تعد السياحة العلاجية في مصر واحدة من أهم الأنماط السياحية التي تشهد نموًا متزايدًا في السنوات الأخيرة، حيث تمتلك مصر أكثر من 1350 موقعا علاجي، تجمع بين مقومات طبيعية فريدة وموروث تاريخي جعل مصر وجهة رئيسية للباحثين عن الاستشفاء. من رمال واحة سيوة الساخنة، وعيون موسى إلى ينابيع سيناء الكبريتية، مرورًا بمياه البحر الأحمر الغنية بالشعاب المرجانية والأعشاب البحرية ذات القيمة الطبية، أصبحت مصر قِبلة مميزة للسياح من أوروبا، والشرق الأوسط، وآسيا، بل وحتى من أفريقيا، هذا التنوع لم يأتِ من فراغ، بل بجهود مشتركة بين الدولة، وشركات السياحة، وخبراء الصحة العامة الذين يسعون إلى توظيف هذه الثروات الطبيعية في دعم الاقتصاد وتنشيط السياحة. الجذور الفرعونية للسياحة العلاجية فى مصر قال رئيس قسم التاريخ الفرعوني كلية الآثار جامعة القاهرة الدكتور ناصر مكاوي عودة ل"البوابة نيوز" : تمتد جذور السياحة العلاجية فى مصر إلى آلاف السنين، إذ أدرك المصريون القدماء القيمة الشفائية للطبيعة المصرية الغنية بالينابيع المعدنية والرمال المشبعة بالعناصر النادرة، ففى بردياتهم الطبية الشهيرة، ويتم استخدام مياه النيل والبحيرات الكبريتية لعلاج أمراض الجلد والمفاصل والجهاز التنفسي. وقد اشتهرت الواحات المصرية منذ عهد الفراعنة بقدرتها على منح الشفاء عبر مزيج من المناخ الجاف، وأشعة الشمس الدافئة، والمواد المعدنية الطبيعية، ما جعلها قبلة للباحثين عن العافية حتى من خارج مصر القديمة. كما أن معابد العلاج مثل معبد إيمحتب فى سقارة جسّدت فكرة الجمع بين الروحانية والعلاج الطبيعي، حيث كان المرضى يتوافدون للتداوي عبر طقوس مائية وأعشاب طبية نادرة، هذا التراث العريق وضع الأساس لسمعة مصر كوجهة عالمية للراغبين في التداوي والاستجمام، وجعلها تسبق عصرها في مجال الطب الوقائي والطبيعي. تنوع جغرافى يعزز العلاجات الطبيعية وأضاف : تتميز مصر بثراء جغرافي فريد يمنحها مقومات لا تتوافر في كثير من دول العالم، ما جعلها مقصداً متميزاً للسياحة العلاجية الحديثة ، ففى سيناء تنتشر العيون الكبريتية فى مناطق مثل حمام فرعون وحمام موسى، التى تحتوى مياهها على نسب عالية من الكبريت تساعد فى علاج أمراض الروماتيزم وأمراض الجلد المزمنة، أما واحة سيوة، فتمتلك رمال مشبعة بالمعادن تُستخدم فيما يعرف ب"الدفن الرملى"، وهو أسلوب تقليدى يخفف آلام المفاصل والعضلات ويُحسن الدورة الدموية، وفى البحر الأحمر، تأتى مدينة سفاجا فى المقدمة بفضل مياهها المالحة الغنية بالعناصر المعدنية ونسبة إشعاعها الطبيعى المحدود، ما جعلها من أفضل الأماكن لعلاج الصدفية عالميًا. كما تتميز مناطق مثل الواحات البحرية والفيوم بمناخ جاف وأجواء نقية تساعد مرضى الجهاز التنفسى، إلى جانب البحيرات المالحة مثل بحيرة قارون التى تستغل فى علاج أمراض الجلد. هذا التنوع المناخى والجغرافى يتيح للسائحين الاختيار بين العلاج بالمياه الكبريتية، الدفن فى الرمال الساخنة، أو الاستجمام فى أجواء صحراوية نقية. تطور السياحة