقًا فى تعاملها مع الصراع، وأن تترجم شعاراتها عن العدالة الدولية إلى أفعال ملموسة، مدركة أن صمتها أو ترددها لن يجنّبها آثار الصراع، بل يجعلها طرفًا فى استمراره. وأوضح التحليل، الذى كتبه وزير الخارجية الأوروبى السابق، جوزيب بوريل، أن الاتحاد الأوروبى يمتلك أدوات فعالة تشمل المساعدات المالية، والاتفاقيات التجارية، والسياسات التنظيمية، التى يمكن استخدامها للضغط باتجاه تحقيق السلام فى الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا والنمسا، تمتنع عن تنفيذ مذكرات التوقيف الدولية بحق مسئولين إسرائيليين، فإن الغالبية من الدول الأعضاء تنادى بضرورة تبنى مواقف أكثر توازنًا وإنصافًا تجاه النزاع الفلسطينى - الإسرائيلى. في هذا السياق، يجب أن يدعم الاتحاد الأوروبى جهود إصلاح السلطة الفلسطينية، مع التركيز على تعزيز الشفافية وبناء المؤسسات الديمقراطية، وربط الدعم المالى والسياسى المقدم لها بتقدم هذه الإصلاحات، كما أن الاعتراف الجماعى بدولة فلسطين على حدود عام 1967 يشكّل خطوة حاسمة من شأنها أن تقوى الأطراف المعتدلة داخل المجتمع الفلسطينى، وتضعف فى المقابل الأصوات المتطرفة والداعية إلى العنف، كذلك، من المهم أن يواصل الاتحاد الأوروبى دعمه للمنظمات التى تروّج للسلام وحقوق الإنسان، مثل «كسر الصمت» و»تحالف السلام فى الشرق الأوسط»، باعتبار ذلك انعكاسًا لالتزامه العملى بحل عادل وشامل، وعلى أوروبا أن ترفض أى محاولات إسرائيلية لفرض ضرائب مجحفة على المساعدات الموجهة إلى هذه المنظمات، لما يمثله ذلك من تهديد مباشر للمجتمع المدنى. ◄ اتفاقية الشراكة من ناحية أخرى، يتوجب على الاتحاد الأوروبى أن يعيد النظر فى اتفاقية الشراكة الموقعة مع إسرائيل، فى حال استمرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، كما يمكن فرض قيود تجارية على منتجات المستوطنات غير القانونية، وفرض عقوبات على المستوطنين المتورطين فى أعمال عنف، بما ينسجم مع التزامات أوروبا القانونية والأخلاقية، لكن فعالية السياسة الأوروبية فى هذا الملف تبقى محدودة بسبب الانقسامات بين الدول الأعضاء، لذلك، قد يكون من المجدى اعتماد آلية تصويت بالأغلبية المؤهلة بدلًا من شرط الإجماع فى بعض قضايا السياسة الخارجية، أو تمكين مجموعة دول منسقة (CFSP+) من تبنى مواقف مشتركة أكثر حزمًا واستقلالية. وبالتوازى، يجب أن تستخدم أوروبا صلاحياتها التنظيمية للحد من انتشار خطاب الكراهية على منصات التواصل الاجتماعى، بما فى ذلك المعاداة للسامية والعنصرية ضد العرب والمسلمين، كما ينبغى دعم حرية الصحافة وضمان استمرار عمليات توثيق الانتهاكات والحقائق، لا سيما فى المناطق المتأثرة بالنزاع مثل غزة، أما بعد الحرب، فمن المهم دعم إنشاء سلطة انتقالية دولية تتولى إدارة قطاع غزة بشكل مؤقت، مستلهمة تجارب ناجحة مثل تلك التى قادتها الأممالمتحدة فى تيمور الشرقية وكمبوديا، مع ضمان مشاركة الفلسطينيين تدريجيًا فى إدارة شئونهم، ويجب على أوروبا أن تتولى قيادة جهود إعادة إعمار غزة من خلال وسائل مستدامة تحفظ كرامة السكان وتدعم استقلالهم على المدى البعيد.