تشهد العلاقات بين باكستانوأفغانستان تصعيدًا جديدًا فى مستوى الاتهامات المتبادلة، بعدما جدد رئيس وزراء إقليم بلوشستان، سرفراز بوغتي، اتهاماته للحكومة الأفغانية بما وصفه ب"رعاية الدولة للإرهاب"؛ مؤكدًا أن عناصر مسلحة تنطلق من الأراضى الأفغانية نحو الداخل الباكستاني، لتشكل تهديدًا متزايدًا على استقرار إقليمه وعلى الأمن الوطنى عمومًا. تصريحات بوغتى جاءت فى مؤتمر صحفى عقده فى العاصمة الفيدرالية إسلام آباد، حيث شدد على أن الإرهابيين يجدون بسهولة معسكرات تدريب وملاذات آمنة داخل أفغانستان، وهو ما يعكس بحسب قوله إخلال حكومة كابول بالتزاماتها الواردة فى اتفاق الدوحة، الذى ينص على عدم السماح باستخدام الأراضى الأفغانية لشن أى هجمات ضد الدول الأخرى. وأوضح أن العديد من العناصر المسلحة الذين قُتلوا مؤخرًا فى مواجهات مع القوات الباكستانية كانوا من المواطنين الأفغان، الأمر الذى يثير القلق بشأن استمرار نشاط جماعات مسلحة عابرة للحدود فى ظل غياب معالجة جذرية لهذه الأزمة. منذ سنوات طويلة، ظلت باكستان تطالب الحكومة الأفغانية بقطع صلاتها مع الجماعات المسلحة المتورطة فى تنفيذ هجمات داخل أراضيها، معتبرة أن استمرار هذه العلاقات يعمّق أزمة الأمن فى المناطق الحدودية ويجعلها عرضة لهجمات متكررة. وتبرز فى مقدمة هذه الجماعات حركة طالبان باكستان التى توسعت عملياتها فى شمال غرب البلاد وفى إقليم بلوشستان تحديدًا، إضافة إلى تنظيمات أخرى مثل جيش تحرير بلوشستان ولواء مجيد والحركة الإسلامية لتركستان الشرقية، وهى كيانات تنشط فى أفغانستان وتحتفظ بروابط مع تنظيم القاعدة. كما أشار وزير الخارجية الباكستانى إسحاق دار فى اجتماع مجموعة الاتصال التابعة لمنظمة التعاون الإسلامى بشأن أفغانستان مؤخرًا فى نيويورك. هذا الواقع الأمنى المتشابك يعكس وفق مراقبين هشاشة الوضع فى المنطقة الحدودية، ويؤكد أن أى تراخٍ من جانب كابول فى ضبط حدودها أو فى ملاحقة المجموعات المتشددة سينعكس مباشرة على الداخل الباكستاني. بلوشستان بين نار الإرهاب وضغوط الجغرافيا يُعتبر إقليم بلوشستان من أكثر الأقاليم الباكستانية تعرضًا للاضطرابات الأمنية، إذ تحوّل فى السنوات الأخيرة إلى مسرح رئيسى للعمليات الإرهابية التى تستهدف المدنيين وقوات الأمن على السواء. ويؤكد رئيس الوزراء سرفراز بوغتى أن أجهزة الاستخبارات الهندية تلعب دورًا فى تمويل بعض هذه العمليات، مستشهدًا بوجود مؤشرات على أن نيودلهى تسعى إلى توحيد مختلف الفاعلين الذين يزعزعون استقرار باكستان، وهو اتهام تكرر مرارًا فى الخطاب الرسمى الباكستاني. وفى مؤتمره الصحفى الأخير، قدّم بوغتى تفاصيل عن عملية نفذتها القوات الباكستانية فى منطقة تشاغى الواقعة فى بلوشستان، حيث طوقت منزلًا كان يختبئ فيه ثلاثة مسلحين، انتهت بقتل اثنين منهم واستسلام ثالث بعد تبادل كثيف لإطلاق النار أسفر عن إصابة أحد عناصر قوة حماية الحدود. وكشف بوغتى أن أحد القتلى كان مسئولًا عن عمليات استطلاع تستهدف مشروعات حكومية حيوية، بما فى ذلك مراقبة تحركات العاملين الصينيين فى مشروعات المناجم والمعادن بالمنطقة، فضلًا عن مشاركته فى التخطيط للهجوم على مقر قيادة قوات الحدود. وقد شهد إقليم بلوشستان خلال السنوات الخمس الأخيرة سلسلة من العمليات الإرهابية التى كرّست صورته كبؤرة توتر مزمنة فى المشهد الباكستاني. ففى أغسطس 2023 تعرّضت قافلة عسكرية لهجوم مباغت فى منطقة مستونغ أسفر عن مقتل عدد من الجنود وإصابة آخرين، وهو ما عُدّ أحد أكثر الهجمات دموية فى ذلك العام. كما هزّ الإقليم هجوم انتحارى استهدف تجمعًا دينيًا فى مدينة مستونغ فى سبتمبر من العام نفسه، أودى بحياة عشرات المدنيين وخلّف موجة غضب شعبى عارمة. وفى عام 2021 استهدفت سيارة مفخخة فندقًا فى مدينة كويتا كان يقطنه السفير الصيني، ما كشف بوضوح عن نية الجماعات المسلحة ضرب المصالح الأجنبية، ولا سيما الصينية المرتبطة بمشروعات الممر الاقتصادى الباكستانىالصيني. كذلك شهد عام 2020 انفجارًا دمويًا فى كويتا أوقع عشرات الضحايا بين قتيل وجريح، فيما تكررت الهجمات على خطوط الغاز ومحطات الطاقة والبنية التحتية فى مناطق