العلاجية ودورها فى الاقتصاد المصرى وأوضح : فى العصر الحديث، لم تكتفِ مصر بإرثها الطبيعى والتاريخى، بل طورت بنية تحتية متقدمة لخدمة السياحة العلاجية لتواكب المعايير الدولية. فقد أنشئت منتجعات ومراكز علاجية مزودة بأحدث التجهيزات الطبية فى مناطق مثل الغردقة وسفاجا وسيوة، مع توفير خدمات فندقية راقية وبرامج علاجية تجمع بين الطب الحديث والعلاجات الطبيعية. كما أطلقت الحكومة مبادرات للترويج لهذا القطاع، مستفيدة من الطلب المتزايد عالميًا على السياحة الصحية، خاصة من أوروبا ودول الخليج، وتشير تقديرات وزارة السياحة إلى أن هذا المجال يمكن أن يحقق عائدات بمليارات الجنيهات سنويًا، لما له من قدرة على جذب فئات سياحية تبحث عن الاستجمام والعلاج معًا، ما يدعم الاقتصاد المحلى ويوفر فرص عمل فى قطاعات الضيافة والنقل والخدمات الصحية. وبالإضافة إلى البعد الاقتصادى، تسهم السياحة العلاجية فى تعزيز صورة مصر كوجهة آمنة وصديقة للبيئة، تستثمر مواردها الطبيعية وتاريخها العريق لخدمة صحة الإنسان، مما يجعلها ركيزة استراتيجية فى الاقتصاد المصرى بدخل يتراوح مابين تسع او عشرة مليارات دولار سنويا . ثروات طبيعية من جانبه قال أستاذ الطب الطبيعي بجامعة القاهرة الدكتور هشام الدسوقي ل"البوابة نيوز " : تتميز مصر بثراء طبيعي في مواردها العلاجية، بدءًا من الرمال السوداء في سفاجا الغنية بالمعادن التي تساعد على علاج الأمراض الجلدية والروماتيزمية، وصولًا إلى عيون موسى في سيناء التي ارتبطت بالأساطير والتاريخ وتُعرف بقدرتها على معالجة أمراض الجهاز الهضمي والجلدي. ويؤكد أن مصر تملك أكثر من 1350 موقعًا صالحًا للاستخدام في السياحة العلاجية، وهو رقم لا تمتلكه أي دولة أخرى في المنطقة". هذه الثروة تجعل من مصر سوقًا واعدًا يجمع بين العلاج الطبيعي والسياحة الترفيهية. السياحة العلاجية بين العلم والأسطورة وفى ذات السياق قال الخبير السياحي و عضو غرفة السياحة دكتور محمد البنا ل"البوابة" : ترتبط السياحة العلاجية في مصر بمزيج فريد من العلم الحديث والموروث الشعبي. مثلا واحة سيوة على سبيل المثال ليست مجرد رمال ساخنة للدفن العلاجي، بل تجربة كاملة يعيشها السائح تجمع بين الطبيعة البكر والتراث الأمازيغي الأصيل. ويقول "البنا" : "هناك سياح يأتون خصيصًا من إيطالياوألمانيا للعلاج بالرمال في سيوة، ويعودون سنويًا لأنهم وجدوا نتائج ملموسة". هذا التداخل بين الخبرة العلمية وتجارب السائحين الفعلية يمنح مصر ميزة تنافسية فريدة أمام دول مثل الأردن أو المجر. ساحل البحر الأحمر من جانبها قالت الخبيرة بالسياحة العلاجية بالغردقة سفاجا على ساحل البحر الأحمر دكتورة منى عبد القادر قائلة ل"البوابة " : أصبحت الغردقة وسفاجا مراكز عالمية للعلاج من الصدفية والتهابات المفاصل بفضل رمالها المشبعة بالمعادن وأشعة الشمس الفريدة، ونستقبل سياحًا من ألمانيا وروسيا والتشيك بشكل متكرر، وقد ارتفعت الحجوزات بنسبة 25٪ العام الماضي وتشير إلى أن تزاوج السياحة العلاجية مع الأنشطة البحرية