في مشهد يكشف هشاشة النظام القضائي الدولي أمام ضغوط القوى الكبرى، تفجّرت أزمة جديدة بين الولاياتالمتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، بعد إعلان إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب فرض عقوبات على أربعة من قضاة المحكمة. هذا التصعيد غير المسبوق جاء عقب إصدار المحكمة مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، مما اعتُبر ضربة مباشرة لهيبة الحلفاء التقليديين لواشنطن، وفي مقدمتهم إسرائيل. استهداف استقلال المحكمة فرضت وزارة الخارجية الأميركية، في بيان صدر في يونيو 2025، عقوبات على القضاة الأربعة: سولومي بالونجي بوسا (أوغندا)، ولوز ديل كارمن إيبانيز كارانزا (بيرو)، ورين أديلايد صوفي ألابيني جانسو (بنين)، وبيتي هوهلر (سلوفينيا). وأوضح البيان أن هؤلاء القضاة "شاركوا بشكل فعال في أعمال غير مشروعة تستهدف الولاياتالمتحدة وحليفتها إسرائيل"، في إشارة إلى دورهم في قرارات المحكمة ضد المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين. وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو اتهم المحكمة بأنها "مسيسة"، مدعياً أنها "تدعي زوراً امتلاكها سلطة التحقيق ومحاكمة المواطنين الأميركيين وحلفائهم". هذا الموقف يعكس رفضاً أميركياً طويل الأمد لاختصاص المحكمة، خاصة في قضايا تمس القوات الأميركية أو القيادات الإسرائيلية. المحكمة ترد: محاولة لتقويض استقلال السلطة القضائية الدولية ردّت المحكمة الجنائية الدولية ببيان حازم وصريح، وصفت فيه العقوبات بأنها "محاولة واضحة لتقويض استقلال مؤسسة قضائية دولية". وأكدت التزامها بمتابعة عملها دون توقف، مشددة على دعمها الكامل لقضاتها واستقلالهم. هذه ليست المرة الأولى التي تدخل فيها المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة مباشرة مع واشنطن، لكنها تُعد من المرات النادرة التي تُتخذ فيها خطوات عقابية علنية بهذا المستوى ضد شخصيات قضائية، مما يعكس حجم التوتر السياسي المرتبط بالتحقيقات الجارية في ملفات حساسة. الدعم الأوروبي: جبهة مضادة لحماية العدالة الدولية في المقابل، سارع الاتحاد الأوروبي لتأكيد دعمه للمحكمة. فقد وصف رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا المحكمة بأنها "حجر زاوية في نظام العدالة الدولية"، مشدداً على ضرورة حماية استقلالها ونزاهتها، في مواجهة ما وصفه ب"محاولات تقويض سيادة القانون". بدورها، أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين دعم المفوضية الكامل للمحكمة ومسؤوليها، مشيرة إلى أن المحكمة "تحاسب مرتكبي أخطر الجرائم في العالم وتمنح الضحايا صوتاً". وأضافت: "يجب أن تكون المحكمة حرة في أداء مهامها دون ضغوط سياسية". جذور الأزمة.. مذكرات توقيف بحق نتنياهو وجالانت تعود جذور الأزمة إلى نوفمبر 2024، عندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، بتهم تشمل ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من ضمنها "التجويع كوسيلة حرب" و"القتل والاضطهاد". واستندت المحكمة في قرارها إلى الوقائع التي جرت منذ 8 أكتوبر 2023 في قطاع غزة، خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية الواسعة التي تلت هجمات حركة حماس في السابع من أكتوبر. وبحسب ملف الادعاء، فقد تسببت العمليات الإسرائيلية في مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وتشريد مئات الآلاف، وتدمير واسع للبنية التحتية المدنية في القطاع. ورغم تصنيف مذكرات التوقيف على أنها "سرية"، قررت المحكمة نشر بعض تفاصيلها "لأن السلوك الذي تتناوله لا يزال مستمراً"، ولأن من "مصلحة الضحايا وعائلاتهم معرفة بوجود الأوامر القضائية". أبعاد الأزمة تكشف هذه الأزمة عن التناقض البنيوي في النظام القضائي الدولي: فمن جهة، يُفترض أن المحكمة الجنائية الدولية تعمل بمعزل عن الحسابات السياسية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الكبرى؛ ومن جهة أخرى، تصطدم هذه المبادئ عند التطبيق بحصانات القوة والنفوذ السياسي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بدول مثل الولاياتالمتحدة أو إسرائيل، التي لم تُصدّق على نظام روما الأساسي. تُظهر العقوبات الأميركية تصعيداً سياسياً خطيراً يهدد مصداقية المحكمة، ويفتح الباب أمام سابقة خطيرة يمكن أن تقوّض فعالية العدالة الدولية إذا ما قررت دول أخرى السير في النهج ذاته. وفي المقابل، يبدو أن الاتحاد الأوروبي يسعى لتشكيل جبهة داعمة للمحكمة، لإعادة التوازن في ساحة تتأرجح بين قوة القانون وقانون القوة.