متفرقة من الإقليم، وهو ما يعكس استراتيجية الجماعات المتشددة القائمة على ضرب استقرار الإقليم وشل حركته الاقتصادية. هذه الحوادث، بمختلف مستوياتها، أظهرت أن التحدى الأمنى فى بلوشستان ليس عابرًا أو محدودًا جغرافيًا، بل يمثل أزمة متجذرة تتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية. ولا يُعد هذا الحادث معزولًا عن سياق طويل من الهجمات التى شهدها الإقليم خلال السنوات الماضية. فقد نفّذت جماعات مثل "جيش تحرير بلوشستان" و"لواء مجيد" عمليات نوعية ضد قوات الأمن ومشروعات البنية التحتية، مستهدفة بالأساس مشروعات الممر الاقتصادى الباكستانىالصينى (CPEC)، وهو ما أدى إلى تعطيل بعض الاستثمارات وإثارة مخاوف المستثمرين الأجانب. ومع أن القوات الباكستانية كثّفت عملياتها الأمنية فى بلوشستان، فإن الطبيعة الجغرافية الوعرة للإقليم، الممتد على حدود طويلة مع أفغانستان وإيران، تجعل من الصعب القضاء كليًا على المجموعات المسلحة. وهذا ما دفع السلطات أحيانًا إلى اتخاذ إجراءات استثنائية مثل تعليق خدمات الهاتف المحمول من الجيل الرابع، وهو ما أوضح بوغتى أنه جاء للحد من قدرة الجماعات المسلحة على استخدام التكنولوجيا فى التنسيق والاتصال، رغم الانتقادات الشعبية الواسعة التى أثارتها هذه الخطوة. تداعيات على العلاقات الثنائية وأزمة الحدود تُشكل الاتهامات الباكستانية المتكررة للحكومة الأفغانية عامل توتر إضافى فى العلاقات بين البلدين، التى تشهد أصلًا حالة من الشك المتبادل منذ وصول حركة طالبان إلى الحكم فى كابول عام 2021. ففى حين كانت إسلام آباد تأمل أن يسهم صعود طالبان فى الحد من نشاط الجماعات المسلحة المناوئة لها، فإن الواقع أظهر العكس، إذ تصاعدت الهجمات على أراضيها بنسبة ملحوظة، وخصوصًا فى بلوشستان وخيبر بختونخوا. هذا الوضع زاد من حدة الضغوط الداخلية على الحكومة الباكستانية، حيث يطالب الشارع والنخب السياسية باتخاذ إجراءات أكثر صرامة فى تأمين الحدود ووقف تسلل المسلحين. ومن الناحية العملية، فإن أزمة الحدود بين البلدين تمثل تحديًا معقدًا، إذ يمتد خط دوراند لمسافة تزيد على 2600 كيلومتر، وهو خط غير معترف به رسميًا من جانب الحكومة الأفغانية التى تعتبره حدودًا مفروضة من الحقبة الاستعمارية. هذا الرفض يعرقل التنسيق الأمنى المشترك، ويجعل من الصعب إنشاء آليات دائمة لمراقبة الحدود أو ضبط حركة العبور. وقد تكرر فى السنوات الماضية إغلاق المعابر الحدودية بين البلدين، الأمر الذى ألحق أضرارًا اقتصادية كبيرة بالمجتمعات المحلية المعتمدة على التجارة عبر الحدود. كما أن استمرار اتهام باكستانلكابول بإيواء جماعات مسلحة يعقد فرص التوصل إلى تسوية دائمة، فى وقت يرى فيه المراقبون أن الحل يتطلب مقاربة شاملة تشمل تعزيز التعاون الاستخباراتي، وتنمية المناطق الحدودية، وإشراك القوى الإقليمية الكبرى مثل الصين وإيران فى دعم الاستقرار. على صعيد آخر، فإن استمرار العمليات الإرهابية فى بلوشستان يعمّق صورة الإقليم كبؤرة مضطربة أمنيًا، ويؤثر على صورة باكستان أمام المجتمع الدولي. فالهجمات المتكررة ضد مشروعات صينية مثل مشروع الممر الاقتصادى الباكستانىالصينى تثير قلق بكين، الحليف الاستراتيجى لباكستان، وقد تدفعها إلى مراجعة بعض استثماراتها إذا استمر انعدام الأمن. كما أن اتهام باكستان للهند بتمويل بعض الجماعات المسلحة يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي، حيث يدخل النزاع التقليدى بين إسلام آباد ونيودلهى على خط الأزمة الأمنية فى بلوشستان. فى المجمل، تعكس تصريحات رئيس وزراء بلوشستان سرفراز بوغتى حجم التحديات التى تواجهها باكستان فى معركتها مع الإرهاب، وفى الوقت نفسه تكشف عن عمق الخلافات مع أفغانستان بشأن مسؤولية معالجة التهديدات العابرة للحدود. ومع استمرار غياب حلول مشتركة وتفاقم الأوضاع الأمنية فى بلوشستان، يبقى مستقبل العلاقات بين البلدين مرهونًا بقدرة الطرفين على تجاوز الاتهامات المتبادلة، والانخراط فى حوار جاد يفضى إلى ترتيبات أمنية تضمن عدم استخدام الأراضى الأفغانية ضد باكستان، وفى الوقت ذاته تعالج جذور التوتر المزمن فى إقليم بلوشستان.