مثل الغوص والرحلات البحرية يمنح السائح تجربة شاملة بين الراحة والاستشفاء والترفيه. سيوة.. الوجهة الأكثر طلبا فى سياق متصل قال أحد أبناء سيوة و المشرف على مراكز الدفن الرملي دكتور إبراهيم فوزي : نستقبل مئات السياح من إسبانيا وفرنسا وكندا، بالإضافة إلى مصريين من مختلف المحافظات، والنتائج غالبًا تكون مذهلة". التجربة في سيوة ليست طبية فقط، بل ثقافية وسياحية، حيث يعيش السائح بين البيوت الطينية التقليدية ويكتشف التراث المحلي الأصيل وفي صيف كل عام، تتحول واحة سيوة إلى نقطة جذب عالمية، حيث يقصدها السياح لدفن أجسادهم في الرمال الساخنة لعلاج أمراض العظام والمفاصل. دور الغرف السياحية والشركات من جانبه أكد عضو غرفة شركات السياحة دكتور أحمد شلبي ل"البوابة نيوز " : أن السياحة العلاجية يمكن أن تضيف أكثر من 10 مليارات دولار للاقتصاد المصري خلال السنوات المقبلة إذا تم استثمارها بشكل منظم . وأوضح أن شركات السياحة بدأت في التعاون مع المستشفيات والمراكز الطبية لإطلاق برامج سياحية علاجية متكاملة تشمل تذاكر الطيران والإقامة وخطط العلاج ، هذا التكامل بين القطاعين الطبي والسياحي يعد أساس لرفع مكانة مصر على الخريطة الدولية للسياحة العلاجية. السائحون وتجارب الاستشفاء قال السائح الإيطالي لورينزو البرتو ل"البوابة " : جربت العلاج في سفاجا ، وكنت أعاني من الصدفية منذ سنوات، وبعد أسبوعين تحسنت حالتي من العلاج بشكل ملحوظ. كما تحدثت السائحة الروسية،كاترينا ساجوفيتش ل"البوابة " : عن تجربتها في عيون موسى بسيناء، انا بالفعل شعرت براحة في بشرتي وحيوية في جسمي لم أشعر بها من قبل . هذه التجارب الحية تمثل أهم أداة تسويق، حيث يتحول السائح إلى سفير لمصر عند عودته إلى بلده. وجهة عالمية فى سياق متصل قال استاذ جراحة العظام بطب قصر العينى دكتور حازم السباعي ل"البوابة نيوز" : تعد مصر من أبرز الوجهات العالمية للسياحة العلاجية بفضل ما تمتلكه من ينابيع كبريتية، ورمال غنية بالعناصر المعدنية، ومناخ جاف دافئ يُساعد فى تخفيف آلام المفاصل وتحسين حركة العظام. مناطق مثل واحة سيوة وسفاجا وحمام فرعون وحمام موسى تشتهر بعلاجات طبيعية معروفة عالميًا، أبرزها الدفن فى الرمال الساخنة الذى يرفع درجة حرارة الجسم فينشّط الدورة الدموية ويزيد من تدفق السوائل حول المفاصل، فيقلل من تيبّسها ويخفف الألم المزمن. كذلك تحتوى العيون الكبريتية على معادن كالكبريت والكالسيوم والمغنيسيوم، وهى عناصر تساعد على تقوية العظام والغضاريف وتحسين مرونة الأنسجة. هذه المقومات تجعل العلاج الطبيعي فى مصر رحلة استجمام وشفاء فى آن واحد، حيث يستفيد المريض من نقاء الجو وأشعة الشمس الخالية من الرطوبة، ما يعزز امتصاص فيتامين «د» الضروري لصحة العظام. وأضاف : فى المقابل، يعتمد العلاج الدوائي التقليدي لأمراض العظام على أدوية مسكنة ومضادات للالتهاب وأحيانًا مكملات الكالسيوم أو أدوية تحفيز بناء العظام، وهى قد تخفف الأعراض سريعًا لكنها لا تخلو من آثار جانبية مثل تهيّج المعدة، ضعف المناعة، أو زيادة احتمالات هشاشة العظام عند الاستخدام الطويل. بينما العلاج الطبيعي فى إطار السياحة العلاجية يركز على تنشيط قدرات الجسم الذاتية على الشفاء وتحفيز تجدد الأنسجة من دون أضرار دوائية، مع نتائج مستدامة خاصة فى حالات الروماتويد، تيبّس المفاصل، وهشاشة العظام المبكرة. وأوضح : ورغم أن الأدوية قد تكون ضرورية فى المراحل الحادة أو بعد العمليات الجراحية، فإن الجمع بين الطب الحديث ووسائل السياحة العلاجية يمنح مرضى العظام برنامجًا متكاملًا يعزز الشفاء ويقلل الاعتماد على العقاقير. وهكذا تتحول مصر إلى نموذج يجمع بين سحر الطبيعة والتقدم الطبى، ما يفتح آفاقًا واسعة لمرضى العظام الباحثين عن علاج فعال وآمن بعيدًا عن الأعراض الجانبية للأدوية. زيادة الإقبال من جانبها قالت خبيرة اقتصاديات السياحة الدكتورة ياسمين الجوهري ل"البوابة نيوز" : بحسب بيانات وزارة السياحة المصرية، بلغ عدد السياح الذين قصدوا مصر لأغراض السياحة العلاجية عام 2024 أكثر من 350 ألف سائح من مختلف الجنسيات، بينهم ألمان وروس وتشيك وعرب من الخليج، و أوضحت أن : هذا الرقم مرشح للزيادة بنسبة 40٪ خلال السنوات الثلاث القادمة، خاصة مع التوسع في الترويج الخارجي ، وأضافت أن نصيب مصر من سوق السياحة العلاجية العالمي لا يتجاوز 3٪، ما يعني أن هناك فرصة هائلة للنمو. أهمية السياحة العلاجية للاقتصاد و قال خبير العلاقات العامة السياحية دكتور خالد بدران ل"البوابة نيوز" : لا تقتصر أهمية السياحة العلاجية على العائد المباشر من إنفاق السائح، بل تمتد لتشمل تشغيل الفنادق، وزيادة الطلب على المنتجات المحلية، وخلق فرص عمل في المناطق النائية مثل سيوة وسفاجا، ويقول: "السائح العلاجي ينفق ضعف السائح العادي، لأنه يقيم لفترة أطول ويحتاج إلى خدمات خاصة، هذا النمط السياحي يفتح الباب أمام استثمارات جديدة في البنية التحتية الطبية والفندقية، ما يعزز مكانة مصر كوجهة متكاملة. التحديات والحلول فى سياق متصل قال استشاري التسويق السياحي الدكتور محمود العشماوي ل"البوابة نيوز " : رغم هذه النجاحات، تواجه السياحة العلاجية تحديات مثل نقص التسويق الخارجي، وضعف البنية التحتية في بعض المواقع، وإقترح : إنشاء هيئة مستقلة للسياحة العلاجية تضع استراتيجية واضحة للترويج، مع ربطها بالقطاع الصحي، كما شدد على ضرورة إشراك القطاع الخاص في بناء منتجعات متخصصة توفر للزوار خدمات طبية وسياحية متكاملة، بما يتماشى مع المعايير العالمية . مقومات طبيعية أثبتت مصر أنها تملك من المقومات الطبيعية والإنسانية ما يجعلها وجهة عالمية للسياحة العلاجية، من رمال سيوة إلى شواطئ البحر الأحمر وينابيع سيناء. ومع التوسع في الترويج، والاستثمار في البنية التحتية، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، يمكن لهذا القطاع أن يتحول إلى أحد أعمدة الاقتصاد الوطني. تجربة السائحين الذين وجدوا الشفاء فوق أرض مصر ستظل أفضل شهادة على قدرة هذا البلد العريق على الجمع بين الحضارة والشفاء في آن واحد .